القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 10:35 ص
( سنام ) فتاة ذات ملامح خاصة ، تجعلها أشبه بجنيات الحكايات الشعبية ، وبعرائس ( والت ديزنى ) ، أو فتيات الحواديت ( ذات الرداء الأحمر ) . وهذا يجعلها موضع الاهتمام فى كل مكان تحل فيه . وكل من يراها يشعر بانجذاب غامض نحوها ؛ بجمال وجهها الرائق ، خاصة أنفها الدقيق وشفتيها الرقيقتين ، وأذنيها اللتين لم يجد السرد وصفا مناسبا لتعينهما ، فاكتفى بالقول : إنهما لم تخلقا لأحد من قبل .
هذه الفتاة نفسها تعانى من فجوتين غائرتين فى النفس ؛ يتصل إحداهما بالأخرى ويتبادلان التأثير ، حتى لا نعرف أيهما السبب فى وجود الثانية ، وأيهما أسبق فى الظهور . فهى تعانى من مرض نادر يأكل خلايا مخها ، ويمتد إلى أعضائها الأخرى ؛ مسببا نوبات من الصداع المبرّح ، تتركها فاقدة الوعى وطريحة الفراش لأيام متصلة . كما تعانى من عدم انسجام مع عالمها المحيط ؛ حيث تراه ممتلئا بالعنف وبالزيف . ولا سبيل أمامها لتخطى هذا الفراغ إلا بالسفر ، فترتحل من حدود العالم الظاهر إلى أغوار نفسها ، باحثة عن الحقيقة ، مستعينة بالرياضيات الروحية ؛ بداية من اليوجا وفلسفة الكارما ، وانتهاء بالتصوف الإسلامى والالتصاق بالطبيعة فى صورتها البكر المعزولة عن مظاهر الحضارة المعاصرة فى حضن جبال منغوليا وجليدها بربيعه القصير ، قبل أن تنتهى إلى سلام دائم فى حضن حبيبها الذى غابت عنه عاما كاملا فى قلب القاهرة .
وهى الرحلة التى تنقلها ماديا بين قارات العالم المعروف ، من أمريكا إلى آسيا ثم أوروبا فعودة إلى أمريكا قبل أن ترتد إلى آسيا ، ومنها إلى ( منغوليا ) ، ومن ثم تعود إلى ( القاهرة ــ أفريقيا ) لتكون ختام الرحلة فى حضن حبيبها الغائب .
وهى رحلة تستغرق زمنيا عامين متتالين ( 2004 ــ 2005 ) وإن تكن حسب مسار الحكى ترجع إلى ما قبل ذلك حيث الطفولة والمراهقة ، كما تمتد بعد رحيلها فى صورة حبيبها الذى يستأنف الحكى مسجلا تفاصيل الرحلة على الورق .
وبالـتأمل فى تفاصيل الحدث الروائى / الأحداث / المواقف المتعلقة بتلك الروح ، وعلى مستوى التعدد الزمكانى فيها للرحلة ، بداية من طفولتها ( تحديدا من المشهد الذى ترفض فيه تلك الطفلة مبدأ العقاب القائم على إحراق العصاة فى الفكر الدينى ) يمكننا أن نتبين بيسر أننا أمام روح مستعدة بالفطرة للبحث ، ومهيأة لتقبل مظاهر الجمال ، وترفض أى مظهر للعنف ، حتى لو كان نتيجة طبيعية لاقتراف الأخطاء البشرية . وبلغة ثانية ، نحن أمام روح شفافة ، والرواية ذاتها تؤكد هذا بالحديث المتكرر عن مواقف الكشف الصوفى التى مرت بها تلك الروح ، بداية من تجلى النور الإلهى والاتصال بالأرواح العليا ( ص 38 ــ 39 ) ، مرورا برؤيتها للصديقة المتوفاة فى الصين ( ص 87 ) ، ثم رؤيتها لعودة الزوج المنغولى الغائب ( ص 118 ــ 119 ) . وهى الرؤى التى تقف فى مقابل تلك المناقشات ( المادية ) الجادة حول حقيقة الموت والحياة من وجهة نظر من لا يؤمنون بالروح ولا بالحياة الروحية . وقد تكرر مثل هذا المشهد ثلاث مرات مع أصدقائها وبعض العابرين ( مايلز وتشونج وبيتر ) . وهو ما يصنع ( بانوراما ) فكرية موازية لحقيقة الحياة / الموت ( الرحلة ) ككل على المستوى الإنسانى كله وليس على مستوى ( الروح / سنام ) موضوع الحكى .
نحن إذن أمام رحلة خاصة للروح ، تذكرنا برحلات المتصوفة فى بحثهم عن الحقيقة ، مستعينين بلغات الطبيعة ( ولنتذكر هنا منطق الطير لفريد الدين العطار وكليلة ودمنة لبيدبا الفيلسوف الهندى بترجمة وتحرير ابن المقفع ، وربما تذكرنا أيضا إخوان الصفا وغيرها من الكتابات المشابهة ) . وهى الرحلات التى تقف أمام المظاهر المادية لهذا العالم فتفككها ، لتكشف عن أصولها الروحية . وهى الأصول التى تتحدد وتعود إلى مصدر واحد ؛ قد نسميها الروح العليا ، أو الروح المطلق ، مهما اختلفت طرق الوصول إليها أو أماكن السعى إلى اكتشافها .
وهى أيضا رحلة ليست معزولة عن أحداث العالم وشخوصه ، فهى تتصل دوما بأشباهٍ آخرين ؛ باحثين عن الحقيقة أو منكرين لوجودها بالكلية . وبالأحرى ، الأحداث والشخوص تبدأ دوما من نقاط ثنائية التكوين ؛ أحدها مادى ، يمثّل العالم بصخبه وتوتره . والثانى روحانى ، يمثّل رحلة البحث . ومن هذه الثنائيات تنطلق الأحداث جامعة الشرق والغرب ، تفترق فى نقاط البداية ، وتجتمع فى مركز وحيد وأخير ، بعد أن تتحول من ظاهرها المادى إلى باطنها الروحى .
كل هذا فى هذه الرواية البديعة : ( الروح الثامنة ) لنرمين يسر . والبداية من العنوان . فالعنوان فى هذه الرواية هو المفتاح ، وهو العتبة الأولى التى يجبرنا تمثّلاتها على التوقف أمام دلالاتها المتعددة . لا لاعتقاد شخصى بضرورة التوقف أمام العنوان فى كل الحالات جريا على عادة من يتبنى وجهة النظر هذه فى قراءة العمل الأدبى ــ على تقديرنا لأصحابها ولما يقدمونه فى هذا الشأن ــ وإنما لكون العنوان نفسه يفرض حضوره وتمثلاته فى هذا العمل البديع .
وعنوان الرواية : " الروح الثامنة " يثير التوقع بتعدد مرات انبعاث الحياة بعد الموت ؛ اعتمادا على معتقد شعبى عن تعدد أرواح القطط ؛ التعدد الذى يبلغ سبعا . والكاتبة تؤكد هذا التوقع بالإشارة اللافتة عن تلك القطة التى تنتفض بعد الموت فى حادثة سير اعتمادا على أرواحها السبعة أو التسعة فى قول آخر ( ص 6 ) .
غير أن الكاتبة تخالف التوقع بتحديد الرقم ثمانية فى عدد الأرواح المذكورة لا سبعة ولا تسعة ، ربما لتشير إلى أن التعدد المذكور لا يعنى بالضرورة استنفاد كل مرات الحياة الممكنة ، فقد تنتهى تلك الحياة من المرة الأولى ، وقد تنتهى فى الثانية أو حتى التاسعة ـــ الحد الأقصى لعدد الفرص المتاحة . وربما أرادت بهذا الإشارة إلى أن بطلة الرواية المذكورة استنفدت من قبل الحد الأدنى من فرص الحياة المتفق عليها فى المعتقد الشعبى ( سبعة ) ، وأن هذه الفرصة الجديدة هى منحة إضافية لتحقق ما عجزت عنه من قبل . وربما أرادت من هذا القول : إننا بحاجة دوما لفرصة إضافية نستدرك بها ما فاتنا بعد أن نرى بوضوح الحقيقة التى كانت طيلة الوقت أمام أعيننا وعجزنا عن رؤيتها أو عجزنا عن الاستجابة لمتطلباتها . وربما أرادت أن هذه هى طبيعة البشر الفانية ؛ الطبيعة التى تؤجل اتخاذ القرارات الحازمة فى الوقت الملائم ، حتى إذا ما بلغ بنا العجز مبلغه انتفضنا فى محاولة أخيرة لإدراك ما فاتنا . وربما أرادت أن أمامنا دوما فرصة أخيرة لاستدراك ما فاتنا ، حتى لو استنفدنا كل فرصنا المتاحة وظننا أن لا شئ جديد يمكن أن نقدمه .
كل هذه رسائل أساسية يمكن أن نفهمها من العنوان فحسب . وهو عنوان لافت يدعو إلى التأمل ، على أن نضيف إليه صلته ببطل الرواية أو بطلته على وجه التحديد ، فهى فى هذا العنوان تتخذ صورة القطة متعددة الحيوات ، فى إزاحة مباشرة للدلالة ، واستعارة صريحة للبديل الطبيعى ( القطة ) ؛ البديل الذى يبدو أنه أقرب إلى فطرة الحياة واستجاباتها الضرورية ، فضلا عما يشير إليه من مرونة وضعف وجمال والتصاق بحياة الإنسان ، سيما الأنثوية فى جانبها ، إلى جانب قدرتها ــ القطة ــ على مواجهة أخطار عدة بما لديها من مرونة وإمكانيات تستطيع استنفارها أوقات الخطر ، استلهاما أو استمدادا من حياتها الطبيعية الوحشية ؛ الحياة التى نسيناها بحكم الإلف والاندماج فى صور الحضارة .
نحن إذن بإزاء خطاب أنثوى مباشر ، يصطنع القوة فى مواجهة مخاطر الحياة . وهو الخطاب الذى لا يخفى هذا الاصطناع بتصريحه الغريب فى مقدمة الرواية أيضا : " كم أشعر بالقوة تتفق من بين أصابعى وأنا أدفع شخصا لأن يفعل ما أريد ، وأحدد لشخص آخر ماذا يقول وكيف يتحرك وكيف يأكل ومن يعشق .... أو بإمكانى حتى أن أجعله ينتحر بضغطات قليلة على حروف الكيبورد أصنع له قدره " ( ص 5 ) .
والغرابة التى أعنيها تأتى من وجود ( مقدمة ) للرواية فى تقليد كنا نسيناه منذ مضى عهد الروايات الكلاسيكية فى صورتها الأولى ، حين كان الكاتب يقدم لعمله بصفحات تشرح وجهة نظره ، وتمهد الطريق أمام جنس أدبى جديد على القارئ العربى . وتأتى أيضا ــ الغرابة ــ لأن المقدمة هنا ـــ فى هذه الرواية ـــ لا تشرح وجهة نظر الكاتب فى طبيعة ( الجنس ) الروائى ؛ وإن هيأت القارئ ( المعاصر ) لموضوعها بضمير ملتبس ( وأنا ... ) .
هذه الأنا لا تعنى بالضرورة الكاتب ، لكنها تنصرف إلى الراوى أيضا ، كما تنصرف إلى البطلة الرئيسية التى يدور حولها الحكى . ومن ثم فنحن أمام شُعَب ثلاث لتلك الـ ( أنا ) : الروائى ــ المؤلف / الراوى / البطلة . خاصة أن هذه الأنا تختفى بداية من الفصل الأول أو الجزء الأول من الرواية ، ومن ثم تترك الحكى كله لأبطال آخرين ، يتحدثون عنها ، ويروون علاقتهم بها ؛ رواية تتوضح من خلالها شخصيتها الغامضة حتى نصل إلى ختام الرواية .
وهنا يجب أن نلتفت إلى فكرة ( الحكى ) الذى تعتمد عليه الـ ( أنا ) المذكورة بإقرارها فى المقدمة من الرواية ( ص 5 ) : " هى حكاية من حكايات التورط الأبدى المسمى بالحياة .. فى قلب كل راو .. فى خفقة كل عاشق .. فى طعم الملح على كل طبق .. وفى داخل كل شنطة سفر . كنت هناك أدوّن أقدارا جمعتهم .. " فمفهوم الحكاية وفكرتها يردنا مباشرة إلى الأصل فى الحكايات الشعبية التراثية ، وعلى رأسها ألف ليلة وليلة ببطلتها الأسطورية / العلامة المطلقة للأنثى ( شهرزاد ) . ومن ثم فهو يؤكد أصالة هذه الأنثى وقدرتها على مواجهة ( الأقدار ) بصعوباتها الجمة ، مفيدة من قدرتها على الحكى كامتياز حصرى لكل أنثى ، سيما فى براعة ( الحدوتة ) التى ترويها . غير أن الحكى هنا ( أو الموضوع / الحدوتة ) يتجاوز هدف شهرزاد الأسمى حيث تواجه سلطة الرجل وتسلطه على رقاب (الإناث ) ـــ كما فى ألف ليلة ــ إلى مواجهة ( تشعّث ) الذات وتشتت المصائر ، وصولا إلى التحكم بها وتقرير ما تنتهى إليه .
وهذا يلفتنا إلى صلة أخرى من صلات هذه الرواية بألف ليلة وبالحكايات الشعبية عامة ؛ إذا ما تذكرنا البنية الأساسية التى اعتمدت عليها الليالى ، حيث يتوالد الحكى أو الليالى من الحكاية المرجعية أو الحكاية الإطار فى الليالى .
ونحن هنا أمام ما يشبه هذا التوالد ، فكل فصل من فصول الرواية يأتى على لسان بطل من أبطالها ، يروى الأحداث من وجهة نظره ومن حيث صلته المباشرة بها ، موضوعا كله فى إطار زمنى / مكانى ، يحدد إطار الأحداث المروية ، ويتقدم بها فى خط زمنى متتالٍ ؛ وإن اخترق هذا التقدم الخطى للزمن استرجاعات زمنية تكشف عن بعض التفاصيل الغامضة فى الخط الأفقى للحدث المروى ؛ خاصة فى ختامها الذى تتضام فيه الاحداث مجتمعة لتشكل صورة المصير النهائى .
والعجيب أيضا أن احداث الرواية تدور وتجمع بين أماكن عدة وقارات مختلفة محددة بدقة أسماء المواضع وتاريخ الأحداث التى تدور فيها ؛ حيث تبدأ من منطقة بعيدة عن ذاكرة القارئ العربى ( كابل ) . وهى المنطقة التى تثير فى الذاكرة بعض الأحداث الغامضة المتعلقة بهذا المكان البعيد ؛ سيما ما نعرفه عن اصول وسيرة قطز وبيبرس فى تاريخنا العربى . ثم تمر أحداث الرواية إلى ( لندن 2004 ) ؛ المكان الممثل لحركة وحيوية الحضارة الغربية الحديثة ، ثم ذهابا إلى ( الصين ــ شنغهاى 2005 ) ؛ المكان الذى يمثل بدوره الحضارة الحديثة ممزوجة بالأصول الشرقية المكينة . ثم الجنوح إلى ( مونتريال ـ كندا 2001 ) فى عودة إلى الزمن ومعها وجه من وجوه الحضارة المعاصرة فى جانبها الهادئ . وهو أيضا المكان الغامض بالنسبة إلى الذاكرة العربية المعاصرة ؛ حتى وإن تردد اسمه بين الحين والآخر . ثم العودة إلى ( منغوليا 2005 ) وهو المكان الأكثر غموضا بطابعه الأميل إلى القدم وجفاف الحضارة وجفاف المكان وتوحشه . ثم الذهاب إلى ( القاهرة ) دون تحديد للتاريخ ، ثم عودة أخيرة إلى ( مونتريال ) دون تحديد الزمن أيضا ؛ وإن فهمنا من مجريات الأحداث كونها تأتى فى قمة اللحظة الحاضرة .
وهذا يذكرنا بمسلك مشابه للشاعر القديم أيضا ( الجاهلى ) حين كان يحرص على ذكر مواضع الجزيرة العربية من شرقها إلى غربها . وهو المسلك الذى تم تفسيره بوصفه عملية تجميع رمزى لكل أطراف الجزيرة ضمن عملية مواجهة شاملة لمشكلته الوجودية مع الزمن الطللى . وما أعنيه هنا أن طواف بطلة الرواية وأحداثها بأرجاء المعمورة ـــ القارات الخمس على الأقل ــ يوشك أن يؤدى مثل هذه الوظيفة ؛ أى يساعد تلك البطلة على تجميع أطراف روحها المشتتة فى بقاع الدنيا ؛ سعيا لتحقيق هدفها النهائى من مواجهة مشكلة وجودية مشابهة مع الزمن والحياة ؛ وإن اسمتها حقيقة الحياة وحقيقة الموت .
وهذا يدعونا إلى أن نقف أمام وجه آخر من وجوه نظام الحكى أو البناء الذى اعتمدت عليه هذه الرواية ، حيث تشبه من هذه الجهة ؛ أى الحبكة التى اعتمدت عليها كتب الرحلات ، حيثل ينتقل المؤلف ( الروائية ) من مكان إلى مكان . ومع كل مشهد جديد يحل به يصف لنا ما يراه من سمات المكان وطبائع زمانه الخاص ؛ قاصدا بذلك أن ينقل لنا ( روح ) المكان ، بغموضه وبظلاله المحيطة .
والرواية تفعل شيئا قريبا من ذلك ؛ إذ تعتمد المؤلفة على تقسيم روايتها إلى فصول ـــ دون ذكر كلمة فصل ـــ يتصدر كلا منها عنوان يحدد المكان ويحدد زمن الحلول به ( كابل 2004 ـ لندن 2004 ... ) وهو تقسيم ذو صلة واضحة ومباشرة بفن كتابة السيناريو ؛ من حيث تحديد الزمان والمكان والسياق المحيط ، حيث إن الحبكة تنقل موضوع الرواية كلها إلى خانة السيناريو المكتوب ، فى فعل دال ؛ يقوم فيه ( البطل الموازى / الحبيب المجهول / الكاتب ـ المؤلف الضمنى ) بإعادة تسجيل الرحلة كلها ، راويا لها بين قوسين ( بداية الرواية ـ المقدمة / ختام الرواية بصوت الراوى / المؤلف / كاتب السيناريو الضمنى ) فى خانة سيناريو يعتزم إخراجه . وهذا كله ما يعطينا فكرة عن الطريقة التى تصورت بها المؤلفة الأحداث ؛ وربما هو ما فرضته الأحداث نفسها من حيث إن الصوت الأخير فى الرواية هو صوت الحبيب القاهرى بعد أن ماتت البطلة ( سنام ) وقد جلس ليسطر قصتها فى صورة سيناريو يعده لمشروع فيلم انتظره طويلا ليتخطى الإخفاق ( الفشل فى تحقيق النجاح المطلوب فى آخر عمل قام بإخراجه ) فى حياته ويستأنف رحلة النجاح .
أعود إلى فكرة العنوان ، وكما يمكن أن يلحظ القارئ ، يشمل الانتقال بين هذه الأماكن المتباعدة فى الرواية الطواف بأرجاء الكون المعمورة فى قاراتها الخمس ، ممثلا فى أقرب معالمه وأبرزها ( سنام / بطلة الرواية ) . وإذ يمثّل البحث عن الحقيقة المطلقة للحياة والموت سعيا لإدراك السلام الداخلى سببا رئيسا لذلك التطواف ، فإن الرواية فى مجملها تشبه رحلة خاصة ( للروح المطلق ) ، بداية من كابل وانتهاء بمونتريال
وهذا التطواف بين حضارات مختلفة وطبائع متباينة للمكان وللزمان معا ولمن يسكن فيهما يبرّره موضوع الحكى وترابطه ؛ إذ صاحبته البطلة / القطة تنتقل من حدث إلى حدث بحكم العمل ، ولكنه أيضا تحقيقا لهدفها من البحث عن الحقيقة المطلقة ؛ الحقيقة النهائية لعلاقة الموت بالحياة ، فى رغبة ملحة وواضحة لإدراك السلام النفسى والتواؤم مع كل هذه المتناقضات من أحداث وأمكنة وبشر وحضارات .
وهو السلام الذى لا تجده البطلة فى صور الترف الحضارى المعاصر ، وإنما تجد أطرافا منه فى أصول الطبيعة والالتصاق بتجلياتها فى منغوليا مرة ، وفى كنفوشيسية الصين واليابان مرة ، وانتهاء بتجليها الأسمى فى صوفية الإسلام بصورها المختلفة . وهى التجليات التى تؤكد أن المصدر الروحى واحد ؛ وإن اختلفت صور التجلى وسبل الوصول ؛ حتى فى ذلك الحكى الذى تقدمه الرواية بوصفه أداة من أدوات الوصول الصوفى على الأقل فى مرحلته الأولى المعروفة بـ ( التخلى ) ، أو فى تجليات الفن تشكيلا وتوثيقا .
وهنا قد نتذكر عددا من مشاهد الرواية اللافتة ؛ أبرزها فى ظنى ذلك الموقف حيث تدور البطلة مع معلمها الأول لطقوس الصوفية وهى تدور حول نفسها مغمضة العينين ، ببطء أولا ثم فى تسارع يفصلها عن العالم حولها ( انظر الرواية ص 36 ـ 39 ) . وكأن هذا الدوران وهى تمتم باسم الله إشارة رمزية مكثفة لاستدعاء وتجميع كل طاقات التصوف المبثوثة فى الكون ، ما يجعلنا نرتد إلى فكرة الطواف بأرجاء الأرض بحثا عن نقطة الضوء المسماة الحقيقة .
هذا المشهد وسواه يدعونا إلى التوقف وقوفا خاصا أمام تلك المشاهد ودلالاتها . وهو ما يقودنا إلى ملاحظة أخرى شديدة الأهمية فى بنية الرواية ؛ إذ الأبعاد الروحية التى اعتمدت الرواية على وصف تجلياتها واشتباكها بحياة الإنسان هى التى وفرت الجانب الغامض أو الجانب السحرى لأحداثها المتلاحقة فى إيقاع سريع ؛ جسّده تحديد أزمنة الحكى والانتقال بينها . ومن ثم صنع هذا الجانب تقابلا بنيويا واضحا ، جعل الأنا المذكورة ذات وجهين : روحى صرف يبحث عن نفسه فى داخله وفى تجليات الطبيعى والوحشى من حوله ، ومادى ينشغل بتصاريف الحياة ويتابع الانتقال بين تداعياتها المختلفة فى أرجاء الأرض . وإن تكن الأحداث نفسها تؤكد أن المعضلة الأساسية التى تواجه تلك الذات أو الأنا أو الروح تكمن فى صعوبة تحقيق حالة السلام النهائى فى مواجهة أشكال التسلط المادى على حياة الإنسان .
وبالتالى فنحن قد نصل إلى رسالة أخيرة تقدمها هذه الرواية ، تتمثل فى المجاهدة الضرورية والمستمرة لصور الاستعلاء والإحساس بالقدرة المادية الذاتية . فهذه المجاهدة هى السبيل وهى الضامن لإعادة التوافق الروحى بين الإنسان والطبيعة من حوله ، وبينه وبين من يشاركونه الزمان والمكان ، الذاكرة واللحظة الآنية . ووراء هذا كله روح غامضة ، تظل بحاجة إلى التحرر من كل صور المادة ؛ الجسدى منها وغير الطبيعى ، لعلنا بذلك نحصل على فرصة إضافية لإدراك ما فاتنا ، أو لعلنا نستدرك به على أخطاء كبرى ارتكبناها ، ولعلنا فى الحالة الأفضل ندرك بها أملا أخيرا فى التوافق والانسجام مع طبيعتنا وذواتنا ، سواء فى ذلك إن كانت فرصتنا المتاحة هى الثامنة ، أو الأولى ، وسواء فى ذلك أكنا قططا وحشية أو أرواحا شفافة هائمة .