القاهرة 18 يوليو 2017 الساعة 11:00 ص
قرقعة عظام، وصرير أسنان، موتى يبتلعون أطفال الروح، دم وجلد مسلوخ لقرابين بشرية، ملائكة تبكي وقطط تموء.
هذا هو الداخل، جذر البشرية التي أنكرته، وحاولت الانقطاع عنه، لكنه مازال يحيا، يُنبت قتلة وضحايا. فمن أنت أيها الإنسان.. قاتل أم ضحية؟
مازالت البشاعات تحتل العالم، مازال القتلة يستشرسون، ومازالت الضحايا تتكاثر، لم تنجنا الأديان ولا التطور البشري ولا القيم التي ابتدعها الإنسان عبر التاريخ، لأننا نخشى الاقتراب من أنفسنا، نخشى فتح البوابات المؤدية إليها.
إننا نعيش كأنصاف بشر، فالضحية لم تر القاتل الذي بداخلها، فاكتفت بكونها ضحية، والقاتل لم ير أطفاله الميتين، قططه الجائعة، فتشبث بكونه قاتلًا.
البؤس يجتاح الاثنين (القاتل والضحية) كي يصنعا عالمًا بائسًا تمامًا.
هذا البؤس الذي ألم بالوجود منذ نشأته، كان هو المحرض الأساسي، لإيجاد منقذ، بطل، يخلص القاتل والضحية معًا، ولكن ياللوهم! فما إن حدث هذا حتى ساقه الأشرار إلى ساحة الإعدام، واقتسم السفهاء رداءه، وجحده الطيبون، لكنه ظل في الأذهان حلمًا، واحتل الواقع النفسي للحالمين بالخلاص، ولأن هذا الخلاص لم يتحقق أبدًا، فقد انسحب إلى الأسطورة، والتي ما زالت تعمل فينا بقوة،.
وليس من الغريب إذن، أن من يعيش تلك الأسطورة ويتمثل البطل المُخلِّص تنتهي حياته بشكل مأساوي، حتى أن كارل جوستاف يونج، العالم النفسي الشهير، نبَّه إلى مصير هذا البطل ، والذي ينتهي بالنكران والخديعة والغدر من قبل الآخرين، وخاصة هؤلاء الذين تم إنقاذهم على يديه. كتب يونج في مقدمة الكتاب الأحمر وهو درة أعماله الإبداعية، تلك الآية من سفر أشعيا: " محتقرٌ فلم نعتد به، لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا، مضروبًا من الله ومذلولًا"
تلك هي الثيمة التي يعيش بها المخلصون، منقذو الإنسانية ولكن ما الذي يدعو الناس دائمًا لفعل ذلك معهم؟ لعلها الضغينة التي تسقط في نفوسهم عبر تلك الشفقة الرثة التي ينظر بها المخلِّص إليهم، لعله الاستعلاء الإلهي الذي يمارسه معهم حين يحمل أوجاعهم، إنه يحتقر إمكانياتهم، يحرمهم من قيامتهم المجيدة والتي لن تأتيهم أبدًا إلا حين يخلِّصون أنفسهم بأنفسهم، إنهم يفعلون به هذا وكأنهم استشعروا عماءه، وكأنهم رأوا الرداءة والخواء في نفسه، وعرفوا أنه يهرب منهما دائمًا في أداءات من التضحية والعطاء لينسى الطريق إلى روحه، لأن الآلام التي يحملها ليست هي روحه كما يظن، إنها عذابات الانفصال عن تلك الروح، متاهة البحث عنها لدى الآخرين، بينما هي المليئة بالسخرية، العارفة بكذبه، بشياطين طموحه لأن يصبح نبيًا، تظل في الماوراء، بعيدة جدًا داخل عتمته.
آه أيها المخلص الطفل! هل تحزر إلى أي عزلة تصعد؟ وبماذا تحدثك روحك حين تُرفع على الصليب؟
- "يا بني.. أنت لم تكبر أبدًا، لأنك منعت الحياة من الوصول إليك، وعشت عبر مثال صنعه لك التاريخ، لذلك كان طريقك شوكًا، وفضيلتك أمثلة، مجرد نظام ميت من الكلمات والصور النمطية التي أردت أن تكون عليها. من يسمح للتاريخ أن يهيمن عليه، يفقد القدرة على النمو، من يكسر قانون الإله ولا يغادر طفولته، يغدو مسخًا، يثير قرف الآخرين، يمنحهم الذرائع كي يتخلصوا منه.
يا بني أيها الطفل الشائخ.. كان عليك أن تمضي في طريقك هذا لبعض الوقت، لبعض الوقت فقط، كان من الممكن أن يكون طفلك هو قدرتك على النمو والاكتشاف، لكنك أرهبته بما يكفي لأن يسقط في العجز، ويصير مسيحًا عجوزًا، تتقاذفه الحشود، وتبصق عليه."
لقد أرادت روحه أن تبلغه.. أن من يحيا خارج طبيعته، لا يعيش ذاته، تلك التي بها تأتأة مختلين وسخافات حمقى، لقد عاش الجزء الأكبر من نفسه، وترفع عن الوضيع والتافه الذي هو دليله إلى العيش، لقد ارتعب منه واستبدل صورة عن نفسه بنفسه، أصبح نزوعه مضادًا للحياة، فعاش كغريب بائس.
ينبغي أن نتعلم من جديد، أن العظيم لا ينبت إلا من الدوني وأن البطل الحقيقي هو القادم من وحل العالم، ذلك لأن المنقذ السماوي هو كبش فداء لا أكثر.
ينبغي أن نطلع على عوراتنا، لأنه من لا يقوى على رؤية عوراته، لن يبلغ حتى إنسانيته. كان وجودنا الإنساني مرهونًا برؤية أبوينا لعورتيهما، لكننا نسينا، وتعالينا على الشرور والبذاءات وكأنها ليست جزءً من أنفسنا، فغدونا أكثر المخلوقات هشاشة وكبرياء، ما زلنا نفكر بطفولة العقل القديم، لا نستطيع أن نتصور كائنًا كليًا، مزيجًا من البذيء والثمين، من الخير والشر، حتى الله نفسه لم نستطع أن ننظر إليه إلا عبر تلك الآلية الفصامية من الانقسام، فهو إما شر محض ينضح بالانتقام، مثلما رآه الإنسان البدائي، وقدم له القرابين البشرية، وذبح أولاده من أجله، وإما خير محض، يذبح هو ولده اتقاءً لشر البشرية وخطاياها.
تلك هي طفولة العقل التي أتحدث عنها، ذلك هو توقف النمو الذي أشير إليه. والذي يؤدي إلى الانقسام، فلا يستطيع الإنسان أن يرى نفسه، الله، العالم إلا بنصف واحد فقط، وغالبًا ما يكون هذا النصف هو ما يجهله عن نفسه، هذا ما يسميه التحليل النفسي بالإسقاط. فالضعفاء العاجزون هم من صنعوا البطل المُخلِّص، وما زالوا ينتظرونه إلى الآن، والأخيار الطيبون هم من صنعوا الشيطان، الشر الخالص.
والكباش العمياء هي من تسعى إلى إنقاذ البشرية.
عندما يعيش المرء كتعويض عن المخبوء في داخله، يعيش في مؤخرة نفسه.
يقول يونج:"يجد عبد الفضيلة الطريق ضيقة، كما يجدها عبد الرذيلة"
علينا أن نتعلم أن الحب مريع أيضًا، إذا كان يربض خلفه ما لا نعرفه، لكننا لن نعرف حقيقته إلا إذا صلينا لأعماقنا، لعالمها الغريب والمفزع، حتى لو امتلأ فم المرء بالحشرات، حتى لو خرجت القوارض من دبره. لا تفزع من هذا وتفر بعيدًا، لأن من يجفل من هذا المريع ويهرب بعيدًا تكون الكراهية دليله إلى العالم. هناك قديسة أثناء وباء الطاعون، شربت صديد حويصلاته، وأدركت أن رائحته تشبه رائحة الورد، هي لم تفعل، إلا عندما تذوقت الدمامل التي بداخلها وتشممت تقيحاتها. لم تعد الدمامل التي في الخارج، مثيرة للقرف بالنسبة إليها، بل حميمية ومستساغة جدًا.
كل ما هو في الخارج، موجود مسبقًا في الداخل، لكننا نبدو كفقراء فارغين، عندما نحتقر ذواتنا وننكر ما فيها، عندما نرى الظواهر والأحداث والأشخاص بمعزل عن دواخلنا.
كم يبدو حزينًا وغريبًا ما أكتب، ما أحرض عليه، من رؤية القبيح والغث داخل عتمتنا، تلك الرؤية التي تصرع البطل داخل نفوسنا، كم هو غير مستساغ أن أطالب بقتل أبطالنا الداخليين، همتنا لتغيير العالم!
أعرف بالطبع حاجة البشرية إليهم، وحلمها النبيل بهم، ولكن عليها أن تحذر! فهؤلاء الأبطال أنفسهم هم الذين يزيفون دوافع العيش، والأكثر من ذلك، أنهم إذا صدقتهم الحشود وآمنت بهم ينقلبون إلى طغاة، بل ويهدرون بالجنون الذي يحرقهم ويحرق الوجود من حولهم.
يؤكد جوستاف لوبون أن جميع المصائب التي حلت بالبشرية، إنما جاءت من مفهومين أساسيين هما البطل والجمهور، وقد اعتقد أن الفاشية والنازية والشيوعية هي تنظيمات فوضاوية تخاطب الطبيعة السفلى من الوعي، في محاولة لاستعادة الاعتبار للذات وعدم تحولها إلى صفر داخل كائن هائل هو الجمهور.
إن البطل الذي هو على استعداد دائم بالتضحية بنفسه من أجل ما يعتقد من خير البشرية، سرعان ما تمده الجماهير بطاقتها اللاواعية والأكثر بدائية، فمع الحشد تختفي القوى العقلية، مخلية مكانها للعناصر البدائية، المتبقية والموروثة عن الأسلاف، فالبطل المفرد يستطيع أن يتسامى عن تلك القوى المتوحشة بسسب حس المسئولية، والمنوط بالارتقاء الإنساني، أما عندما ينضوي تحت لواء المجموع، فإن هذه المسئولية تنهار، ويسقط الجميع في حالة من الاعتمادية (يعتمد البطل نفسيًا على القاعدة الجماهيرية العريضة، وتعتمد الجماهير على البطل) تلك الاعتمادية توقظ القوى السفلى والمتوحشة لدى الإنسان، فالقانون النفسي للاعتماد قرين دائم للعدوانية، والتي تؤدي إلى تقهقر الإنسان إلى بدائيته، أو على حد تعبير جوستاف لوبون "تكون أعمال هؤلاء واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي، أكثر مما هي واقعة تحت تأثير المخ أو العقل" وتعويضًا عن هذا الانهيار العقلي يعلق الاثنان (البطل والجمهور) في الكلمات، وفي العبارات المصكوكة أو الشعارات، وهي حالة يسميها إريك فروك وكارل جوستاف يونج (اضطرابًا ذهنيًا).
من هنا نستطيع أن نفسر ألوان الجنون المختلفة التي مارسها الأبطال الشعبيون، (الزعماء) وكيف أنهم ساقوا شعوبهم إلى الدمار، فالإنسان الهمجي الذي يخرج من البطل بعد انضوائه داخل الحشود، لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وبين تحقيق هذه الرغبة، حيث إنه يشعر بامتلاك قوة لا تقاوم، ناتجة عن العدد والكثرة. هذا التضخم الفائق لدى البطل الجماهيري، يسوقه إلى أكثر الأفعال جنونًا، والتي تلامس أيضًا القوى اللاواعية عند جمهوره، فيزداد التشبث والتعلق به، إلى أن تحدث الكارثة للجميع.
يقول إريك فروم: " القائد نصف المجنون، هو الأكثر جماهيرية، إلى أن يؤدي جنونه وحاجته للحفاظ على صورة (كلي القدرة) إلى ارتكاب الأخطاء التي تؤدي إلى تدميره".