القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 11:04 ص
ترجمة خلود الجرايحي
عندما يمتطى الشعر نبضات قلبه. المختصر ـ الجزء الأول
خوسيه مارمول, شاعر و كاتب مقال و أحد رموز الشعر الدومنيكي المعاصر (1960)، ألف أكثر من خمسة و عشرين كتابا, و فاز بكثير من الجوائز المحلية و الدولية, هو مفكر يتأمل و يجيب, واضعًا في المقدمة القوة الشفيفة للكلمات التي تصنع الشعرية.
في ديوانه الأخير ( لغة البحر) صنع مارمول مهرجانًا صاخبًا يشبه شعر نيرودا , حيث يمثل البحر الاستعارة الكبرى : فهو مأوى الجمال , الحلم , الغضب , الظلم, القوة و بالطبع أحد الحدود الأخيرة للعزلة . في قصائد هذا الديوان لا تلعب المعاني و الأفكار وحدها دور البطل, و إنما أيضا تسيطر التعبيرات النموذجية لشاعر يتبنى الشاعرية الفكرية , ذلك الاتجاه الذي تتلاشى فيه أخلاقية الكلمة, وفي النهاية يعاد تعريف هدف القصيدة.
يعترف مارمول أنه لم يلجأ إلى علم الجمال في هذا الديوان, بل أنكر الصور المحلقة الضمنية, و تمسك بكل من حرية الإبداع الأدبي و الأرض الحقيقية التي يعرفها.
قلتَ سابقا إنه عند الرجوع لطبيعة العلاقة بين اللغة والمجتمع و التاريخ في الأدب اللاتينى, سنجد انفصالًا بين الكتُاب و الواقع, كيف ترى اليوم هذا الانفصال؟
الأدب هو ظاهرة تنتج أساسًا من ارتباط اللغة بالثقافة في لحظة محددة, و هو ينبعث من توترات الاتصال أو الانفصال المتعلق بالانتماء للتاريخ غير المدون للفعل اللغوي و الأدبي, إنه أيضا موقف جمالي محدد, مفهوم خطابي, تجريبي, عبر لغوي, فلسفي. ومن هنا لا يمكن فصل القصيدة أو الرواية أو القصة أو المسرح أو المقال عن التاريخ, و تكون مهمة الأدب دائمًا هي نقل الحدود المعرفية و الفردية و الاجتماعية للحالة التي رآها تولد عبر اللغة و تلك هي المعضلة الأساسية التي أشار إليها بارت.
بعد سقوط نظم الحكم الشمولي في الثمانينات, أفرزت تلك الأحداث, مواضيع و مشاهد و لغة جديدة في المجتمع و بالتالي تعبيرات جديدة في الفنون و الأدب و الثقافة والتي لا يمكن إخضاعها بأي حجة, لأنها لا تقاوم نظم تحليل أو تفكيك النص الإبداعي الذي كان موجودًا في العقود السابقة. هذا الانفصال يعتمد على تلك النماذج القديمة و التحولات التي حدثت أمامها. اليوم نرى حيوية كبيرة في الأدب و الفن اللاتيني أكثر من أي جزء في العالم . حيث لعبت عولمة التجارة و الثقافة دورًا هامًا جدًا فيما يتم االتفكير فيه و كتابته و استهلاكه ثقافيًا, و يكون الشيء الأكثر أهمية في ذلك هو ترك أثر ذي نبرة مميزة في غمار هذا الحفل العالمي الصاخب .
كيف ترى البحر؟
البحر هو شيء لم يكن له اسم قط, شيء اخترعته أنا, البحر هو عيناي الاثنان, كتبت ذلك في ديواني الأول (عين العراف), اختصر (مارتي) البحر في كلمتين هما, "الموت الكبير" , كما صوره ليوبولدو لوجونس كشيء ملييء بالحاجات الذكورية, أما (أكتافيو باز) فهو لم يكتشف فقط الجزء الكسول والبطيء فيه و إنما اعتبره رمزا للجمال عندما قال "البحر الذي يموت و يولد في انعكاس ما" , و أكد على ذلك أيضا, الدومينيكي (إنريكي إيوسبيو) عندما شبه أمواجه بالحمامات الرشيقة التي لم تستطع أبداً أن تطير, كما أن هناك كثيراً من الانطباعات و التعريفات الأخرى ( لأوميرو) و( مانويل رويدا) و( باول فاليري) الذي حول تلك المياه إلى استعارة غامضة لمقبرة.
أما من وجهة نظري, يكتسب البحر بعدًا وجوديًا , وهو ليس بعدًا عرضيًا أو مجرد بعد ثقافي, بل هو يصيغ إدراكي الخاص للكون و نشأته, قوانين تتبدى في الكلمة و القصيدة, هو قوة عظمى في الطبيعة و مساحة هائلة من التنوع الحيوي, مصدر للغنى الاجتماعي, و المناظر الجميلة . البحر هو استعارة هائلة للعالم و الحياة لا يمكن قياسها.
منذ خمسة عشر عاما كرست نفسك لكتابة مجلد عن أخلاق الشاعر و الشعرية الفكرية, حدثني عن ماهيته اليوم؟
بالرغم من التقدم الفكري و العلمي وظهور دراسات عن أخلاقيات علم الأحياء (1), و اكتشاف (بوزون هيغز) (2) الذي قدم تفسيرات جديدة للكون, و إلغاء فكرة الإله عند البعض, ظلت أخلاقيات الشاعر كما هي أو ظلت له نفس المتطلبات, و ظل علم الأخلاق من حيث الشكل أو بالأحرى من حيث اللغة كمادة أولية سببًا لخروج العمل الأدبي. إنه شكل يتناول أخلاق الإبداع بدءاً من اللغة ككيان رمزي – دون الخروج عن التاريخ, أو تنحية الظواهر الأيدولوجية و السياسية و الاجتماعية جانباً أو التقليل منها – إلا أنه قد يتجاوزها كتعبير عن الحرية. ذلك الشكل الذي تحدثت عنه في كتاب (أخلاق الشاعر 1997),هو صوت الفكر, فالأخلاق هي حالة من الوعي . تلك الحالة لا تختفي كالمادة, بل يتغير شكلها.
أعلن (خابيير سيثيليا )عن موت الشعر في كونه, كما أكد ( راؤول زوريتا )الكاتب التشيلي, بعد أن نشر ثمانمائة صفحة من الشعر, أن جزءاُ كبيراُ مما نفهمه من الشعر يعكس ما يسمى بالتجربة الداخلية, حيث توجد فقط الأصداء و ليست الأصوات. ما هو الشعر بالنسبة لك؟ و ما دوره؟
الشعر هو التعبير الجمالي الأكثر سمواُ في اللغة, فضلاُ عن أهميته الكبرى تجاه أية ثقافة أو مجتمع أو زمن. ومن هنا يمكنك أن تتصوره كقوقعة مظلمة في مستطيل من الماء, أما في منظور (لزاما ليما) هو مرض معدي و خطير لا علاج له أو هو السلاح المعبأ للمستقبل, كما يرى (جبرييل سيلايا ). الشعر هو بالتحديد قوة رمزية للغة. هو يعمل على كشف أخلاق و إسلوب الشاعر, هو أداة لممارسة سحر اللغة, و عند بورخس هو خالق لعوالم صغيرة من خلال الخيوط الجذمورية التي تنسج الفكر و الشعور في مادة اللغة. الشعر لا يموت, قد ينفد أو يفقد حيويته و لكنه لا يموت.
فيما يتعلق بحرية الإبداع الأدبي , كيف ترى المنطقة التي تحدد فاصلًا بين المقال و النثر و القصيدة، كيف تستطيع ان تتغلب على تلك القوالب المفروضة من حيث الشكل؟
الفكر و الشعور و الكلمة هى كيان جرانيتي. الأفكار و المشاعر لا تكفي لصناعة قصيدة, و قد كشف مالارميه عن سبب ذلك. لأن القصيدة هي أساسًا كيان من الكلمات.
عبر (هيراكليتس وبارمنيدس )عن القدر الأكبر من فلسفتهم في قصيدتين . كما كتب (هوميرو) الملحمة الكبرى للتاريخ القديم في أبيات شعرية , و كتب أيضا (ماريو بيندتى) رواية ( عيد ميلاد خوان أنخيل) في شكل شعري , و (أوكتافيو باز) الذي كتب مقالاُ مذهلاُ يسمى ( القوس و القيثارة) يمكن قراءته كقصيدة نثرية. ذكرت فقط بعض النماذج التي فيها تبخرت أو تخففت أو اختفت تلك الحدود الشكلية التي أشرت إليها. أسست البلاغة أو نظرية الخطاب حدوداُ قد أسماها بعض المتخصصين مثل (فوكو) و( بارت) بالبنى الخطابية. رهاني هو تجاوز تلك الحدود في الممارسة الكتابية و تخطي تلك العقبات و تحقيق حلم (باطاي) و هو التجاوز الشفهي للعالم .