القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 11:16 ص
ليس من الجديد حديث الباحثين عن مسرح العبث باعتباره نمطا تمركز ظهوره أوروبيا بعد الحرب الأوروربية الثانية. ينتمي العبث فكريا إلى نزعة إنسانية اكتشفت اللاجدوى من حياة هدمتها التقنية والتكنولوجيا التي ناضل الإنسان لإقامتها من أجل تدميره !! ولهذا فإنّ أصابع "الوجودية" قد تبدو واضحة معه. أصابع الدادائية أيضا.
إنّ العبث بكلمة موجزة هو كل ما يشعرنا بأنه غير معقول ويفتقر كليا إلى المعنى أو إلى العلاقة المنطقية التي تربط بين أجزاء العمل الواحد. في المسرح لا يمكن تفسير ما يراه المتلقي عقليا. لذلك قال يونسكو بأنه "كل ما هو فاقد الهدف (...) حيث يشعر الإنسان أنه ضائع وكل ما يقوم به ويسعى إليه يغدو بلا طائل وبلا جدوى" كما تقتبس فتيحة شفيري عنه في كتابها الجديد "خصائص مسرح العبث في الأدب العربي" الذي أحاول أن أتناوله بالحديث في هذا المقال (من منشورات دار التنوير الجزائرية ). إنه مسرح حاول –في وقته-أن يهزّ الوجدان الإنساني بأنّ القيم، الأفكار، المعاني، وكل ما تواضع عليه خلال تجربة المدنية الطويلة عند الأوروبي، قد وضعت على المحك. لقد انهارت كل الأشياء الجميلة. إنه زمن النهايات. زمن النهايات بامتياز.
في كتابها صغير الحجم الذي بدأ بتقديم قصير للدكتور أحمد منور ومقدمة للكاتبة، يظهر منها أنه كان في الأصل رسالة أكاديمية، تعود الكاتبة إلى جذور مسرح العبث، وتشير بشكل ذكي، إلى ما يثيره هذا المصطلح من اختلاف حوله. فإذا كانت هذه التسمية مقبولة عند الكثيرين، فإنها غير ذلك عند الكثيرين أيضا. ذلك أن كُتاب هذا النوع لا يعبثون، ولكنّهم ينطلقون من فلسفة خالصة ترى أنّ الحياة عابثة يحاولون وصفها بطرق فنية تتجاوز المنطق المألوف، لذلك وجد البعض تسمية أكثر توفيقا وهي: مسرح اللامعقول، وهي التسمية التي أطلقها مارتن أسلان أول مرة "مسرح العبث".ذلك أنّه يصف مسرحا لا يتطور فيه الحدث كما يتطور في العادة منطقيا، إنه لا يسير من نقطة أ إلى ب ولكنه من قاعدة مجهولة يسير إلى نهاية غير معروفة. إنّ جوهر مسرح العبث هو المسرحية الخالية من الحبكة ومن الشخصيات واضحة المعالم.
يمكن إيجاد أصول لهذا التيار كما يؤكد باتريس بافيس في معجم المسرح عند الوجوديين، مثل سارتر في "الوجود والعدم" وألبير كامو في "الغريب" أو "أسطورة سيزيف". كما يظهر بعض التأثر من حركة الدادائية التي ظهرت عام 1918 في زيوريخ، كان على رأسها الشاعر الروماني تريستان تزار الذي دعا إلى التحرر من الشكل الفني التقليدي. كذلك السريالية خاصة عام 1919 مع جهود أندري بروتون الذي نادى بتغيير نظرتنا للعالم حتى يتغير العالم نفسه. وربما يظهر لنا بعض تأثيرات كافكا وكذلك أنطونان أرتو في مسرح القسوة.
لا شكّ أنّ مسرح العبث لاقى هجوما كبيرا من قبل الكثيرين. إنّ المسرح في أصله فن إنساني يقدم نظرة للحياة ورؤية جمالية. وهو إن وصف الشر فليبين قيمة الخير. وإن أظهر القبح فليؤكد أهمية الجمال. لكن: أي شيء يدعو إليه مسرح العبث؟ هل يدعو إلى التشاؤم؟ إلى نبذ الحياة والخروج منها بالانتحار مثلا؟ قد يجيب البعض أنّ الفن ليس دائما ما يتوجب عليه أن يقدم حلولا. إنه يمثل رؤية في التفكير أمام الحياة بمختلف تنوعاتها وتجلياتها الإيجابية والسلبية، إنه يصور الإنسان في عذاباته وانكساراته كتجربة ذاتية في سياق ثقافي يفترض في الناظر أن يرى شيئا منه فيه. وحتى هذا الرأي الأخير لا يخلو من نزوع نحو التشكيك !!
بلغ مسرح العبث أوجه مع شخصيتين كبيرتين. يوجين يونيسكو في مسرحيتيه "المغنية الصلعاء" (1950) و"الكراسي" (1952) غير أنّ أعماله قوبلت في البداية برفض شديد، من قبل الجمهور خاصة. ولم يبدأ الإقبال على أعماله إلاّ مع مسرحيته "أميديا" التي تذكر المؤلفة أنها صدرت عام (1954) غير أن العديد من المراجع تتحدث عن عام (1953) كسنة لإصدارها.
كانت الشخصية الثانية هي صامويل بيكيت في عمله"في انتظار غودو"، الذي بدأ كتاباته متأثرا بأعمال جيمس جويس، وقد أزهدت كتاباته الأولى قراءها في الاستمرار فيها والإقبال عليها، والمسرحية المذكورة، قام بإخراجها الرجل مع زوجته سوزان بباريس عام 1953 وتم رفضها بشدة من قبل مسارح عديدة، غير أنّ الحال اختلف في لندن عام 1955 وفي نيويورك عام 1956 بحيث قيل عنها من قبل بعض النقاد: "هي مسرحية ناجحة ومدهشة". مع ذلك تحوّل بيكيت في سنواته اللاحقة، وبعد جملة من الأعمال الناجحة إلى الرواية والسينما. ويذكر جورج ولورث أنّ الكاتب يظهر كأنه اقتنع أنّ مسرح العبث كان مجرّد هزّة.
كانت المؤلفة قد تناولت جملة من القضايا، كما تم الإشارة إليها في الفقرات السابقة، كتصدير وتوطئة لما سيأتي. إنّ النموذج الذي اختارته للدرس النقدي في كتابها يُعنى بمسرح العبث كما تمثّل في كتابات توفيق الحكيم، لذلك كان لزاما عليها أن تتناول طائفة من المفاهيم مع شروحاتها، إلى جانب أهم أعلام هذا النوع من المسرح في أوروبا خاصة. ولهذا فإنها تنتقل في كتابها من خلال فصله الثاني إلى "توفيق الحكيم بين الأصول التراثية ومسرح العبث".
تأثر الحكيم بالمسرح في فرنسا بلا شك، من خلال دراسته وقتها هناك. ثم من خلال رحلاته الدائمة إليها. وكان مسرح العبث وقتها ذا انتشار واسع كما رأينا. وظهر توجهه للكتابة في هذا الشكل انطلاقا من بحثه عن طرائق جديدة وأنماط مختلفة عما ظل يُكتب من قبل. يؤكد هذا بجلاء ما قاله لصديقه أندريه في رسائله المنشورة في "زهرة العمر": "إنها دائما حالة القلق والبحث والتنقيب عن الأسلوب".
من هذا المنطلق اختار الحكيم أن يكتب مسرحيته "يا طالع الشجرة" بما سماه مسرح "اللامعقول" كمصطلح بديل لـ "العبث". لذلك فهو يعبّر بتصريح لا يشوبه غموض في نهايات مسرحيته "الطعام لكل فم": "التجديد في الفن-الذي سمي باللامعقول"-ليس معناه عندي الغموض أو التعبير عن انحلال الإنسان المعاصر، إني أعتبر ذلك أسوء ما فيه، وكل ما يهمّني منه ليس شطحاته، بل حرية التحرك فيه". إنّ اختاره لكتابة "يا طالع الشجرة" بهذا النوع من اللامعقول بتعبيره جاء محاولة منه للتجديد في الشكل كما يقول، بعيدا عن القوالب التقليدية الجاهزة. لا مساوقة لرؤية الكتاب مثل يونسكو وبيكيت للوجود وقضايا الإنسان. حاول الحكيم أن يأخذ الشكل لا المضمون. لكن نجاحه في هذا أو فشله سيتأكد لنا بعد قليل.
على الرغم مما يبدو لي من تهافت فيما تقوله الباحثة عن الحكيم في بعض كتابها: "..فمخالفته لهؤلاء الكتاب تدلّ –في رأينا-على أنه رجل استخدم عقله..." وما يتأكد لي أن الأسلوب قد خانها للتعبير عن فكرتها فالحكيم يصف نفسه في كثير من تآليفه وبعض حواراته بأنه "مفكر" وليس مجرد رجل يستخدم عقله فلا خصوصية للحكيم في هذا عن غيره بوصفه كاتبا له قيمته الكبيرة حتى وإن رأينا أنّ كثيرا من الانتقادات توجه لكتاباته، إلاّ أن الهدف من وراء كلام الباحثة أن تؤكد أن الرجل حاول أن يعبّر عن قيم مجتمعه لا مجتمعات أخرى لا صلة له بها، لذلك فقد نزع إلى التراث ليأخذ منه فكرة مسرحيته "يا طالع الشجرة" مع تبنيه فيها للعبث كشكل. أي أنّ يا طالع الشجرة كما أرادها الحكيم تراثية المضمون، عصرية الشكل.
واجهت تجربة الحكيم الكثير من الرؤى المختلفة. لقد حاول أن ينبت غرسَ العبث في تربية غير صالحة لإنباته. فلم يكن العبث كما رأينا مع بداية هذا الحديث إلاّ مرآة عاكسة لأوضاع ثقافية اجتماعية للإنسان الأوروبي، بعد أن أنهكته الحروب المدمرة. فكان لزاما أن يخرج فن مسرحي يوائم هذا التشتت والسواد الكبيرين. غير أنّ هذا منبتُّ الصلة بالحياة العربية. والسياق الثقافي فيها يختلف كثيرا عن سياقات أخرى شهدها العالم.
ومع وجاهة هذا الرأي، هل يمنعُ اختلاف الثقافات، أو السياقات التاريخية من تجريب نموذج مسرحي أثبت نجاحه وانتشاره في فترة هامة من تاريخ الإنسان في العالم، في بيئة غير بيئته التي نشأ فيها؟ ليس شرطا. غير أنّ توفيق الحكيم قد يكون قد أحسّ باللاجدوى من هذا الاختيار لذلك لم يستمر طويلا في هذا التجريب.
ومن جهة أخرى، قد يكون من المنصف القول بأنّ الحكيم حاول إخراج كوامن التراث العربي بحلة جديدة تتمثل في هذا المسرح. مسرح اللامعقول. حتى يُظهر نوعا من المزاوجة والتلاقي بين القديم والجديد. وأحسب أنّ هذا أفضل ما توصل إليه الحكيم.
ومع أنّ بعضا من النقاد تحدثوا بأن المسرحية تمثل دفعا قوية للمسرح العربي، وتعبيرا عن المجتمع المصري خاصة ، والذي انتقل من وصفه مجتمعا زراعيا إلى مجتمع صناعي يفترض مع هذا التغير وجود قوالب فنية جديدة تساوقه وتتماشى معه إلاّ أنّ هذا لم يكن إلاّ محاولة تبريرية لقيمة العمل لا أكثر. على الرغم من أننا نرى بأن قيمة "يا طالع الشجرة" تكمن في تجريبيتها كأساس أوّل حتى وإن لم تكتمل بتجارب كثيرة أخرى تجعلها تيارا حقيقيا في المسرح عند العرب. ولكن يبقى لها أنها محاولة فنية لها إيجابياتها كما لها مآخذها.
تُنهي الباحثة كتابها بالقول أن الحكيم لم يواصل التجريب في هذا النوع من المسرح في كتاباته الموالية لهذا العمل وهو بهذا كأنه "أراد أن يُعبّر عن عدم اقتناعه بهذا المسرح وبأنه لم يكن إلاّ مجرد موضة عابرة، فعاد إلى ما هو موروث حتى يتمكن من مواصلة رسالته المسرحية".
قد تكون بعض الهنات البحثية في هذا الكتاب مما لا يجمل بي أن أُثبته هنا، غير أنّ من الجيد على الباحث خاصة في الدرس النقدي الذي يشتغل بالمسرح أرضا خصبة له أ، يحاول العلميةَ قدر الإمكان. من خلال الابتعاد عن الشخصنة، وتجنب الأحكام الجزافية بغير دليل، وهذا لا يتأتى إلاّ من خلال منهجية محكمة يتدرّب عليها الباحث.