القاهرة 25 يوليو 2017 الساعة 10:49 ص
بقلم: محمد غباشى
رغم أن أقلاما عديدة قد تناولت سيرة الفنان والإنسان بيتهوفن أكثر من أي موسيقي آخر عاش بوجدان وفكر الشعوب ومجتماعاتها إلا أن سيرة حياته لاتنضب ولا تنتهي مهما تناولت جزءا أو كلا من سيرة حياته أو تحدثنا عن فنه وعبقريته وأعماله الفنية المتعددة في عالم التأليف الموسيقي والإبداع اللحني بدأت حياة عبقري الموسيقي اللحنية عندما ارتبط الأب يوهان فان بيتهوفن بزوجته ماريا ماجدلينا لايم عام 1767بمدينة بون بألمانيا
وقد ارتبطت صورة موتسارت الطفل المعجزة بذهن الأب الذي كان يعمل مغنيا بكنيسة البلدة والذي تمني أن يكون الابن لودفيج هو المعجزة المماثلة لموتسارت فشرع يحاول تهيئته تحقيقا لحلم حياته إلا أن الابن لم يكن بعد مهيأ لتبوأ هذه المكانة كون موهبته أشبه بالزهرة الأصيلة التي تأخذ وقتا طويلا كي تنضج
ورغم نبل الفكرة إلا أن الواقع كان أقسي فقد كانت صورة الطفولة القاسية عندما يتذكرها ودموعه تنساب علي خديه عندما يعود والده آخر الليل مخمورا وبصحبته "توبياس" صديقه الذي كان يعلم البيانو للودفيج فكانا يوقظانه من فراشه الدافيء ويجبرانه علي التمرين حتي الصباح
هي قسوة لاشك فيها دون مراعاة لطفولته ولا صحته ولا أوقات نومه حتي يستقيظ باكرا ليذهب للمدرسة طفلا ناعسا صامتا مذهولا بالإضافة إلي ملابسه الغير مرتبة وشعره الغير مهذب وعدم تفوقه في دراسته
عندما بلغ الحادية عشرة من عمره كان لايتعلم شيئا في حياته إلا الموسيقي وبالرغم من حدة ذكائه وقوة استيعابه لأمور حياتية عديدة إلا أنه لم يتمكن من التأقلم بشكل كامل في محيطه ولم يتفوق في كل مايجيده البشر من علوم ودراسات وعلاقات اجتماعية
عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره حصل علي وظيفة عازف الأرغن المساعد بكنيسة الدوق " فرانز مكسيمليان " وبالإضافة إلي وظيفة عازف الاورغن المساعد فإن وظيفته تضمنت أيضا العمل كعازف للهاريسيكورد بمسرح القصر لتدريب المغنيين علي خشبة المسرح وفي نفس الوقت كان يدرس التأليف الموسيقي بعمق مع أستاذه " نييف" الذي أذاع في كل البقاع خبر الموهبة المعجزة لتلميذه العبقري
بعدها ذهب بيتهوفن إلي فيينا للمرة الأولي في عمر السادسة عشرة بعد أن وصل إلي مستوي نادر في سن مبكرة في عزف البيانو وكتابه عددا لابأس به من الأعمال الموسيقية الجيدة فاختار فيينا بالذات لعرض موهبته الفذة هناك ...وعندما عزف أمام موتسارت لم يتأثر الأخير كثيرا من عزفه لمقطوعات موسيقية معروفة لكنه طار من الذهول عندما بدا بيتهوفن بالارتجال في العزف ويقال أنه استكمل دراسته الموسيقية لمدة شهور علي يدي العظيم موتسارت لكنه عاد فجأه إلي بون لعلمه باشتداد المرض علي أمه التي كانت ترعاه وتحنو عليه وتعطيه من الحب الكثير الذي أفتقده من والده وكان بيتهوفن يتحدث عنها بكل تبجيل واحترام لوقت طويل حتي بعد مماتها وتدهور حالة والده الذي استمر في السكر والعربدة مما أفقده عمله فاستلم بيتهوفن الابن المسئولية الكاملة للعائلة
كون بيتهوفن في هذه الفترة صداقات وأصدقاء عديديين أسماهم ملائكة الرعاية كان أهمها عائلة برونيينج التي كانت تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة إلي جانب الخصوبة الثقافية التي كانت تعيشها مما كانت لها أبلغ الأثر في تكوين فكر بيتهوفن وثقافته في هذه المرحلة بالإضافة إلي الكونت فالدشتين الذي كان يمده بالمعونات المالية دون أن يجرح كرامته
في عام 1792 عاد بيتهوفن مرة أخري إلي فيينا مرة أخري ليواصل تجربته الموسيقية الفذة وليواصل دراسته مع هايدن العظيم بعد رحيل موتسارت عن العالم وهو في عمر الزهور
عام كامل استمر هايدن في تعليم بيتهوفن المتمرد علي كل شيء بحجة أنه لم يحقق شيئا مهما حتي الآن لكن هايدن تحمل نزق موهبة وعبقرية بيتهوفن والتي شفعت له موهبته في مجال التأليف الموسيقي والعزف الخارق للعادة علي البيانو
لقي نجاح بيتهوفن كل التقدير الأدبي والمادي من قبل كل الأسر الأرستقراطية بفيينا والتي احتضنت موهبة هذا العبقري واغرقته بالتكريم وبعروض العزف والتدريس لدرجة أن وقته لم يكن يتسع لقبول عروض جديدة وإن كان يتعامل مع كل هذا التقدير معاملة الند للغير لذا فقد عاش بينهم مرفوع الرأس فعاش أجمل أيام حياته وقتها
لازمته عادة المشي طوال حياته فكانت رياضته البدنية والعقلية علي السواء وفي جيب معطفه كان يحتفظ دائما بورق الموسيقي الذي كان يدون عليه أفكاره الموسيقية أثناء المشي وكثيرا ماكان يتوغل في غابات فيينا ويجلس إلي جوار جذع شجرة ليدون أفكاره لتصبح مسودات فنية هامة كانت مرجعا حقيقيا لأعظم أعماله كما أن دراسته مادونه في تلك الرحلات التي اتسمت بالسير علي الأقدام قد تضمنت أضعاف ماتركه من إرث موسيقي نادر
كان يحن إلي الزواج والاستقرار بعد أن قطع شوطا كبيرا في مياديين الموسيقي والعزف والتعلم والتأليف والذي شعر في أغلب الأحيان بفراغ عاطفي هائل رغم ماحققه من مجد وثراء فكان يتوق للزواج من إحدي الارستقراطيات اللاتي كان ينظرن إليه كعازف للبيانو ذي موهبة فذة وموسيقي عظيم لايباري لكنه لايمكن أن يكون زوجا ارستقراطيا بمعني الكلمة
في عام 1798بدأ بيتهوفن يشعر بالصمم وهي المرحلة الأهم في حياته والتي شكلت ماتبقي من سيرة حياة عبقرية موسيقية فذة لم يأخذ الأمر علي محمل الجد في البداية ظانا أنها تكمله لسلسلة أمراض قد مني بها كضعف المعدة والدوزينتاريا بالإضافة إلي آثار الجدري التي ملئت وجهه منذ الصغر فكتب لصديقه الدكتور " فيجلريبون "
أذني تصفر وتؤلمني بشكل دائم ليل نهار والله وحده يعلم ماذا سيصير إليه مصيري بدأ ينسحب من المجتمعات حتي لايفتضح أمره وقد صرح بهذا في كتاباته قائلا " بالنسبه لي لايوجد ترفيه ولا تسلية في المجتمعات الإنسانية ...ولا أستطيع أن أستمتع بحوار شيق أو أن اتبادل أفكاري وأحاسيسي مع الآخريين ..لامفر من أعيش في منفاي ...ويتعين علي أن أضع نهاية لحياتي ...."
ولا غرو أن يكتب وصيته الشهيرة وقتها والتي تفصح عن أقصي درجات المرارة التي أحس بها مع العذاب النفسي الذي عاش معه وكعادة المبدعيين الملهميين الذين مايتحدوا دائما صراعهم مع آلامهم وعذاباتهم
نهض بيتهوفن بعد لحظات يأسه وصراعه النفسي لقدره وبدلا من الانتحار صارع قدره وأبدع أعظم إنتاجه فكان كلما اشتد عليه الصمم والألم زادت سماعه لأصوات أعتقدها الهيه وهي مادونها في موسيقاه ولذا فقد وصل إلي قمة إبداعاته حين وصل به الصمم والمرض منتهاه وأبدع أروع الأعمال الموسيقية البشرية علي الإطلاق
مر صراعه مع مرضه وآلامه بمراحل متعددة حتي وصل إلي مرحلة السكينة والهدوء بعد أن حقق انتصارا علي قوي الضعف البشري والمرض والعذلة حتي وصل إلي كتابه نشيد السلام الذي دعا فيه إلي قمة الوحدة والحب والإخاء بين البشر
في سيمفونيته الأولي كان كلاسيكيا رشيقا ولم يسمح لآلام أذنيه ولا أحزانه أن تتدخل في تشكيل وجدان اللحن أو مضمونة إلا أن سيمفونيتة الثالثة قد أصبحت مجالا رومانتيكيا خصبا للتعبير الشخصي حيث تدخلت أحاسيسه بغير موضوعية للأعجاب ببطل كان يراه يعمل لخلاص البشرية ومعاداه الملكية المستبدة فأهداها لنابليون بداية وكاد يهم بارسالها إليه في باريس حتي جاءته الأنباء بخيانة نابليون لمبادئه وتنصيب نفسه أمبراطورا
فثار لدي سماعه هذه الأخبار المؤكدة ومزق صفحة الأهداء وكتب مكانها "سيمفونية البطولة ...في ذكري رجل عظيم " تأثر مبدعنا بموقف نابليون الذي خذله كنموذج متفرد فكتب إلي صديقه الأمير ليشنوفسكي
"هذا الرجل مازال يحيا بجسده أما روحه فقد ماتت وبالمناسبة أيها الامير إن مكانتك وإمكانياتك تعود إلي الحظ والوراثة لكني أختلف عنك لأن مجدي ينبع من نفسي ولايوجد سوي بيتهوفن واحد "
جاءت سيمفونيتة الخامسة لتؤكد عبقريته الناضجة والتي صورت رحلة الإنسان من العذاب والمعاناة إلي الحكمة والمعرفة ومن الحكمة إلي الشجاعه والأمل ... ثم إلي الحياة الأبدية الخالدة
وصل بيتهوفن إلي الحد الفاصل الذي أنهي فيه مهنته كعازف تاريخي نادر للبيانو في عام 1808لوصوله لمرحلة متأخرة لصممه بيد أنه واصل عمله كقائد للاوركسترا لتقديم العروض الموسيقية المختلفة لأعماله العظيمة
والتي توجها بالسيمفونية التاسعة والتي قال عنها فاجنر " إننا ننظر إلي هذا العمل كعلامة تاريخية تحدد عهدا جديدا في هذا الفن العالمي فمن خلاله عاش العالم ظاهرة نادرة قلما يجود التاريخ بمثلها في أي زمان ومكان " وقال عنها ناقد آخر " إن الله قد خلق العالم حتي يكتب بيتهوفن سيمفونيته التاسعة "
قسم العديد من النقاد حياة بيتهوفن إلي ثلاث مراحل
المرحلة الأولي
والتي تبدأ من عام 1795 إلي عام 1803 وهي التي اتسمت في أعماله بالطابع الكلاسيكي لهايدن وموتسارت وشهدت هذه الفترة مايقارب الخمسين عملا موسيقيا تضمنت العديد من سوناتات البيانو واهمها " ضوء القمر " و" المؤثرة "والسيمفونيتين الأولي والثانية
المرحلة الثانية
بدأت بعام 1804 حتي 1816
واتسمت بالشاعرية والثورية بنفس الوقت وبشخصيته الرومانتيكية ..كتب خلالها سيمفونيتة الخامسة وأوبرا " فيدليو " وافتتاحيات "كورلويون " و"اجمونت "
المرحلة الثالثة "أو الأخيرة "
والتي شملت العشرة سنوات الأخيرة من حياته وقد تضمنت " السيمفونية التاسعة" و" القداس الكبير " وسوناتاته ورباعياته الوترية الأخيرة
رقد بيتهوفن علي فراش الموت لفترة وجيزة التف حوله الأصدقاء وأخوة يوهان ووقع وصيته في الثالث والعشرين من مارس 1827وفي الرابع والعشرين من مارس وصلته هدية عبارة مجموعة منتقاة من نبيذ الراين فعلق عليها بقوله " وااسفاه لقد وصلت متأخرة "وعلق ساخرا " هللوا أيها الأصدقاء فقد انتهت المهزلة "...وفقد الوعي حتي السادس والعشرين من نفس الشهر ونفس السنة حتي دوي الرعد ولمع البرق في عاصفة عارمة فاستفاق ورفع رأسه وفتح عينيه ........ثم أغمضهما إلي الأبد
شيعته فيينا بكل التبجيل والتكريم وسار خلفه جمهور راق غفير ... كان من حاملي المشاعل خلفه" فرانز شوبرت " الذي لم يلتق به ابدا في حياته .....حتي لحق به بعد عام ودفن علي بعد خطوات منه
ترك بيتهوفن بجانب أعماله الخالدة وصية قال فيها :
" هي وصية الحب والسلام ......ليحتويكم الحب يا ملايين البشر ... هاهي قبلة لكل العالم .. "