القاهرة 08 اغسطس 2017 الساعة 12:41 م
كنت عند اختطافي أطول من سنِّي، ولكني توقفت عن النمو بعد ذلك؛ ومن ثم، لم يزِد طولي عن المعتاد، متوقفًا عند حوالي مائة وستين سنتيمترًا. لا أخفي عليكم، لم أعد بهذا الطول. فالاتكاء على رجلي اليمنى يشعرني بالراحة، مما يجعلني مقوسة دائمًا جهة اليمين. أظافر قدميَّ مصفرة وصلبة وسميكة ويصعب تشذيبها. في هذه الأيام، لم تعد أصابعي تستوي على الأرض، وإنما ترتفع عنها قليلاً. لا بأس، طالما لديَّ حذاء، وطالما ليس من المفترض أن أجري، ولا حتى أن أمشي مسافة طويلة.
أحب دائمًا أن أحتفظ بأشيائي المفضلة بالقرب من سريري. من هذه الأشياء، وعاء زجاجي أزرق به كريم للبشرة. أستعمله كل ليلة في تدليك المناطق المتغضنة من بشرتي عند الكوعين والركبتين. كأن هذا الكريم الأبيض معجون سحري يهمس لي: "استعمليني دائمًا.. وسأزيد في عمركِ أنتِ وتجاعيدكِ يومًا آخر أو يومين."
لم يعد في جسمي ما أفخر به إلا يداي؛ هما الدليل الوحيد الباقي على جمالي الغابر. الأصابع مسحوبة، والبشرة، رغم كل شيء، ملساء وداكنة، والأظافر ما زالت وردية ومستديرة. يداي رائعتان. كم تغريانني بتحسس الأشياء! أعشق ملامسة الأشجار، مداعبة شعور الأطفال، وكم أتمنى أن أستخدمهما، قبل أن أموت، في استكشاف تضاريس جسد نابض بالرجولة. ولكن لا الجسد الذكوري، ولا الخمر، ولا الحساء المتبل بالفلفل، والذي ما زالت نكهته عالقة بذاكرتي منذ انتزاعي من قريتي، بل لا شيء في الدنيا كلها من الممكن أن يعادل بهجتي بحفيد يغط في نومه وهو راقد إلى جواري في الفراش، بينما يهتز كياني طربًا لوقع أنفاسه في مسمعي. أستيقظ أحيانًا وتباشير الصبح تغمر غرفتي الصغيرة. وبصرف النظر عن رغبتي في استعمال المبولة القابعة تحت سريري، ورغبتي في احتساء كوب من الشاي المُحلَّى بالعسل، أجدني لا أرغب في شيء سوى أن أستلقي على ظهري في فراشي الوثير وبين أحضاني رضيع، بينما أصغي لثغائه وهو يعلو ويخفت، وأشعر بسحر يده الصغيرة وهي تحط بعفوية على كتفي تارة، وفوق وجهي تارة أخرى.
هذه الأيام، يمدني بحاجتي من الغذاء هؤلاء الرجال الطامحون إلى القضاء على تجارة العبيد. أعطوني من الكساء ما يكفيني قسوة البرد في لندن. لديَّ سرير أفضل من كل ما أتيح لي من الأسِرَّة منذ أيام طفولتي الأولى، عندما كان أبواي يجعلانني أكدس بقدر ما أستطيع من الحشائش الندية تحت حصيرتي. أن ينزاح عن كاهلك عبء المأكل والملبس والمأوى، لهو أمر، في الحقيقة، لا يحدث إلا نادرًا. ماذا يفعل المرء عندما يجد نفسه غير منشغل بأمر بقائه؟ حسنًا، هناك قضية مناهضة الرق؛ تلك القضية التي تستهلك وقتي، وتستنفد طاقتي إلى أقصى حد. ما زلت أفزع أحيانًا عندما أجدني محاطة ببعض الرجال البيض الضخام. عندما يتزاحمون حولي ليلقوا عليَّ بأسألتهم، أتذكر الخاتم الحديدي الملتهب وهو يغوص في ثديي، بينما يتصاعد الدخان حاملاً رائحة الشواء.
من حسن الحظ أن اللقاءات العامة لا تلتهم الوقت كله، وإنما تترك لي وقتًا للقراءة التي أدمنها كما يدمن بعض الناس شرب الخمر، أو التدخين. وكذلك تدع لي فرصة للكتابة. لديَّ سيرة أحكيها، حكاية العفاريت الخاصة بي، ثم أي مغزًى سيكون لحياتي لو أنني لم أنتهز هذه الفرصة لأقص ما عندي؟ يدي تتشنج بعد برهة، وعندما أجلس إلى المنضدة وقتًا طويلاً، أشعر أحيانًا بآلام في الظهر أو الرقبة، غير أن مهنة الكتابة هذه لا تتطلب الكثير. إنني، رغم شيخوختي، أؤديها بسهولة بالغة.
دعوني أبدأ بتحذير أي شخص، وكل شخص يعثر على هذه الصفحات.
لا تثق في المسطحات المائية الكبيرة، ولا تعبرها. إذا كنت، عزيزي القارئ، ذا بشرة إفريقية سمراء، ووجدت نفسك مسوقًا باتجاه الماء الذي يبدو ممتدًا أمامك بلا نهاية، اقتنص حريتك بأية وسيلة تجدها ضرورية. وارْتَبْ في اللون الوردي. إنه لون البراءة، لون الطفولة، ولكن إذا ما رأيتَه يتألق في الماء والشمس تسفح حمرتها مُوَدِّعةً، فلا تغرنك روعة المشهد. إن تحتك تمامًا، تقبع مقبرة لا قرار لها، حافلة بجثث الأطفال والنساء والرجال. يقشعر بدني فزعًا كلما تخيلت الأفارقة مبعثرين على القاع السحيق، بينما تدحرجهم تيارات المياه في الجهات جميعًا. كلما ركبت البحر، أشعر وكأنني أتزحلق فوق الجثث العارية.
بعض الناس يرون في الغروب جمالاً لا مثيل له، وبرهانًا دامغًا على وجود الله. ولكن أية قوة طيبة كان بإمكانها أن تغوي الروح البشرية باختيار اللون الوردي لتنير مسار سفينة مكتظة بالعبيد؟ لا تنخدع ببهاء اللون، ولا تستسلم لإغوائه.
ما أن قابلت الملك وحكيت له حكايتي، قلت إن رغبتي هي أن أُدفَن هنا تحديدًا، في تراب لندن. إفريقيا هي وطني. ولكني، أعزك الله، هاجرت مرات تكفي لخمسة أعمار، ولا حاجة بي إلى اغتراب جديد.