القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 11:21 ص
تربينا على أن الكلمة أمضى من السلاح في كثير من الأوقات، وكيف أن لها ذلك السحر مصداقًا لما عرفنا من "إن من البيان لسحرا"، وتاريخ الإنسانية وسُلمها نحو الارتقاء يؤكد ذلك بالأحداث المصيرية التي كان للكلمة أثرها البليغ في تشكيل وعي الشعوب، حتى أننا وجدنا "موسى" عليه السلام يطلبها صراحة من الله سبحانه إذ طلب أن يُشاركه "هارون" – أخيه عليه السلام- فهو "أفصح منه لسانًا"، ليتأكد أن الكلمة هي سلاح الاستنارة وخيارها الأسمى حين تعجز الأسلحة.
الشاعر لسان القبيلة:
ظلّ الشاعر العربي لسان قبيلته ومحط فخرها بين مختلف القبائل، ويخبرنا تاريخ المعلقات العربية بحادثة مشهورة في تاريخ الأدب العربي، حين أراد "الحارث بن حلزة" أن يقوم غيره مقامه في إلقاء معلقته الشهيرة "آذنتنا ببينها أسماء... رُبّ ثاوٍ يملُ منه السُواء"، حتى انتهى إلى أنه لن يفلح في إلقائها غيره، فهو أعلم قومه وشاعرهم، والحكاية مشهورة جدًا بنهايتها التي أنصفت قومه في التحكيم، بل وأعلت من شأن الحارث بن حلزة ليصبح واحدًا من أصحاب المشهورات من القصيد العربي، بعدما قالت جارية كانت تستمع إليه وهو يقول قصيدته من خلف ستار "والله ما مثل هذا يقول الشعر من خلف ستار"، فرفعت الأستار وقُرب الرجل ولم يُنضح أثره بالماء كما جرت العادة إذ كان يعاني من جرب ما.
الكلمة سلاح:
هكذا قضت حكمة التاريخ أن للكلمة أثرها، وأن قوتها تفعل ما لا يفلح فيه السلاح بصلابته وجبروته، وبتتبع الأمر والأثر، يتطور هذا المفهوم ليصبح ما نعرفه بمسمانا العصري "القوة الناعمة"، وهو ما سعت إليه الدول طوال تاريخها الطويل، وانتبهت إلى أهميته في تاريخنا الحديث والمعاصر، حتى أن الباحث الفرنسي المعروف لدى نخبة المثقفين المصريين "ريشارد جاكمون"، رصد ذلك صراحة إبان العهد الناصري في مصر بما أسماه "جيش الآداب"، والذي تكون تحت سمع وبصر الدولة المصرية إيمانًا منها بأن مثقفيها وأدباءها هم قوتها الناعمة، والتي يمكن أن تخوض معارك استيراتيجية لا تقل في ضراوتها عن معركة السلاح، وهو ما استثمرت فيه الدولة المصرية إبان تلك الفترة الناصرية بقوة ووضوح.
حرية الإبداع فرض وليست خيارًا:
الآن، وبعد غمار ثورتين خاضتهما مصر بكل ما فيهما، يبدو أن ميزان تلك القوة الناعمة مصاب وبه من العوار ما نجده في واقع المثقف المصري الذي تقزم دوره في الدولة المصرية إلى حد بالغ السوء، يتلاشى معه دوره التنويري في كل معارك الدولة التي يتضح فيها وضوح الشمس أنها معارك كلمة وليست معارك سلاح وفقط، فالدولة المصرية منذ سنوات تحارب وتقدم زهرة شبابها في حربها الضروس ضد إخطبوط ظلامي يتمثل في تلك الجماعات التي تجردت من أدنى قيم الإنسانية، وتسترت بستار الدين، والدين منهم بُراء، وهو ما يستنزف من طاقة البلاد بلا شكّ، في الوقت الذي تعلو فيه أصوات بأن الحل الفيصل في معركتنا تلك ليست الذخيرة والرصاص وفقط، إنما الحاجة إلى الكلمة المتمثلة في قوة الدولة الناعمة تصبح صنو السلاح، ومعها تصبح حرية الإبداع فرضًا وليست اختيارًا أمامنا، بل يجب تقديمها في الكثير من القضايا، وهو ما يعكس النداءات التي نسمعها تتردد حول تجديد الخطاب الديني من زاوية، وحول حرية الإبداع والفن من جهة أخرى.
المثال الصيني:
كنتُ في زيارة إلى واحدة من مدن القناة، وتقابلت مع واحد من المبعوثين الأجانب إلى جامعة القناة، وهو شاب صيني يحمل شهادة الدكتوراه، ويُسمى "حسن علي"، وهو أحد هؤلاء المنتمين إلى إقليم المغول، ودراسته في الآداب، وتطرقنا في لقاءنا حول مواضيع شتى في الأدب واللغة العربية، أخبرني فيها أن الحكومة الصينية تقدم الكثير من المنح الدراسية لكل الطلاب في العالم من الراغبين في استكمال دراسة الماجستير والدكتوراه في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية، وكيف تنفق الحكومة الصينية في ذلك من الأموال ما يقارب ميزانية بعض الدول الصغيرة كل عام. سأل أحد الحضور الدكتور "حسن" عن سرّ هذا الإنفاق الذي يبدو في ظاهره أنه يتناقض مع شائعة تقول بأن الصين بلد منغلق على نفسه، وساق السائل تأكيده على ذلك بأن للصين "انترنت" خاص بها، وأنها لا تستخدم غالبية وسائل التواصل الاجتماعية المشهورة في العالم مثل "الفيس بوك" و"تويتر" وغيرهما. ابتسم الدكتور، وقال بعربية فصيحة "إنها القوة الناعمة يا سيدي".
فهمت الصين إذن أن قوتها الحقيقية في العالم ليست تلك المنبنية على اقتصادها القوي وقوتها العسكرية، إنما يلزم مع ذلك قوة ثقافية تروج للصين بنعومة وقوة لا تقل عن قوة الاقتصاد والسلاح، وعرفت أنها بذلك تضمن التعاطف في أقل درجة إن لم يكن الانحياز إلى هذا البلد الكبير.
أشار في هذه الجلسة الدكتور "حسن علي" إلى الحضور الصيني الكبير في معارض الكُتب والمحافل الفنية المختلفة، وكيف استطاعت الصين أن تروج لثقافتها وفنانيها وأدبائها عبر تلك المعارض، ليتعرف العالم على الثقافة الصينية والحضارة الصينية عبر واحدة من أضخم حركات الترجمة التي تشهدها الصين في عصرها الحديث من الصينية وإلى لغات العالم الأخرى، بعدما أدركت الصين أن الترجمات التي كانت في السابق أفقدت في كثير منها الروح الصينية التي تظهر في كتابات الأدباء الصينيين، وهو ما يجعل تلك الترجمات غير صادقة بالمرة، بل ولا تجد استحسان الصينيين ممن يتقنون اللغة المترجم إليها، وهو ما انتبهت له الحكومة الصينية بأن ذلك يُعد إهدارًا لأصل قوتها الناعمة، فاعتمدت ذلك المشروع الضخم للترجمة من الأدب والثقافة الصينية إلى غيره من اللغات على يد مترجمين صينيين يحافظون على تلك الروح في الترجمة.
شجن خاص:
أثار حديث الدكتور الشاب شجونًا داخلي حول حركة الترجمة من العربية بشكل عام إلى اللغات الأجنبية، وكيف يتم ذلك عبر مشاريع متواضعة للغاية، وبأعداد مخجلة مقارنة بتاريخ المنطقة وإنتاجها الأدبي عبر التاريخ الإنساني، وهو ما ترك فراغًا في عقل القارئ العالمي راحت إثنيات وقوميات أخرى تنتبه له، وتجتهد على أن تملأ ذلك الفراغ بترجمات من لغاتها وثقافتها، لتضمن بذلك لنفسها سهمًا من أسهم تلك القوة الناعمة التي صارت سلاحًا عصريًا لا غنى عنه.
فهل سيأتي اليوم الذي تنتبه له حكومتنا والحكومات العربية إلى ذلك السلاح في عصر لم تعد فيه الحروب بمعناها التقليدي العسكري، وإنما صارت كل يوم تتطور فيه الحضارة الإنسانية وترقى الأمم عبر مفكريها ومبدعيها، حيث تتعامل معهم باعتبارها هم كنزها الاستراتيجي وذخيرتها الحقيقية في وجه كل من يهدد كيانها وبقاءها.