القاهرة 08 اغسطس 2017 الساعة 11:47 ص
بقلم :مختار سعيد شحاتة
ارتبطت ثقافة العرب بشكل عام بحركات الترجمة التي يمكن تتبعها على مدار تاريخ الحضارة العربية، فلا تخلو فترات النهوض العربي من تزامن نشط لحركة الترجمة من وإلى العربية، وربما كان البعض في ذلك في بعض الفترات مشحونًا في لاوعيه بمقال "من تعلّم لغة قوم أمن شرهم"، والحقيقة أن حركة الترجمة على مدار التاريخ لها أيادٍ بيضاء لا يمكن إنكارها على الحضارة العربية، وهو ما يجعل بعض الأسماء تبدو كعلامات بارزة في تاريخ الثقافة العربية بشكل عام، كابن المقفع وغيره.
إشكالية الترجمة:
وتثير الترجمة –بشكل عام- إشكالية هامة حول دور المترجم في نقل النص الأصلي، وتلك الأسئلة حول دور المترجم حيال النصّ، وهل يجب عليه أن يظل على الحياد تجاه متن النص موضوع الترجمة، وأن عليه أن ينسى نفسه إبان الترجمة ضمانًا لما يُسمى روح النص الأصلي، أم أن له الحق في التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر والتعامل مع النص بما يراه أو تقضيه ملابسات الترجمة وظروفها المكانية والسياسية والعرقية والثقافية وغيرها من الأمور التي يراها المترجم –في بعض الحالات- ضرورة لا بُدّ من وضعها في الاعتبار أثناء الترجمة، حتى ولو انتهى الأمر إلى اختفاء تلك الروح الأصلية للنص، بل والانحراف في بعض الأحيان عن سياقه الأصلي وروحه تلك، وإنتاج ما يمكن اعتباره نصًّا موازيًا للنص الأصلي، يجعل البعض يُفاضل في الترجمات المختلفة للعمل الواحد. ولتأكيد ذلك فقط كل ما عليك هو أن تقرأ نصًا واحدًا بترجمتين مختلفتين بنفس اللغة لمترجمين مختلفين، مثلاً خذ مثالاً من ترجمات "الشوام"، وقارنها بترجمات أخرى مصرية، أو مغاربية، لنفس النص، وستجد اختلافًا عظيمًا وفارقًا بين الترجمات تلك، بل إنه في بعض الحالات يُعزى إلى تلك الترجمة فضل الانتشار للعمل بلغة المترجم أو إهمالها والهجوم عليها. فهل يؤثر المترجم على النص إلى تلك الدرجة؟
الترجمةكنص إبداعي موازٍ:
الحقيقة أننا قليلاً ما نستمع أو نقرأ رأي صاحب العمل في تلك الترجمات، بل ربما لم يسمع بها صاحب النص الأصلي بالأساس وذلك شجن آخر ليس محل نقاشه الآن، لكن لا شكّ أن المترجم له ذلك الدور شاء بعمد أو لم يتعمد، إذ يصبح النص المترجم في حدّ ذاته نصًّا إبداعيًا خاصًا بمترجمه بدرجة كبيرة، يحتاج فيها إلى تلك الموهبة التي لا تقل بشكل ما عن موهبة صاحب النص الأصلي، وهو ما يفلح فيه مترجم ما ويخفق فيه آخر، فأنت ربما تستمتع
بالترجمة أكثر من النص الأصلي، أو العكس إذ تعاف الترجمة مقارنة بالنص الأصلي.
ربما ما زالت الترجمة العربية في واقعها الآني تعاني إشكالية ما تتعلق ليس فقط بما نسميه "فلسفة الترجمة"، وإنما تتعلق بإشكالية أسبق هي إشكالية لسانية أبستمولوجية في تلك الفلسفة المتعلقة بالترجمة، والتي تحصرها في "كلاشيهات" وتقارير مكتبية ومؤتمراتية دون أن تُدرك عن تلك العلاقة بين النص الأصلي في لغتة باعتباره آخر وبين المترجم ذاته ومعرفته ومعارفه عن النص وبيئته، وأن ثمة علاقة واجبة ومؤسسة بيننا وبين ذلك الآخر المُترجم عنه، وعن تلك المقاربة والعلاقة مع ذلك الآخر، والتي لها مقاربات تعتمد على مفهوم التواصل وترتبط بالبلاغة واللغة في حقيقتها إلى جانب الترجمة وعلاقتها بالنص في ضوء ذلك التواصل.
تواضع حركة الترجمة:
تنطلق بين الحين والحين مبادرات أو مؤتمرات خاصة بالترجمة، وتنهض همم مؤسسات ثقافية وتنويرية في العالم العربي حتى نظن أن عالم الترجمات بخير، لكن الحقيقة صادمة إذ لا تتجاوز مجموع الترجمات في العالم العربي أصابع اليد الواحدة بالألف ( ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف) وهو عدد هزيل للغاية مقارنة بحركة الترجمة الغربية التي تتجاوز عشرات الآلاف، ولعل أهم الأسباب في ذلك هو قلة عدد المترجمين الحقيقيين، وما تثيره الترجمة من الإشكاليات، بما يجعل حركة الترجمة ليست واحدة من أولويات المشهد الثقافي، وذلك لا ينفي جهود بعض الجهات لأجل تقديم ما يمكنها قدر طاقتها المالية من ترجمات مختلفة، إلا أن غالبها يقتصر على أسماء بعينها وعلى كُتب بذاتها في بعض الأحيان.
جيل المبدعين المترجمين الجديد:
الحقيقة أن ثمة جيل جديد شاب ومبدع من المترجمين يبدو أنه يستعد لحمل الراية في السنوات الأخيرة، بل وينفتح المجال أمام بعض المبدعين بتقديم ترجماتهم لبعض النصوص من خلال ترجمات واعدة، تستحق الانتباه، ولعل المركز القومي للترجمة والهيئة المصرية العامة للكتاب في الأعوام الثلاثة الأخيرة قدمت لنا بعض الأسماء الجديدة الشابة مثل "خالد رؤوف" –للترجمة المباشرة من اليونانية- وعمرو خيري... وغيرهما ممن يقدم تجربة تستحق الانتباه لها بترجماتهم المحترمة.
أنت قلت.. ترجمة لمياء المقدم، مثالاً:
سنضرب مثلاً آخر لهذه الترجمات قدمته لنا الهيئة المصرية العامة للكتاب، حين فتحت الباب لترجمات الأشقاء العرب من غير المصريين للنشر عبر ترجماتها، وهنا أسوق المثل لا للحصر وإنما لما يخدم فكرة المقال الأساسية عن إشكاليات الترجمة والنص المترجم، وذلك بالترجمة الرائقة التي قدمتها الشاعرة "لمياء المقدم" لرواية "أنت قلت..." لصاحبتها كوني بالمن، والتي رصدت لنا علاقة الشاعر الإنجليزي تيد هيوز مع زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفا بلاث، عبر تاريخ مثير من الذكريات التي يرويها الشاعر والتي انتهت بانتحار الزوجة، عبر تلك العلاقة التراجيدية مع زوجته.
ماذا فعلت لمياء المقدم هنا؟ هل كانت محايدة قدر الإمكان؟ وهل التزمت كلاشيه أمانة النقل من النص الأصلي؟ أم أن لمياء –الشاعرة الموهوبة- سمحت لنفسها بالتدخل في النص ولغته؟
دعني أحاول تقريب الإجابة بما رأيته في معرض القاهرة الدولي في دورته الأخيرة يناير 2017، والتي حضرت لمياء المقدم بصحبة كوني بالمن إلى القاهرة، وكأن هذا الحضور هو صك امتياز للترجمة تمنحه المؤلفة وصاحبة النص الأصلي للمترجمة، حتى ولو لم تكن تعرف بالعربية، وقامت لمياء طوال الوقت بالترجمة لها، إلا أن ذلك لا يجيب عن السؤال هل تدخلت لغة لمياء المقدم –كشاعرة- في لغة الترجمة للنص الأصلي؟
في هذه الترجمة يبدو أن الشاعرة لمياء المقدم تعود بنا إلى روعة ما يمكن أن يقدمه المترجم متى كان مبدعًا بالأساس قبل أن يشتغل بالترجمة، فتعيدنا إلى ما كانت تفعله ترجمات بهاء طاهر ورفعت سلام في بعضها، إذ تأتي الترجمة رائقة جدًا وممتعة بامتياز، وهو أمر أظن جيل المترجمين الجدد تشاركوا فيه مع لمياء المقدم مثل المثال في ترجمات "خالد رؤوف" عن اليونانية، فهو بالأساس قبل الترجمة شاعر ومسرحي وفنان. وتأكيدًا لهذه الفكرة فجائزة الدولة التشجيعية في الترجمة والتي نالها الشاعر "عبد الرحيم يوسف" تؤكد أن المبدع متى تصدى للترجمات الأدبية، فإن ذلك يصبح في ميزان النص المترجم باقتدار وامتياز.
إشارة لا بُدّ منها:
قبل أن نختم المقال، علينا أن ننتبه إلى ملاحظة هامة، وأظنها تمت إثارتها في واحدة من الجلسات التي كانت قبل عامين وعلى هامش فاعليات مهرجان طنطا الدولي للشعر في دورته الأولى، حيث عقدت مكتبة الإسكندرية جلسة مائدة مستديرة حول الترجمة حضرها الشاعر والمترجم "رفعت سلام"، والدكتورة "هويدا صالح" والدكتور "محمود الضبع" وغيرهم، وهي أن حركة الترجمة ما زالت تقدم لنا كتابات انتهت منذ خمسين عامًا، وقليل جدًا ما تقدم لنا ترجمات لكتابات آنية ومعاصرة، وهي حقيقة علينا الاعتراف بها، فنحن لا نعرف الكثير عن أدب أمريكا اللاتينية الآني مثلاً ولا عن الأدب الروسي الحالي بالشكل الذي يجعلنا على تماس مع الحركة العالمية المعاصرة. ربما يجدر بذلك الجيل القادم من هؤلاء المترجمين المبدعين أن ينتبهوا إلى تلك النقطة، والتي لا تنتبه لها إلا محاولات فردية على استيحاء، ساعد فيها تلك الموجة القرائية بلغات غير عربية لجيل جديد تعدى حدود اللغة عبر هذا الفضاء الواسع السبراني، لتتجه قراءاته الآن نحو أجيالهم المعاصرة ضمانًا لتحصيل المعرفة الحقيقية وتخطيّا لحاجز إشكالية الترجمة، لكن وللأسف ذلك مقصور على طبقة بعينها قليلة جدًا مقارنة بالمساحة الأعرض لمن يقرأ باللغة العربية.
هذه مسئولية ألقيها على هؤلاء – لمياء وخالد وعمرو وعبد الرحيم- الذين ذكرتهم كأمثلة باعتبارهم من أبناء جيلي، وكواحد من جمهور القراء الذين أمتعتهم ترجماتهم تلك، والمسئولية لا يُعفى منها كل القائمين على حركة الترجمة في مصر في مؤسساتها العامة والخاصة.