القاهرة 16 يوليو 2017 الساعة 01:43 م
أنماط الاستهلاك بين الرغبة في التميز والرغبة في المسايرة
د. أشرف منصور
صار السلوك الاستهلاكي هدفاً للدراسات السوسيولوجية المتخصصة منذ التسعينيات وحتى الآن. والحقيقة أن اهتمام العلم الاجتماعي بالاستهلاك وأنماطه ليس جديداً، إذ كان ملازماً لتاريخ هذا العلم. فماركس هو صاحب نظرية "صنمية السلع" Fetishism of Commodities (في المجلد الأول من كتابه "رأس المال 1867) والتي تعني تحول العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سلعية، وسيطرة السلع والقيمة التبادلية للأشياء على العلاقات بين الناس؛ وبعد وفاة ماركس بعقدين ظهر لعالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي الشهير ثورشتاين فبلن كتابه "نظرية الطبقة المترفة" The Theory of the Leisure Class (1899)، وفيه يدرس أنماط السلوك الاستهلاكي لدى الطبقات العليا، والدور الاقتصادي والثقافي الذي يقوم به هذا السلوك والذي وصفه بأنه "استهلاك ترفي". ومن أبرز دراسات السلوك الاستهلاكي في الحقبة المعاصرة، دراسة جان بودريار "المجتمع الاستهلاكي" The Consumer Society (1970)، وفيه يوجه نقداً للقيم والمثل الليبرالية عن الحرية والعدالة والمساواة والتي انقلبت إلى قيم استهلاكية، بفضل تشويه منطق الرأسمالية لها. ولعل أشهر دراسة في هذا المجال هي كتاب عالم الاجتماع الأمريكي جورج ريتزر "ماكدونالدية المجتمع" The McDonaldization of Society (1993)، والتي درس فيها تحولت كل الثقافات والنظم الاجتماعية إلى نمط العقلانية ونظام الإدارة السائد في محلات الوجبات السريعة، مما ينطوي على التسليع Commodification، والأتمتمة، وتوسع السيطرة الإدارية على أدق تفاصيل الحياة اليومية.
ومن هذه الدراسات أستطيع التقاط مقولتين سوسيولوجيتين نستطيع بهما استيعاب وفهم كل سلوك استهلاكي، بحيث لا يخرج أي سلوك عن الانتماء لهما: الرغبة في التميز Distinction، والرغبة في المسايرة Conformity. والحقيقة أن أهم الدراسات السوسيولوجية للسلوك الاستهلاكي وأنماطه لا تخرج عن التنظير وفق هاتين المقولتين. فمقولة التميز هي السائدة في دراسات فبلن وبورديو، ومقولة المسايرة هي السائدة في دراسات بودريار وجورج ريتزر.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يتصف السلوك الاستهلاكي بهاتين الصفتين المتناقضتين؟ إن التميز هو عكس المسايرة؛ التميز هو الرغبة في الاختلاف عن الآخرين، والمسايرة هي الانخراط مع الآخرين والسير معهم، فكيف يجتمعان في السلوك الاستهلاكي؟ إننا نستطيع تَفهُّم ذلك بتحليلنا للسياق الاجتماعي الذي يتم فيه السلوك الاستهلاكي. إن الرغبة في التميز والتي تتمثل في الحرص على اختيار كل ما هو جديد وغريب، تأتي من قِبَل الفئات الاجتماعية البادئة في الصعود في السلم الطبقي، أي الحائزة على إمكانات شرائية وأوضاع اقتصادية تزداد تحسناً، تدفعها لتحسين أوضاعها الاستهلاكية، وبذلك تحاول التعبير عن صعودها الاجتماعي هذا بشراء كل ما هو متميز من سلع، كعلامة على وضعها الجديد. فالسلع المتميزة صارت هي العلامة الدالة على تحسن المستوى الاجتماعي. هنا يتم الاستهلاك لما في هذا الاستهلاك من قيمة رمزية، أي قيمة ترمز للمكانة الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، لا لما للسلع المستهلكة نفسها من نفع أو فائدة. ومن جهة أخرى فإن الفئات الصاعدة اجتماعياً لديها رغبة موازية في التجمع والالتفاف حول ذاتها، كنوع من الحصول على هوية اجتماعية وانتماء طبقي معين، وبذلك تكون حريصة على مسايرة كل ما هو جديد في شكل اقتناء كل صيحة جديدة.
ويجب ملاحظة أن التميز والمسايرة يرجعان إلى الشرط الذي توجد فيه هذه الفئات؛ فأوضاعها الجديدة هي التي تفرض عليها نوعاً من مسايرة التمايز. فما كان سلوكاً شرائياً تمايزياً في البداية ويعبر عن الفردية، يتحول بفعل التقليد والمحاكاة إلى عادة اجتماعية وسلوك اجتماعي، ويكف عن أن يكون فردياً، ويصير مسايرة للجماعة المرجعية الجديدة التي هي الفئة الصاعدة بعد أن يتم تشكلها وتحصل على وعي بذاتها.
ونستطيع فهم الحضور المتزامن للتميز والمسايرة في السلوك الاستهلاكي بربطه بالشكلين اللذين وصفهما عالم الاجتماع الأمريكي ديفيد ريزمان David Riesman للسلوك الاجتماعي (في كتابه "الحشد الوحيد The Lonely Crowd 1961): السلوك ذو التوجه الداخلي Inner Directed، والسلوك ذو التوجه الخارجي Other Directed. يكون السلوك داخلي التوجه عندما ينبع من دوافع فردية أو داخلية، ويكون خارجي التوجه عندما تكون دوافعه من خارج الفرد، أي من المجتمع المحيط أو الجماعة المرجعية أو الطبقة أو التراث الثقافي السائد. ويميل السلوك داخلي التوجه دائماً نحو أن يتحول، بفعل تكراره كثيراً وانتشاره في المجتمع، وبفعل التقليد، إلى أن يصبح عادة اجتماعية، ويتحول إلى سلوك خارجي التوجه. فالتفضيل الاستهلاكي لسلعة ما يبدأ فردياً، ثم يتحول بفعل التقليد إلى عادة اجتماعية، وأخيراً إلى قيمة استهلاكية مفروضة من قِبَل المجتمع المحيط أو الجماعة المرجعية باعتباره سلوكاً خارجي التوجه Other-Directed. وفي كل الأحوال يعبر المستهلكون عن انتمائاتهم الطبقية بما يقتنونه من سلع، بحيث تُستَلك لما لها من قيمة رمزية أو دلالية تشير إلى وضع طبقي، لا لفائدتها العملية. إن الفائدة العملية تصير ملغاة تماماً في هذا السياق.
تدل هذه التحليلات السوسيولوجية على ظهور مقولة جديدة في العلم الاجتماعي وهي القيمة الرمزية Symbolic Value. لقد كان المعروف قبل عصر الإنتاج الاستهلاكي أن القيمة نوعان: قيمة استعمالية وقيمة تبادلية. القيمة الاستعمالية هي النفع المادي العلمي للسلعة، وأوجه استخدامها، والقيمة التبادلية هي قيمتها في السوق، والمُعبَّر عنها بسعر معين. ولم تكن السلع تخرج في السابق عن هاتين القيمتين؛ وقد شرح ماركس بالتفصيل كيف تكون للسلعة الواحدة قيمة استعمالية وقيمة تبادلية في الوقت نفسه، وكيف أن القيمة التبادلية هي التي تتحكم في الإنتاج والتوزيع وفي شكل العلاقات الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي كله. لكن ظهور قيمة ثالثة جديدة على مستوى النظرية الاجتماعية يُحدِث تغيراً كبيراً في المنهجيات الدارسة للمجتمع الاستهلاكي، إذ أن هذه المنهجيات في حاجة الآن إلى أفرع علمية أخرى لاستيعاب ظاهرة القيمة الرمزية وأنماط السلوك الاستهلاكي الجديدة، ومنها علم النفس وعلم السيميوطيقا (أي علم العلامات ودلالاتها المختلفة) وكذلك نظريات الأنثروبولوجيا الثقافية. إن ظاهرة اجتماعية مثل السلوك الاستهلاكي وما يطرأ عليه من تحولات يشير إلى أن الانفصال التقليدي بين أفرع العلوم الاجتماعية لم يعد يجدي، بل تحتاج كل ظاهرة جديدة إلى تضافر أكثر من تخصص وفرع علمي، إذ لم يعد من الممكن الانغلاق على التخصص العلمي الواحد.