القاهرة 18 يوليو 2017 الساعة 10:04 ص
أعيش في غرفة منفصلة عن العالم بعد ظرف اجتماعي بغيض، رأيته أحيانًا تحررًا من قيود لطالما ثُرت عليها في كتاباتي ومناقشاتي مع من حولي، أنتهى في هذه الغرفة، محاولاً الاستفادة من تلك "الحبسة" الإجبارية/ الاختيارية في نفس الوقت، فما الذي جعلني أنتهي إلى هذه الغرفة؟!
أسأل نفسي هذا السؤال وأحاول الوصول إلى إجابة، وتضيع ساعات من عمري في تلك المحاولة حول وجود إجابة تريح ذهني وروحي القلقة، العجيب أن هذا السؤال ظلّ يتوالد عنه أسئلة كثيرة في تلك المحاولة للوصول إلى حلّ لتلك الأزمة، ثم وجدتني أعيد السؤال بصيغة أخرى؛ ما الذي أحدث كلّ هذا الخلل؟ الإجابة بدت مرعبة إذ راحت تتطرق بي وتعود إلى البدايات حول وسائل التربية، وحول البيئة والتقاليد وكل الظروف الاجتماعية والدينية
والسياسية التي نشأت فيها، وهُنا أجعل من نفسي مثالاً لكثيرين –أظنهم- دخلوا نفس الغرفة بشكل مادي أو مجازي.
سؤال البدايات:
الإجابة تكمن في البدايات إذن، وفي تلك التصورات التي تمّ تأصيلها في ذهني كرجل "قرويّ" شرقي جاء إلى المدينة الكبيرة محملاً بكل موروثاته التي يحاول على الدوام الثورة عليها، فيقع في النهاية فريسة لمجموعة من التناقضات الهائلة سببها ذلك الصراع بين ما تربى عليه وبين ما يكتشفه في العالم عبر القراءة ومناقشة الأفكار، وكمًا من المعارف التي راحت تغذي في صراعها ذلك التناقض. العجيب إنني قليلاً ما ألوم نفسي في الوصول إلى هذا الحال داخل الغرفة، والحقيقة أنه لا يجوز إغفال ذلك، بل من الواجب وضعه بحياد شديد الصعوبة لنقاشه، لكن كيف يمكنني ذلك؟! ولماذا يتأجل على الدوام ذلك الاعتراف؟!
كما قلت لأنني أحمل تلك المشاهد جميعها التي كونت هذا الإنسان الذي صرت عليه، والذي غذى المجتمع فيه –دون أن ينتبه- بذرة هذا التناقض منذ لحظة الوعي الأولى التي رأيت فيها النساء في بيت العائلة يجلسن إلى مائدة طعام رديفة لمائدة الرجال، دون أن تُطرف عينٌ للفريقين، وهو بالطبع ما تجاوزته تقاليد التربية الآن بحكم أن جيل الأبناء والأحفاد صار أكثر انفتاحًا وأقل تمسكًا بتلك الموروثات، لكنها كانت –وللأسف- بعد فوات الأوان من غرس بذرة التناقضات التي ظلت تنمو كـ"دُمل" ينتفخ بالقيح تحت الجلد حتى ينفجر في لحظة تشبه لحظات الماضية التي انتهت بي إلى هذا الظرف الاجتماعي العجيب، والمرهق للروح والجسد معًا.
سؤال الطفل وفن التجويد للإجابات:
أذكر في صغري –ولم أكن تجاوزت مرحلة الطفولة بعد- أن معظم الحكايات في البحيرة في ساعات التوقف وانتظار الصيد، كانت تدور حول النساء وحول قصص المحبة المشهورة التي انتهت بزواج فلان بفلانة في الحيّ، ودون دراية تمّ إلقاء البذرة في قلب وعقل الطفل، بعدها مباشرة كان عليّ في العام الدراسي التالي أن أخطو نحو أول درجة في سلم حكايتي الشخصية التي سيحكيها جيل تالٍ عن أنني تزوجت بفلانة. الأمر كان بسيطًا جدًا ولم يكن بصعوبة التفتيش التي قرأت عنها كلما دخلت إلى مكتبة المدرسة –والتي كانت متخمة بالروايات المترجمة وغير المترجمة وقتها وهو العجيب- لذلك لم يكن غريبًا –لي على الأقل- وبعد قراءة رواية "مسافرون بغير زاد" أن أقرر ما قرره البطل "صلاح" وفي سابقة في المدرسة كلها أكتب خطابًا طويلاً مستعارًا في معظمه من خطاب البطل إلى حبيبته الجامعية، غير متخيل أن جملة "أمينة المكتبة" –فيما بعد- لا يجوز الاعتداد بها طوال حياتي، غير أنها قالتها ورمت بها بذرة أخرى صارت شجرة فيما بعد كغيرها من كل تلك البذور التي تُرمى لتتشكل منها غابتي الشخصية. قالت:
- "المكتوب في الروايات خيال ولا يمت للواقع بصلة... افهم ذلك جيدًا!!".
الخطاب كان بسيطًا، يحمل محبة ساذجة لطفل تخطى العشر سنوات بشهور، بثّ فيه محبته الطفولية البريئة إلى زميلة الفصل والمكتبة، والعقاب كان فوضويًا ومبالغًا فيه بشكل مرعب، الطريف في تلك الواقعة أن زميلتي هي التي وشت بي إلى إدارة المدرسة، وفيما يُشبه غرف التحقيق النازية تمّ التحقيق في الأمر بحجرة "الأخصائية الاجتماعية" وكان فيما قالت الزميلة أنها "متربية ومش قليلة الأدب" حتى تسمح بذلك – تقصد قبول خطاب المحبة- وراحت تبكي بشدة. حتى لحظة كتابة هذه الشهادة لا أعرف على وجه التحديدي ما الذي أبكي تلك الزميلة؟! ولا سرّ احتضان الجميع لها، فالحقيقة كنتُ أنا المحبُّ المتيم، أنا من كتب عن حاله –المنقول من خطاب البطل بالرواية- وكيف أن الحياة بدونها صعبة، ولذلك رأيت من حقي أن يواسيني الجميع، وأني أنا من يستحق كل تلك الطبطبات التي انتشرت من حولي نحو الزميلة. انتهت الحكاية بعقاب ساديّ مقيت، فتمَّ حرماني من دخول المكتبة للأبد، وتمَّ عقابي بما يُشبه "حفلة التجريس" في طابور المدرسة الصباحي، وجاء إشهار الدليل الدامغ بعرض رسالتي الساذجة في إذاعة المدرسة مصحوبة بعدد ضخم من "الضرب بالعصا" على كفي، ولم أسلم يومها من "اللطش بالقلم" على وجهي، وإعلاني منذ اللحظة مفصولاً من جماعة "أصدقاء المكتبة". العجيب أن بعض هؤلاء الذين مارسوا ساديتهم غير المبررة تلك كانوا فيما مضى يستغلون طفولتي في تمرير الرسائل الغرامية إلى الزميلات لهم من المدرسات.
تشكل في داخلي سؤال عن المحبة؟ وأسبابها؟ وعن كل تلك الإهانات التي يمكن أن تلحق بشخص لا ذنب له غير أنه قال "أنا محبّ" وأن غيرة المحبين أول علامات محبتهم... فيما بعد –بعد تشكل شخصية الروائي داخلي- كتبت كثيرًا عن المحبة والمحبين وحالهم، وتمّ محاكمتي معنويًّا من أقرب الناس، بأن تلك القصص إنما هي "عربدتي وسوء خُلقي"، ووصل الأمر أن تمّ اتهام تلك القصص بأنها "وقاحة" لا يمكن قبولها، وانتهى بي الحال في النهاية إلى محبسي وعزلتي داخل تلك الغرفة، وإلى اليوم لم يُقدم لي أحدهم –هؤلاء الذين تناوبوا على عقابي- إجابة لسؤالي إن كان الاعتراف بالمحبة ذنب قبيح؟ ولماذا يتحول سؤال الغيرة إن اتهام بالشك والخيانة؟! ورغم أنهم حاولوا التجويد في الإجابة، ففشلوا للأسف.
لا تقدموا الإجابات ولا تجتهدوا فيها:
لما كان من نصيبي الحلو في الدنيا تلك الطفلة المملوءة بالأسئلة –ابنتي أميمة- حاولت طوال الوقت معها عبر سنواتها التي لم تكمل فيها الرابعة عشرة بعد، أن أنتبه لكل بذرة تُلقى في أرض روحها، وصرت قلوقًا عليها جدًا من مصير يُشبه مصير الطفل المُعاقب في طابور المدرسة بجريمة المحبة، أجلس معها كثيرًا وأسمع لها وهي تحكي عن أسئلتها حول الحياة وحول الفصل الدراسي والمدرسين والمدرسات، حتى كانت منذ أيام قلائل مشيتنا معًا على كورنيش الإسكندرية ليلاً ومتأخرًا بعض الشيء، استوقفتني فجأة وقالت بخجل أنها تود أن تسألني سؤلاً وترجو أن أتفهمه. في نفسي ابتسمت وقلت "أهلاً يا ميمو الجميلة بك في عتبات المراهقة الجميلة المرهقة"... تخيلت سؤالها سيكون عن المحبة وعن زميل الدراسة الذي تحادثه عبر الشات أو مواقع التواصل الاجتماعي، لكن السؤال كان مغايرًا، ربما لأنه جاء على خلاف المتوقع في تلك اللحظة، وهو ما جعلني للحظة أنتبه، أين يقف هذا الجيل القادم ابن التكنولوجيا والانفجار المعرفي الهائل الذي يمكن أن يحدث بمجرد كبسة زرّ في لوحة المفاتيح أو بلمسة على شاشة تليفونها.
سألت بمباشرة وعفوية سؤال بسيط وفلسفي حين قالت:
- "بابا، ما دام الله يعرف كل شيء، ويعلم كل شيء، فأين المتعة في كل ذلك؟" ثم زادت:
- "ألا تراه أمرًا مملاً قليلاً أن تمتلك المعارف كلها؟ وأن تعرف إجابة كل الأسئلة؟!".
حيرة وصدمة:
لم أكن أتوقع سؤالاً من هذا النوع، تجمدت مكاني لثوان، وحاولت رسم ابتسامة على وجهي، لكن يبدو أنها جاءت على غير المطلوب، فراحت تعتذر طفلتي، إن كان سؤالها سبب لي انزعاجًا ما. الحقيقة أنني كنتُ هناك بعيدًا عن سؤالها، إذ كان في ذهني أنا السؤال التالي:
- "كيف اختلف هذا الجيل كل هذا الاختلاف عنَّا؟ ولماذا اختلفت البذور التي في داخلهم عن بذورنا نحن جيل الآباء؟".
أعرف أن ردّا بسيطًا من نوعية التطور والحداثة والعولمة والدندنات حولها ستكون الإجابة عن سؤالي، لكن سؤالي لم يكن عن الإجابات بل عن "تشكل السؤال في ذهن طفلتي"، ولماذا ننشغل نحن الآباء بضرورة تقديم إجابة لهم، لترسيخ مفهوم "السوبر بابا" الذي يملك الإجابة عن كل شيء؟! الصدمة هنا لم تكن من السؤال، وإنما من عدم قدرتي على وجود إجابة مقنعة لطفلة في عمرها، صحيح أنني حاولت الإجابة، لكن أعترف كلها –في حقيقتها- لم تجب عن سؤالها، إنما حاولت التملص من إجابة مريحة لها ولي وبسيطة جدًا: "لا أعرف السبب!".
شجاعة الاعتراف:
لماذا نُصر طوال الوقت على امتلاك صك الإجابات حصريًا لكل أسئلة أطفالنا؟ هل يضرنا لو اعترفنا لهم بأننا لا نملك بعض الإجابات، وأن عليهم طوال الرحلة الممتدة للحياة أن يشغلهم البحث عن الإجابات بأنفسهم وبما يريح الروح ولا يضر أحدًا؟ هل نملك شجاعة الاعتراف لأنفسنا أولاً أن جيل أبنائنا مختلف كلية عن توقعاتنا بل ومن حقه أن يأتي حسبما أراد وحسبما شكلته المعطيات من حوله وسط هذا العالم منفتح الباع، وكذلك الاعتراف لهم بأننا "لا نعرف"؟!
أسئلة كثيرة فجرتها تلك "التمشية" حول أطفالنا، وما نودّ تقديمه لهم؟ ولماذا يتوجب طوال الوقت أن نقدمه نحن؟ لماذا لا نتركهم –والترك هنا ليس الإهمال- مع بذورهم التي يزرعها عصرهم، ولماذا نخاف بشدة، ونحاول تقليم أظافر تلك البذور؟ أليس أبسط حقوق المحبة تدعونا للاعتراف لهم بأننا لا نملك في بعض الأحيان إجابات لأسئلتهم، وأن الإجابات في كثير منها محض ثمار بذورنا الشخصية، وأنها تختلف من شخص لآخر حسب ملابسات عديدة؟
هامش:
فيما بعد، انفصلت أخصائية المكتبة عن زوجها زميلها المدرس الذي تولى عقابي وأقام حفلة "التجريس"، وبعد سنوات طويلة تمّ اتهامي بالجنون لأنني حين عملت مدرسًا -على مدار عشرين عامًا- كافأت تلميذًا أرسل رسالة "SMS" إلى زميلته يقول لها بأنه يحبها.
وحتى الآن، لم أجب ابنتي عن سؤالها حول احتمالية الملل في أن تعرف كل شيء، رغم تذكيرها لي في زيارتها الأخيرة بالسؤال، ومرّت أيام وسألتني الإجابة، فحاولت الهروب بانشغالات وهمية، خوفًا أن تنكسر صورة "السوبر بابا" في عينيها.