القاهرة 12 يوليو 2017 الساعة 04:07 م
ثمة شعراء من أصل فرنسي أيدوا وشاركوا في نضال الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي، ودعموا حركة التحرر الجزائرية، فهل يمكن لمن يتابع أو يستقصي تاريخ الأدب في الجزائر أن يغفل هؤلاء الشعراء لأن أصولهم فرنسية؟ هل يمكن لباحث يتتبع تاريخ الشعر الذي كتب في فترة الاحتلال وأيد الثورة الجزائرية وساند حركة التحرر الوطني أن يغفل شاعر جاك سِناك أو شاعرة مثل آنا غريكي ليس لشئ إلا لأن أصولهم فرنسية؟
أمثال هؤلاء الشعراء من أصول أوروبية وُلدوا وعاشوا في الجزائر وساهموا منذ أربعينيات القرن الماضي في انتعاش الحركة الأدبية الجزائرية ، بل وآمنوا بعدالة القضية الجزائرية ضد المحتل الذي اغتصب الأرض وأراق الدماء وقتل ملايين الجزائريين، فهل نحسب هؤلاء شعراء جزائريين أم شعراء فرنسيين؟
من أبرز الوجوه والأسماء الشعرية الفرنسية التي انتسبت للجزائر انحيازا لقضيتها العادلة، وحبا فيها، واعتزت بهذا الانتساب حتى رحيلها هي الشاعرة آنا غريكي، أو كوليت غريغوار التي كتبت شعرها باسم "آنا غريكي" من أصل فرنسي، ولدت عام 1931، في "باتنة" عاصمة "الأوراس"، كان والدها يعمل مدرسا هناك، وحينما شبت عن الطوق وأدركت معاني الحرية والقيم الإنسانية شاهدت وعايشت ورأت صور البؤس والشقاء والعذاب الذي كان الشعب الجزائري ضحية له، فانضمت مبكرا إلى ثورة التحرير الجزائرية. ظلت تناضل في صفوف الجزائريين بالكلمة والحراك مع الجزائريين على الأرض حتى سجنت في سجن" سركاجي" في أعالي العاصمة الجزائرية، وفي وجودها في السجن رفقة نساء مناضلات مثل المناضلة الجزائرية "جميلة بوحيرد" كتبت العديد من القصائد لتعلي من قيمة النضال ضد المحتل، وتشجع السجينات على الصبر على قسوته وعنفه.
لكن من يتابع تاريخ الأدب الفرنسي لا يجد ذكرا للشاعرة آنا غريكي في أي موسوعة فرنسية أرّخت للشعراء الفرنسيين، ومن يتابع حركة التأريخ للشعر الجزائري، وخاصة الشعراء الذين ساندوا ودعموا ثورة التحرير وصولا للاستقلال لا يجد أي ذكر للشاعرة آنا غريكي وهذا يدعو للتساؤل والحيرة، نفهم أن المحتل الفرنسي ينفي الشاعرة من كل موسوعاته وقواميسه وببلوجرافياته لأنها تخلت عن وطنها الأصلي باختيارها واتخذت وطنا بديلا، وهذا الوطن البديل يُعدُّ عدوا من وجهة نظر الفرنسيين، فلماذا تنفيها حركة التأريخ للشعر الجزائري خاصة والشعر العربي عامة؟ لماذا لا تعاد طبع دواوينها ونقرأ من خلال قصص التضحية والفداء التي قدمتها وقدمها أحرار الجزائر من أجل الوصول إلى الاستقلال؟
صحيح أن المكتب الولائي لجمعية «الجاحظية" بمحافظة باتنة عاصمة الأوراس احتفل بيوم الاستقلال الموافق 5 يوليو بالشاعرة وأقام ملتقى شعري تحت عنوان:" لشاعرة أنا غريكي في موكب الأدب الجزائري" لكن هذا لا يعتبر كافيا مقارنة بالدور الذي قامت به آنا غريكي، لذا ليت وزارة الثقافة الجزائرية تتولى مشروع ترجمة ديوانيها وكتابها عن الجزائر إلى العربية، ليطلع القارئ العربي على تجربة مغايرة ورؤية إنسانية محبة لقضية استقلال الجزائر، وقد أصدرت الشاعرة ديوانين هما:" الجزائر يا حلوتي" و" الأوقات القوية" كما أن لها كتابا آخر عن الجزائر بعنوان:" الجزائر عاصمتها الجزائر"
هي لا ترصد فقط صور البؤس والظلم، لكنها ترصد تفاصيل طفولتها في الجزائر تعبيرا وربما تبريرا لانحيازها للجزائر ضد بلدها الأم فرنسا، إن طفولتها مليئة بالمباهج والسعادات الصغيرة، حيث ولدت في "منعة"
، فهي تريد أن تؤكد على الهوية الثقافية والتاريخية والجغرافية للجزائر، وترفض ضمنيا سلب الجزائر هويتها العربية، ترفض ضمنيا الفكر الاستعماري الذي كانت تفرضه فرنسا على الجزائر بحكم الاستعمار.
من أجواء هذا الديوان تقول غريكي:"
أسكن مدينة نقيّة جدًّا
حتّى أنّها سُمّيتْ الجزائر البيضاء
بيوتها المكسوّة بالكلس معلّقة
كشلاّل من قوالب سكّر
كقشور بيض مكسور
كحليب من نور الشّمس
كغسيل لامع استحال لونه أزرق
كقطعة دانتيل تربط بين طرفين
تمامًا في منتصف
الأزرق الكامل
لتفّاحة زرقاء
أدورحول نفسي
وأخفق هذا السكّر السماويّ الأزرق
وأخفق هذا الثلج البحري الأزرق
مشيّدة فوق ألف جزيرة مهزومة
مدينة جريئة، مدينة منطلقة
مدينة بحرية زرقاء، بحرية مالحة
مدينة في عرْض البحر، سريعة ومغامرة
تُدعى الجزاير
تماما كسفينة
من شركة شارل لوبورن".
في هذا النص يتضح مدى شغف الشاعرة بالجزائر، وتلك الصور المجازية التي تصنعها لها، فالجزائر النقية البيضاء معلقة مثل قطع السكر، وهي تقع في غرام هذا السكر. هذه المدينة التي عشقتها حد الشغف مشيدة فوق الف جزيرة مهزومة، لكن الشاعرة عبر شعرها تحاول أن تستنهض روحها، تصنع منها جزيرة جريئة مقاومة منتصرة.
تستنهض الشاعرة روح المقاومة، فتنجفر الأرض، ويلغى الزمن، إنها تريد أن تختصر الزمن، الزمن تلذي يحبسها عن الخروج للحرية، للضياء، للجزائر. إنه الشعر وحده ما يساعدها على إزاحة حدود الزمن، كي تنفجر الأرض بالغضب على سجانيها.
لكنها حين خرجت من السجن وجدت أن سلطات الاحتلال ترحلها إلى فرنسا ، لكنها حينما وصلت هناك بدأت رحلة الدفاع عن الجزائر عبر مخاطبة الرأي العام الفرنسي وكشف ممارسات سلطات الاحتلال ضد الجزائر وأهلها. شاركت في ملف شعري في مجلة "أكسيون بويتيك" كشف عن فظائع ممارسات المحتل وعنفه ضد الجزائريين.لكنها تعود إلى الجزائر بعد الاستقلال. تحصل على شهادة الليسانس وتدرّس الأدب في ثانوية الأمير عبد القادر، ثم تتزوج رفيقها في النّضال أثناء دراستها في باريس جون كلود مالكي وتنجب منه الطفل لوران.
جاء الديوان الثاني للشاعرة تحت عنوان" جزائر يا حلوتي" وهو وكذلك نلاحظ أن الجزائر/ المكان بنية رئيسية في العنوان، وكأن الشاعرة مسكونة بهذا الحب لهذا البلد التي نشأت فيه، وتقاسمت مع أهله معاناته، فقد عُذبت كما عُذب الجزائريون، وسجنت مثلما سجنوا، ونادت بالحرية مثلما نادوا.
طفولتي والمباهج"
وُلِدتْ هناك/ في منعة
الدائرة المختلطة آريس
وشغفي بعد العشرين
هو ثمرة انحيازاتها
التي تسقط في أعماق عيوني الشّاوية.