القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 10:24 ص
كان العرب منذ الألف الأول قبل الميلاد شأن بقية الأقوام السامية يمارسون طقوسهم الدينية مقترنة بالغناء , فقد كان التقرب إلي الإله العربي النبطي يقترن بالتراتيل , كما كانت قصور الملوك والموسريين تجتذب المغنيات ( القيان )ومن أشهرهن " الجراداتان "اللتان يرد ذكرهما في كتب الأدب والتاريخ العربية , وكان غناء القيان يؤدي بمصاحبه العزف علي آلة ( المعزف ) كما عرفت آلات أخري مثل : الموتر والقصابه ( الناي ) والمزمار والدف والمزهر وفي بلاد الأنباط كانت الموسيقي التي تعزف علي آلات النبل والكنيرا ( القيثارة ) والسمبيكة والونج ... كانت تأخذ بألباب اليونانيين
كان عرب الحجاز ينظرون إلي اليمن كوطن أم للغناء العربي ولما بدأت الهجرة من جنوب الجزيرة العربية إلي الشمال منذ القرن الثاني للميلاد ساعد هذا الأمر علي ازدهار الموسيقي في سوريا ووادي الرافديين والحجاز وكانت سوريا في هذه المرحلة ماتزال تحتفظ بثقافتها السامية القديمة كما امتزجت ثقافة العرب الانباط المهاجريين بثقافتها هذه لاسيما في عهد الغساسنة
وكان وادي الرافديين أو الهلال الخصيب مركزا للحضارة السامية كما كانت الحيرة عاصمة العرب اللخميين ومركزا حضاريا هاما وعن طريقها انتقل الكثير من معالم الفن الموسيقي الفارسي إلي العرب , أما في الحجاز فكانت الموسيقي مزدهرة بعض الشيء قبل الإسلام إذ كانت عكاظ مركزا يتوافد عليه المتنافسون من الشعراء والمغنيين وتلقي وتغني فيها المعلقات . وفي مكة كانت العبادة تقترن بالتهليل والغناء والتلبية تحديدا عند الطواف حول الاله المعبود وقتها
أما الموسيقي غير الدينية فقد لعبت النساء القيان دورا بارزا فيها في قصور الملوك والحانات والمضارب والبيوت , وكان الغناء وقتها يؤدي علي طريقه الترجيع والجواب ( حيث تؤدي حروف المد في نهايات المقاطع الغنائية بطريقة الترعيش ) وكان الايقاع يظبط بواسطة آلات الايقاع" الدف و الطبل "
وكما نلحظ فأن الزخرفة اللحنية والتلوين في الايقاع كانا ومايزالا من السمات المتميزة في الموسيقي العربية
ونتيجه لتراكم المداخيل المالية التي وفرتها الفتوحات الاسلامية واستثمارات الاراضي , ظهرت في صدر الاسلام وفي أيام الامويين فئة من الناس ميسورة الحال كان في وسعها الانفاق إلي حد البذخ احيانا علي وسائل اللهو والامتاع وفي مقدمتها الغناء والموسيقي
وفتحت بعض البيوت ابوابها لهواة هذا الفن فاصبحت اشبه بالنوادي الفنية المعاصرة , وتأثر الشعر العربي في هذه المرحلة بالغناء وأثر فيه فظهرت اوزان شعرية جديدة وتم تحوير بعض البحور القديمة حسب مقتضيات فن الغناء
ومنذ صدر الاسلام ازدهرت الاغنية العربية بمصاحبه العود الذي كان يصنع وقتها من الجلد حتي ظهر العود الفارسي في حدود عام "685" فتغيرت صناعة العود العربي الي الخشب حتي وقتنا هذا
وقد سجل كتاب الاغاني تراثا كاملا للغناء والشعر العربي من الجاهلية حتي ايام هارون الرشيد ويتألف من 21 مجلدا وهو مكرس لموضوع المئة صوت (لحن )التي طلب هارون الرشيد إلي إبراهيم الموصلي واسماعيل بن جامع وفليح بن أبي العوراء اختيارها من بين الذخيرة الهائلة من الاصوات الغنائية التي تجمعت من أيام الجاهليه حتي عصره
ومع أن الموسيقي العربية قد شهدت ذروة ازدهارها في العصر العباسي الأول إلا أن هذا الفن واصل تألقه حتي في عصور الانحطاط السياسي وحظي بالاهتمام حتي في الاوساط الاكاديمية حتي اصبح واحدا من المربع الرياضي ( الحساب والهندسة والفلك والموسيقي ) وفي أثناء ذلك دخلت إلي العالم العربي آلات موسيقية جديدة وظهرت مؤلفات وأبحاث نظرية عديدة بلغت في عددها حوالي مائتي مؤلف . كتبت بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين من ابرزها ( رسالة في خبر تأليف الالحان ) للفيلسوف الكندي والتي توجد مخطوطتها في المتحف البريطاني وتستند في معظمها إلي مراجع اغريقية ويرد فيها ذكر لنظام التدوين الصوتي الموسيقي بالحروف الأبجدية . هناك أيضا كتاب الفارابي المعنون بكتاب الموسيقي الكبير وهو أهم كتاب موسيقي إسلامي ظهر إلي الوجود
وكان الخوارزمي يسمي الاوكتاف ( الجواب ) في كتابه " المفاتيح " المسافة التي بالكل ويسمي النوته العليا " صياح " والنوته الدنيا "سجاح " ويقول " خوليان ريبيرا " إن هذه الطريقة التي ورد ذكرها في " المفاتيح " تؤكد النتائج التي توصل إليها " لاند " في دراسته عن الفارابي بأن المسلمين استعملوا السلم الطبيعي المستعمل حاليا في أوروبا .
وفي كتاب" ابن سينا "( الشفاء ) فصل مهم جدا عن الموسيقي , يتطرق فيه إلي ذكر ضرب من الزخرفة اللحنية لأول مرة وهي بالتحديد : عزف الاوكتاف مع النغمة الاساسية ويسمي ذلك تركيبا
وإلي زرياب ينسب إضافة وتر خامس للعود واستبدال المضرب الخشبي بريشة نسر جعلت العزف علي العود أخف بفضل مرونتها كما ادخل طرائق جديدة في تعليم الموسيقي
ومن المعروف أن الشرق مهد العديد من الآلات الموسيقية المعروفة اليوم وبعضها تطور أو ابتكر بالعالم الاسلامي , ويقول " ادجرلي "في كتابه " هانترز بو" هناك أكثر من 120 آلة موسيقية عربية معروفة اليوم ونصفها علي الاقل كان معروفا منذ القدم وكثير منها كان أصل الآلات الحديثة فقد كان هناك 32 صنفا من الأعواد و12 صنفا من آلات القانون و14 صنفا من الآلات الوترية وثلاثة أصناف من القيثارات و28من النايات و22 من الاوبوا و8 أصناف من الأبواق وعدد لاحد له من أصناف الطبول
وقد خلف الباحثون المسلمون منذ " الكندي " وحتي " الجرجاني " دراسات مهمة في الموسيقي النظرية وماكتبه الفارابي واخوان الصفا في علم الصوت كان متقدما علي اليونانيين ولاشك أنهم اعترفوا بفضل اليونانيين كأساتذة لهم لكنهم كانوا يملكون حسا نقديا عاليا يؤهلهم لتشخيص أو رفض بعض الأخطاء اليونانية الفاضحة كتلك التي تتعلق بالضوء فقد كان اليونانيون يعتقدون أنه ينتقل من العين إلي الجسم ثم صحح" الحسن بن الهيثم" هذا الرأي الخاطيء وأكد انتقال الضوء من الجسم إلي العين ويقول "هنري فارمر " أن التعليقات العربية علي كتاب المباديء في الهندسه "لأقليدس " وكتاب النفس "لارسطو " لابد أن يكون لها مايوازيها في الفنون التأملية كالموسيقي .
وبلغت الدراسات النظرية الموسيقية الاسلامية ذروتها عند" صفي الدين البغدادي " في مؤلفيه "كتاب الادوار "و "الرسالة الشرقية " وكان صفي الدين موسيقيا صاحب حظوة في بلاط المستعصم أخر خلفاء بني العباس وناظرا لمكتبته
, ويعتبر النصف الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي واحدا من أهم المراحل في تاريخ الموسيقي النظرية العربية والفارسية وتستند الاساليب التحليلية التي ظهرت إبان تلك الفترة بالأساس إلي " كتاب الادوار " لصفي الدين الذي كان أول كتاب ذي قيمه وصل الينا منذ أبحاث " ابن سينا " و" ابن زيله "ومؤلف "شرح كتاب الأدوار "و" دره التاج في غره الديباج " لقطب الدين محمود الشيرازي و " مقاصد الألحان " لعبد القادر المراغي
واختلفت الآراء حول التأثير العربي علي الغرب في الموسيقي النظرية وبهذا الصدد يؤكد " هنري فارمر " أن العرب استعملوا مايدعي بالتركيبات أي العزف في أن واحد علي الاوكتاف مع نوتات أخري وأضاف قائلا : من المحتمل أن يكون التركيب البدائي الذي استعمله المسلمون كان سلفا للاورغانوم الاوروبي
وكان المستشرق الأسباني " خوليان ريبيرا " من المتحمسين للرأي القائل بوجود مؤثرات عربية في الموسيقي الاسبانية وكذلك الاوروبية وقد ضمن آراءة هذه في كتاب " الموسيقي في بلاد العرب واسبانيا
"حيث قال ( إن العرب الاندلسيين قد صنعوا اصنافا مختلفة من الأعواد وبأعداد مختلفة من الاوتار كما صنعوا العديد من الآلات الموسيقية الأخري التي انتقلت إلي أسبانيا ثم إلي أوروبا مع اسمائها , والأهم من ذلك أن قراءة تقنية لالحان هذه الأغاني تثبت علي أن المسافات الصوتية فيها اشبه باسلوب المنمنمات الموسيقية الإسلامية
ويحدثنا" فارمر " أيضا عن أن موسيقي عربية مدونة عثر عليها في مخطوتين للشاعر الأندلسي " الششتري " في حلب والقاهرة قد تطرقتا إلي بعض الأغاني المزودة باسماء المقامات والادوار الايقاعية التي تغني علي هديها الكثيرون هي مقامات قديمة جدا مثل – عراق- حجاز- حسيني- عشاق – الدوكاه –السيكا – والجهاركاه
ثم يخلص فارمر بالنهاية إلي القول : أنه بصرف النظر عن درجة قناعاتنا وشكوكنا حول مقدار التأثير العربي والإسلامي في الثقافة الاوربية يحسن بنا أن نتذكر أن المسلميين والمسيحيين الاسبان في ظل حكمهم كانوا علي مدي 700 عام هم الذين حملوا وحدهم مشعل الحضارة والمعرفة ساطعا ومتألقا أمام العالم الغربي , وأن هذه الشعلة هي التي اسهمت في تمهيد الطريق امام تقدم الموسيقي الأوروبية .