القاهرة 01 اغسطس 2017 الساعة 09:35 ص
بقلم:مصطفى عطية جمعة
شكّل عرض فيلم " الأصليين " ( صيف 2017م ) مفاجأة للمتفرج ، الذي سارع بشراء بطاقة عندما رأى اسم المخرج " مروان حامد " الذي استهل حياته العملية بفن عملاق وهو " عمارة يعقوبيان " ( 2006م ) ، ثم تتابعت أفلامه وأبرزها : إبراهيم الأبيض ( 2009 ) ،و 18 يوم ( 2011 ) ، والفيل الأزرق ( 2014م ) ، وقد تميز في كل ما قدّم بمستوى عال من الإخراج ، والقدرة على تكوين بنية جمالية مبهرة ، مع براعة في إدارة الكاميرا بزوايا وكادرات جديدة ، ضمن قراءته الفنية للنص السينمائي ، بحيث يمكن للمتفرج الربط بدقة بين اللغة السينمائية وحركة الشخصيات وصراعاتها في النص ، وبعبارة أخرى : إنه يملك القدرة على تقديم سرد مشوق ماتع ، مع نص جيد السبك والحبكة ، ببلاغة سينمائية فريدة .
وهذا ما تحقق في فيلم " الأصليين " ، وجعل المتفرج متلهفا منذ الدقائق الأولى على متابعة أحداث الفيلم ، والذي تميز بأداء تمثيلي عالي المستوى لأبطاله ، مع تفنن في حركية الكاميرا ، بما جعل المتلقي مدركا لحركة الشخصيات وانفعالاتها، فتارة تكون الزاوية أفقية جانبية ، فنرى تعبيرات الوجه ، وردود الفعل ، وتارة تأتي الزاوية من أعلى ، لنشاهد الشخصيات من علٍ في الفضاء المكاني .
يبدأ الفيلم مع البطل " سمير " ( ماجد الكدواني ) ، الموظف في بنك خاص كبير، بوصفه مديرا للاستثمارات فيه منذ خمسة عشر عاما ، ونعلم في سياق الفيلم أن والده كان يعمل في البنك أيضا ، فهو يعيش عيشة مرفهة : شقة فخمة ، وسيارة حديثة ، وزوجة جميلة تعشق التسوق ، وابن وابنة في سن المراهقة ، يعيشان حياة العولمة بكل أبعادها : عكوف على الهاتف المحمول ، الاعتماد على وجبات المطاعم ، ارتداء الثياب الشبابية ، والتحدث بمفردات العصر .
تأتي المفارقة عندما يتفاجأ سمير بفصله من البنك ، وتعيين موظفة شابة أنيقة مكانه ، ثم يكتشف أن رصيد حسابه صفرا ، بعدما خصم البنك قسط الشاليه الذي اشتراه عن طريقه ، فعاد حائرا يائسا ، لا يدري ما يفعله ، وقد أخفى عن أسرته ما حدث ، وإن كان تحاور مع أمه في ذلك ، فنصحته أن يذهب لأرض اشتراها والده في الواحات ويستثمرها ، ولكنه رفض ، وراح يبحث عن عمل في بنك آخر دون جدوى .
إن شخصية " سمير " نموذج للتكنوقراطي ، الأسري ، التقليدي ، الذي ليس له اهتمامات سياسية ولا فكرية ، وهذا يسبب تعجبنا ، عندما تظهر شخصية " رشدي أباظة " التي يؤديها " خالد الصاوي " ، ونعرف أنه قد تجسس على سمير وعرف كل خصائصه ، ويعرض عليه العمل معهم في منظمتهم المسماة الأصليين ، والتي لا نعرف كنهها ولا رسالتها ولا أهدافها ، وإنما رأيناها في أجواء أقرب إلى المنظمات السرية في العالم ، اللهم إلا اسم" بهية " الذي يدقّه رشدي وشما على كتف سمير، في أحد الاحتفالات الشعبية المسيحية ، وبعدما غضب من تصرف لسمير .
إن سؤال الماهية يظل عالقا ، إلى نهاية الفيلم ، ومعه الجهل بأسباب اختيار شخصية سمير ليعمل مع " الأصليين " في مراقبة الناس ، من خلال التوظيف في شركة كبرى لخدمات الهاتف المحمول ، ليعرف أدق خصوصياتهم، وقد كلفه "رشدي أباظة " بمراقبة سيدة بعينها وهي " ثريا جلال "، المتخصصة في التاريخ الفرعوني ، فيتتبعها ليعرف أنها تقيم علافة غرامية مع فنان تشكيلي ، وتتاجر أيضا في الآثار ، وتحاضر في دار سينما كبيرة عن الحضارة الفرعونية ، وأهمية دراسة أمجادها ورموزها . وهو ما يعطينا صورة متناقضة ، عن هذه المرأة ، فهي متحمسة إلى النخاع ومتمسكة بالفرعونية ، وتمارس علاقة حب مع فنان زير نساء، وتكون سببا في تحول " سمير " لكي يذهب إلى الواحات ويستثمر في أرض والده، وهو ما عرفناه في نهاية الفيلم ، وقد أخبرنا أنه طلّق أيضا زوجته .
غداة قبول " سمير " للعمل مراقبا في شركة الاتصالات ، نعيش معه قوقعة الشاشات الفضية العملاقة المحيطة بجدران غرفته الزجاجية ، حيث يستطيع اقتحام أي خصوصية أي شخص ، فقط تكفيه كتابة اسمه ، للوصول إلى هواتفه وحاسوبه ومعرفة خباياه ، وأحواله في عريه ونومه وطعامه وخصوصياته مع زوجته .
ويكتشف " سمير " فيما يكتشف أن ابنته لها علاقة مع شاب ، وأن ابنه له علاقة مع فتيات ، وأن زوجته نفسها تبوح لطبيبها بمشاكلها الأسرية ، بعدما عرفت أن " سمير " تم فصله من البنك ، ولا تعرف ماهية عمله الجديد .
ينتهي الفيلم ، وتتبقى الأسئلة الحائرة ، التي لم يستطع كاتب السيناريو " أحمد مراد " - في تجربته الأولى في كتابة السيناريو - الإجابة عنها ، وهو الروائي المشهور بإنجاز روايات ذات طابع غرائبي بوليسي ، وجدت انتشارا لدى القراء ، وهو ما فشل فيه في فيلمه الأول ، فالفيلم السينمائي يتأسس في النهاية على نص ، لابد أن يكون محكما في بنائه ، واضحا في مضمونه ، ولا نقصد بالوضوح هنا المباشرة والتقريرية ، ولكن أن تكون الحبكة جيدة ، والسبك متماسكا ، والأحداث مترابطة ، والشخصيات مقنعة في تحولاتها .
وما وجدناه في الفيلم غير هذا ، فالقصة في مبناها ومعناها غير منطقية ، فلم نعلم مثلا لماذا طلق سمير زوجته ، وهي لم تخنه بالمعنى وإنما كان بوحا فقط مع طبيبها ، علما بأنه رجل أسري بامتياز. ولم نعلم كذلك ، أسباب تحوله للاستثمار في أرض الواحات وجعلها مزرعة طبيعية ، بدون استخدام الكيماويات الصناعية ، وتحويلها لمزار سياحي لأفواج من أوروبا والعالم . وهل هذا كان برضا من جماعة "الأصليين " التي لديها إمكانات هائلة تشابه ما يقال عن منظمات اليهود؟
أيضا ، هناك مواقف وأحداث كثيرة لا نجد لها علاقة أو توظيفا في الأحداث أو الشخصية المقدمة لنا ، ولعل أبرزها حلم اليقظة والمنام المتكرر لسمير ، حيث يخرج في برنامج مسابقات للغناء ، على نحو مشابه لبرنامج المواهب في القنوات الخليجية ، ويتكرر الحلم ، ولا نجد أدنى رابط له ، فسمير ليس مغنيا ، ولا يحلم أن يكون فنانا ، ولا يرغب في الشهرة ، مما جعل تلك المشاهد عبئا على الفيلم .
أيضا ، نجد " سمير " من هواة شراء الجرائد القديمة ، وما يتوافر من أعدادها الأصلية ، ويدفع في ذلك مبالغ كبيرة للوسطاء . وقد خصص حجرة في منزله لحفظ هذه الجرائد . وشخصية " سمير " غير مهتمة بالثقافة أو الفكر أو السياسة أصلا حسبما رأينا في أحداث الفيلم ، ولم يستفد من أرشيفه في شيء ، اللهم في الكشف عن حكاية ياسين وبهية كما وردت في الجرائد القديمة ، والتي تحولت لأسطورة شعبية غنائية ، تتناقلها الألسن ، وتحفظها الصدور .
والأمر نفسه مع الرمز " بهية " ، الذي يعبر عن الانتماء الحقيقي لمصر الشعب والريف والكفاح ضد المحتل والتغني بالبطولات . لم ندرك طبيعة الرمز ، وهل جماعة " الأصليين " جماعة مصرية خالصة أو هي عميلة لجهة ما ؟
كل هذه الأسئلة وغيرها ، أوجدت حيرة عند المتفرج ، الذي يخرج غير واع ، وغير مخدوع أيضا بالإبهار التقني والإخراجي ، وروعة أداء الممثلين ، فعندما يغيب النص ، وتظل أسئلة عالقة في نفوسنا ؛ فكل ما سبق من جماليات شكلية لا قيمة لها ، ويظل الانطباع سلبيا محيرا عن الفيلم .
بلا شك ، هناك أقلام كثيرة كتبت عن الفيلم بإيجابية ، فجاءت كلماتها مجاملة، على اعتبار أن نهاية الفيلم ورسالته المجملة تنتصر لمصر الوطن والتاريخ والحضارة والشعب ، فالبطل الرئيسي عمّر الصحراء ، واختار حياة غير تقليدية بعيدا عن المدينة ، وصار ناجحا ، خادما لبلده ، محبا لبهية الرمز ، مفتخرا ومعتزا بتاريخه الفرعوني المجيد الذي حاضرت عنه البطلة تاجرة الآثار .
وتلك رؤية سطحية بشكل كبير ، فالعمل الفني كل متكامل ، وبراعة المؤلف / المخرج تكمن في الإجابة عن أسئلة المتلقي ، ومحو الحيرة من أعماقه ، وإن شئنا القول بالاصطلاح الأرسطي ، إحداث التطهير ، والذي نعني به هنا : أن يكون حل العقدة منطقيا مقنعا لذهن المتلقي، وأن تكون الحبكة ذاتها مترابطة ، والأحداث والشخصيات معبرة عنها ، في سبك جيد ومتوازن .
إن السينما فن سردي في المقام الأول ، والسرد حكي ، والحكي أحداث وشخصيات ، صحيح أن هناك عناصر فاعلة ومؤثرة متمثلة في الكاميرا والديكورات وبراعة التصوير والإخراج والموسيقى ، ولكن تظل – وللأسف –فرعية ، عندما تكون هناك فجوات / ثغرات في النص ، لن يستطيع المتلقي ابتلاعها ، بل تكون عونا في الفهم الخطأ / الملغز / الملتبس لرسالة الفيلم .