القاهرة 17 يوليو 2017 الساعة 05:43 م
شطحات قصصية ـ محسن يونس
( 1 )
تبدأ الشطحة هكذا : كان هناك أسد ..
لا .. لابد من طرح هذا السؤال قبل المضى فى الشطح : هل الضباع لا تملك طبيعة التأمل ؟ لا يوجد كائن حى على سطحالأرض لا يتأمل ، إذن ما سر كراهة الضباع للتأمل والمتأملين ، حتى أنها تصرخ عندما تأتى سيرة التأمل فى أحاديث بعضها دون انتباه : إنه – أى التأمل – يعطى لصاحبه سمتا مضحكا ، نراه أثناءه كأنه ذلك الطائر المسمى بمالك الحزين .. ذلك الطائر؟! أنتم تبالغون ، تصرخ الضباع رافضة اتهامها بالمبالغة ، ترتفع أصواتها فى لغط قائلة : " ملعونة المبالغة ألف لعنة .. نحن نكره المبالغة أصلا" "
للعودة إلى الأسد الذى تركناه فى مكانه عند الجملة الأولى ، حيث يبدأ الشطح به ، نستطيع القول بلا أى تهكم : إذا كان الأسد يتأمل ، فلابد أن تأمله مملوء بالفرائس ، هذا هو ما يمكن أن يمر بذهن هذا الوحش ، كل شىء هنا خاضع لنظرية الاحتمالات ، فهذه الشطحة لا تعرف إجابة ناجعة مانعة ، فلم تدخل دماغ الأسد ، بل هى تميل إلى ممارسة التأمل مثلها مثل الجميع من خلال واقع الغابة دون محاولة تأليف شىء خارج حدودها ..
كانت الضباع تختبئ خلف أجمة ، وكان الأسد مارا ،تنوح الضباع بقهقهة عازمة على مهاجمة الأسد : " أيها المتأمل أنت لنا "، لأنها رأته ليس كأبى قردان ، ولكنه ظهر لها فى سمت أخطر ، كان أسدا لا يمكن لها أن تنتزع أية فكرة من الأفكار التى تملأ رأسه ، هذه واحدة ، أما الثانية فهذه الأفكار مجهولة بالنسبة لها ، والعدوالأكبر لكل الكائنات هو المجهول سواء كان ماديا أو معنويا ، كانت الضباع تهجم جماعة منتظمة فى دائرة لا فكاك منها ولا هرب ..
( 2 )
قيل أن أحد الرجال استطاع أنيحول نفسه إلى شجرة ، فى أحيان كثيرة مطلوب منك ألا تصدع رأسك فى حوار تدور أسئلته وإجاباته فى تيه تفتح بابا فيواجهك باب مغلق ، ولن تنته من الفتح إلى مالا نهاية ، كل واحد من المستمعين أو من القارئين لما فعله الرجل تمنى فى نفسه أن يفعل مثله ، ما هذا الدواء الذى شربه ؟ أو التركيب الذى ركبه وعلى ماذا يشمل من عناصر؟ لا مغالاة أو شطط فيما حدث من الناس ، والذى أعقب جرحى وقتلى فى سبيل الحصول على الترياق المحول الإنسان إلى شجرة ، ما هذا التخريف الذى صدقه الجميع ؟! أين هذا الرجل؟ هناك كثير من الناس ركبوا السفن وعبروا البحار ، وهناك من ركب الطائرات ، وهناك من استخدم السيارات ، وهناك من سار على قدميه إمعانا منه فى التفانى ، يتعلق الكثير من الناس بسطح اللغة ، ولا يخوضون فى بحرها ذى الشطوط اللامتناهية ،بحر اللغة يخرج عن الشاطئين المدركين لطفولة البصيرة ، فالرجل استخدم ما فى اللغة من شواطىء مجازية، التى يمكنها أن تجعل الإنسان شجرة ، أو تجعل للبحر مائة شاطىء ،كان ذاك هو السحر الذى جعل الناس تريد امتلاك السر ، حتى ولو لم يدركوا المعنى الساكن هناك فى أعماق اللغة ، قيلت حكايات كثيرة تصرخ بما فيهم من ازدواجية تليق بالإنسان فعلا ، فحينما قبضوا على الرجل الشجرة ، بعض الأقوال تذهب إلى قتل الرجل خوف الفتنة ، وبعض الأقوال مالت إلى الترهيب والترغيب بتفصيل كيف تم تعذيبه بقطع لحمه وشيه ، وحشره فى فمه كى يأكل نفسه ، إلى توسيطه بالسيف ، إلخ إلخ .. فالإنسان هو صانع اللغة والمجاز والسحر والعذاب والحكايات ، وكل نقيض ونقيضه يستطيع التعامل معه بمهارة !!
( 3 )
قيل إن الفجيعة تنام فى عب المقصود بها ، وهو لا يعلم ، وقيل إن الفجيعة فى مخبأها ، حين تصحو يكون وقتها حان لتبدأ أفاعيلها ، تتميز الفجيعة خلافا لعائلها أنها لا تجتر الماضى أبدا ، هى لا تعرف من ثالوث الزمن إلا الحاضر ، يحكى أن أحدهم وكان أريبا أى بصيرا بالأمور ذا دهاء وفطنة – وعلى العموم كان بعض الناس ممن يتعاملون معه يشككون فى هذه الإرابة -حاول محاصرة الفجيعة التى تنام فى عبه ، فاحتال بلبس رداء مدرع من معدن حول جسده يحيط رقبته ، وبكل فخذ من فخذيه فلا يستطيع حتى الهواء الدخول أو الخروج من هذا المحبس ، لا شك أنه يعانى ، سأل رجل جهم غير مصدق من قال بهذا : كيف يقضى حاجته ؟أجابه واحد من العارفين : لا تحتاج هذه إلى إمعان الفكر لا بد أنه صنع فتحة أو فتحتين ، هذه لا تحتاج للسؤال والحيرة ، أقول لك نصيحة تنفعك فى الحياة : مصاحبة الأريب نافعة كمصاحبة اللبيب ، كانت الفجيعة تصحو مقهقهة عند سماعها هذه اللجاجة ،لم تعط أهمية أنها فى سجن من معدن إذ كانت معنية بالرجل نفسه ، لم تهتم بالأصدقاء ولا بالأقارب ، ولا فى كونه من الميسورين أصحاب المناصب ، أو من الطيبين ملح الأرص، أطلقت صيحتها وهى فى ذات الوقت لا يعنيها سماع أحد لصيحتها : " أنا من تأتى من داخلك ، وأنت من كنت تطعمنى وترعانى ، فهذا مجدى حتى لو كنت من أصحاب الدهاءوالفطنة "
وبدأت تعمل حتى أن الرجل بركعلى ركبتيه ، وهو يشعر لأول مرة بثقل ذاك الرداء المدرع ، ومع هذا لم يخلعه .. !!
( 4 )
أخفت المرأة حبها لزميلها فى العمل لعشرين سنة أو تزيد ، انفصلت بعد ذلك للأسف العميق " نفسها " عنها، ويارب احرسنا ، يرى الناس الآن " نفس " المرأة تجوب الشوارع هائمة ،تصرخ فجأة ملتاعة كأن هناك من ينزع أحشاءها واحدا وراء واحد ، تنتهى من الصراخ إلى الضحك مباشرة كأن أحدا يُسمعها النكات ، كانت تطارد " نفسها " علنا ،تكيل لها الاتهامات بمرارة " يا جبانة .. ما كان عليك الخجل ؟ "
" الخجل ؟! كان لابد منقتله ، تركتينه حتى صار ضخما بحجم الكرة الأرضية "
كانت حرائقها التى تشعلها تحرقها ، وتضايق المارة بروائح دخانها ، ولكنها لم تحرق السنين التى مضت كما كانت الشطحة تظن ، كانت تطارد الخجل فى أرجاء المدينة ، كانت تراه ، والناس لا يرونه ،تؤكد لهم وجوده وهى تقذفه بالحجارة ، اقترب منها رجل كبير السن رفع عكازه فى وجهها صائحا بغضب: " أعرفك من ثلاثين سنة وأكثر ، ألا تنته قصتك؟!"
قالت وهى شاردة العينين :" أنا يابا الحاج أحاول غسل دماغى من بقايا رواسب ، وهو ألف صرمة يرفض "، ثم تعود من رحلتها الطويلة ، فتنظر نحوه بعينين يسكن فيهما بؤس بحثها عن نفسها ،ارتبك الرجل المسن ، وهو يرى سحنتها وتقلبها ، وفمها مضموم الشفتين ، كانت المدينة تنتبه فجأة إلى ازدحام شوارعها بألف امرأة ، وألف رجل يتسكعون وهم يملئون الفضاء بالصياح ، يحاولون مع أدمغتهم نفس ما كانت تفعله هذه المرأة !!
( 5 )
بعد أن تمرغ على فراش حرام ساعة من الزمان ، خرج من المكان تنازعه مشاعر فرحة تختلط بمشاعر قلق ، بالفعل كانلديه الحق فى أن يقلق ، فنظراته التقت بنظرات جثة صامتة لم يغمض أحد لها جفنيها ،فبدت كأنها تراقبه ، ضحك من الفكرة ، وقال : " هل تفضحين سترى ؟ طبعا لايمكنك .. "
كانت المفاجأة أن الجثة استقامت من رقادها ، وهى تقول : " وهل تظن ؟ "
ارتعد الرجل فى بداية المفاجأة ، بعدها هدأ و تمتم : " لا تنس أنك جثة "
" لم أنس ، ولكنى رأيتك"
قالت الجثة قولها ، وعادت إلىموتها !!
( 6 ) صنع الورق لشيئين هما حفظ الأكاذيب ، واستدعاؤها منه حين يلزم الأمر ، أو حتى من غير ما يلزم ..
آمنت مملكة قديمة بهذا القول، وترتب عليه رفض الورق تماما من كل الحوانيت والقرطاسيات والدواوين بالمملكة ،أما المدارس فقد اعتمدت على السبورة الخشبية التى يمكنك محو الكتابة متى تعلمت ماجاء بها ، كانت الألواح توزع على التلاميذ فى الصباح ، وعلى المعلمين التأكد منمحو ما كتب عليها قبل تكديسها فى مخازن كل مدرسة عند انتهاء اليوم المدرسى ، أصبح العشاق فى ورطة كبيرة فقد كان ضبط ورقة رسالة معك هو الإعدام فى مكانك ..
جر هذا الموقف الرسمى ثورة ،أهم أسئلتها : هل نصنع لغة جديدة غير التى نعرفها وألفناها تكون خالية من الكذب ،حتى نستطيع استخدام الورق ؟!
ومن يستطيع إيجاد لغة لا تحملفى روحها الصدق مخلوطا بالكذب ؟!
لا توجد مثل هذه اللغة ..
توجد هذه اللغة ، وأنا هنا منأجل تعليمها لكم ..
قال بهذا رجل يعمل فى الأصل ساحرا ، فى فحوى الاهتمام بما قال ، والانشغال بقضية اللغة لم ينتبه أحد إلى أنه غريب ليس من مملكتهم ، كانت العودة إلى الورق أهم من البحث فى أصل وفصل الرجل ..
سُخرت كل الإمكانيات من أموال وأماكن ومواصلات ، ومتابعات لأجل الأنشطة التى اقترحها الرجل ، وكان أول شىء فعلهبعد الموافقة على إسناد مهمة تعليم أهل المملكة لغة خالية من الكذب توطئة لإعادة استعمال الورق ، إصدار فرمان ملكى بعدم الكلام بتاتا ، وعلى أهل المملكة إغلاق أفواههم ، والذى يضبط وهو يتثاءب يجلد مئة جلدة ، حينئذ أصبحت المملكة مقبرة صمت ،أدى الصمت الطويل إلى نسيان الكلام ، ونسيان الكلام أدى إلى نسيان اللغة ، ونسيان اللغة أدى إلى الخرس ، كان الرجل الساحر يحمل حقيبته ويغادر قائلا : " هذا ما استطعت أن أفعله ، لقد نجحنا فى نفى الكذب تماما من اللغة ، يمكنكم الآن العودة إلى الورق"
لم يجد الرجل الساحر أحدا منأهل المملكة يقول له : " أيها النصاب ماذا فعلت ؟ ماذا فعلنا فى أنفسنا؟!"
كانوا ينظرون صامتين إلى ظهره، وهو يمضى مختفيا رويدا رويدا ..