القاهرة 11 يوليو 2017 الساعة 10:01 ص
د. نجم عبد الله كاظم ـ العراق
كان مجرد سماع عنوان "لا تطفئ الشمس" كافياً بالنسبة لي لمتابعة مسلسل عربي، فأنا عازف، بحكم الانشغال والذائقة، عزوفاً طويلاً عن الدراما العربية، بعد أن صارت المسلسلات ومتابعتها بشكل عام شأناً تجارياً بحتاً، أما متابعة هذا البرنامج، فلأنه معَدّ عن إحدى أجمل روايات الكاتب الرومانسي الكبير إحسان عبد القدوس، ولأنها ارتبطت بشبابنا، بل بمرحلة من عمرنا عشنا وعاش فيها المواطن العربي نقاءَ الرومانسية سياسيةً واجتماعيةً وثقافية، وكانت هذه الرواية، والفيلم والمسلسل اللذان أُعدّا عنها في الستينيات، وروايات إحسان عبد القدوس بشكل عام أبرز ما مثّلها ومثّلنا. لكن المسلسل لم يحبطني ويصدمني فحسب بل آلمني جداً، حين وجدته يُطيح بهذه الرواية الجميلة، فيسيء للكاتب الكبير ولرمزية الرواية وأيقونيتها كما كُتبت وأُنتجت فيلماً ومسلسلاً قبل نصف قرن. من هنا تأتي وقفتنا القصيرة هذه عند هذا المسلسل. وواضح من مدخلي هذا، أني لست معنياً، في وقفتي هذه، بمعاناة المشاهد وهو يحاول فهم ما تقوله الشخصيات، في ظل عدم وضوح كلامها بسبب السرعة، واختلاط الحوارات بالموسيقى وعدم صفاء الصوت أحياناً، كما لست معنياً بالظلام المخيم على البيت في غالب الأوقات، ولا بأغنية التتر التي قد تكون أجمل ما في المسلسل. كما لست معنيّاً بما قد يقوله بعض مقدّمي ومقدمات البرامج مثل (لميس الحديدي) وهم يُغدقون بمجانية مطلقة صفات العظمة والعبقرية على المسلسلات والمخرجين والمؤلفين وكتّاب السيناريو والفنانين، أو يتغزّلون بضيوفهم أكثر مما يقيّمون موضوعياً أعمالهم، أو لا يترددون بتقديم حتى الكومبارس وكأنه فاتح الفتوح، ببساطة لأني أنشد الحقيقة والصراحة اللتين لا نكاد نجدهما عند أيًّ من هؤلاء.
( 2 )
في العودة إلى إحسان عبد القدوس، نقول إذا كانت "لا أنام" تقدم حالة إنسانية، و"الوسادة الخالية" موضوعاً بسيطاً ولكن ملفتاً، و"في بيتنا رجل" جوهر الإنسان الذي يظهر حين يُستفز هذا الإنسان، فإن "لا تطفئ الشمس" تقوم بشكل أساس على مجموعة شخصيات تجمعها عائلة قد تمثل مجتمعاً أوفئة اجتماعية، وعليه فإن أي خلل في تقديم شخصياتها، أو تحوير غير مناسب فيها قد يلغي خصوصية الرواية، بل قد يقضي عليها، وهذا تماماً ما فعله برواية "لا تُطفئ الشمس" كاتب السيناريو تامر حبيب والمخرج محمد شاكر خضير.وهكذا بعد أنا رتبطت الرواية بأجيال ومرحلة معينة، فإن السيناريست والمخرج، بعملية تشويه مارساها بحق الرواية، أساءا إلى تلك المرحلة، وإلى رمزية الرواية فيها. وأول ما تمثل هذا التشويه كان في أن إحسان عبد القدوس ما أراد (وساخة) الشخصيات، بل (أزماتها)، وهي تنفصل عن الخارج وتتعالى على الواقع من حولها،وهو تمثّل نماذج بشرية أو عوائل أو فئات في كل مرحلة يمرّ بها أي مجتمع على أرض الواقع، فغاب هذا كله عن المسلسل حين عمدالمخرج والسيناريست، بدلاً منه، إلى إضفاء وساخةً وانحرافات وتجاوزات على القيم العامة، وليست المرحلية. فنحن هنا نفهم أن لأي سيناريست أو مخرجأن لا يحبس نفسه بقيم مرحلة ربما ما عادت هي الحاكمة أو المسيطرة في مرحلة لاحقة. ولكن أن تكون هناك قيم متغيرة مرتبطة بمرحلة معينة لا يعني أن لهما أن يتجاوزاها متى شاء، بل إن التغيير يجب أن يتناسب مع طبيعة عالم العمل، والمرحلة التي يعالجها، وهو ما لم يراعِها السيناريست والمخرد حين تجاوزا القيمة الثابتة والقيمة المتغيرة، فما جاء سلوك أي من الشخصيات مقنعاً، لتكون النتيجة تشويه العمل، ولاسيما شخصياته المصرية، وكل ذلك بمراهقة واضحة.
هنا نتساءل إذا ما رضي المصري بأن يشوه السيناريست والمخرج عملاً خالداً مثل "لا تطفئ الشمس" ومؤلفاً عظيماً مثل إحسان عبد القدوس، فكيف له أن يرضى بتشويه الشخصية المصرية لا سيما المرأة، حين كدنا لا نعرف في المسلسل نساءً إلا وهن يخُنّ أو، في أقل تقدير، يقمن علاقات بفوضى وبجمعن أكثر من خليل، وينطلقن (على حل شعرهن)على حدّ التعبير المصري الدارج.فبعد أن عرفنا الصغيرة (آية/ ليلى) في الرواية شبه مراهقة لا تفتقد البراءة، تقع في حب أستاذها الكبير مما تقع فيه الكثير من الفتيات خصوصاً حين يفتقدن الأب فيبحثن عنه في رجل كبير السن، فإنّ المسلسل يُفسد هذا الجانب شبه البريء فيها ويُقدّمها وهي لا يكاد يضبطها ضابط، فتبدو في هذا وفي طريقة كلامها وسلوكها سكرى بخمر أو بدونه، فلا تتردد في إقامة علاقة مع أي رجل بمجرد أن تهواه اللحظة. وبعد أن قدّمت الرواية إحدى أجمل شخصياتها (نبيلة/ إنجي)واعيةًورزنة ومحبة باندفاع ولكن دون مغادرة للعقل، يُقدِم المسلسل، بدون مبرر مقنع، على مسخها تماماً، فتفتقد الاتزان في علاقاتها الغرامية وتُقدم على تعدد العلاقات والخيانة الزوجية وعلى الجمع بين أكثر من رجل بل على ما يقترب من الشذوذ. أما (فيفي/ أفنان) فبعد أن قدمتها الرواية معقّدة بعض الشيء بسبب افتقادها الجمال والحب وزحفها نحو العنوسة، يقدمها المسلسل مرتبكة السلوك وكأنها نصف مجنونة ونصف معقدة. وإذا لم تدخل الأم(ميدان الخيانة والتخبط في العلاقات)فإن المسلسل، وبعد تقديم الرواية لها وريثة لسلبية البيئة الباترياركية والطبقية، قدمها امرأة جافة ولا تُحسن إدارة بيتها، بل تفتقد كل مشاعر الأمومة خصوصاً حين تُقدم على طرد ابنها (آدم) بشكل لا يمكن حتى لأم مجرمة أن تفعله...وتمشياً مع هذه النخبة المشوّهة من الشخصيات المصرية، لا تكاد معظم شخصيات المسلسل الأخرى تسلم من هذا التشويه.
نعتقد أن ضمن أكثر ما فعله السيناريست والمخرج بالشخصيات، حين عمد على نسفها كما قدمتها الرواية، كانت سطيحها، وهو الأمر الذي قد يتضح، إضافة إلى ما عرضنا، في ما فعلاه بالأخ الأكبر (أحمد/ أحمد)، فقد عرفناه في الرواية شخصيةتعيش صراعاًغيرمعلن مابين إرادة مجتمع وعائلة وريثة لأرستقراطية في طريقها إلى الزوال،وعليه أن يسهم في المحافظة عليها فيظل عدم وجود أب، بأن يكون رزناًوملتزماًوربما شديداً،وإرادةالطبيعة التي يفرضهاعمرالشباب من حب ومتعة وانطلاق، لكن من الواضح أن السينارست لم يكن على إلمام بهذه الاشكالية، فمسخه إلى شخصية مهزوزة لم نكد نرها طوال الحلقات إلاوهي(محششة)،وبالكادتستطيع الكلام بكلمات تخرج مع الزبدوفحيح الأنفاس المتحشرجة. والأمر ينسحب على شخصية الأخ الأصغر (أحمد/ آدم)، الذي عرفناه في الرواية نقيّاً وصافياً، والأهم متمرّداً إيجابياً ويرفض ما يريد له الموروث الاجتماعي الطبقي أن يكون، ويسعى ليكون ما يريده هو، فجاء المسلسل ليقدمه بسطحية شبه مراهق متمرد بفوضى وشبه (شعنون).
( 3 )
وكما سل بالمسلسلُ الشخصياتِ ما كانت تتميز به من خصائص، فإنه حرم الممثلين الذين أدوها مما يمتلكونه فعلاً، فظهرت ميرفت أمين بنمط سطحي بارد وأداء آلي لم يتمثل فيه أي انفعال حقيقي، وظهر محمد ممدوح بصورة كاريكتيرية بائسة متحدثاً، كما أسلفنا، بحشرجات لا بكلمات، وبدت جميلة عوض وكأنها تؤدي مشهداً من دقيقة واحدة فقط(ربما هو الذي أدى إلى تهالكها وبقيت حبيسته)، حيث تبدو سكرى بلا خمر،وتتكلم وكأن الكلمات تتساقط منفمها، وأمينة خليل وكأنها محبوسة بأداء سابق،فليس من تغيير في طريقة كلامها وفي نظراتها وفي حركتها. وإذا ما خرج أحدمن حالات الموت التي أصاب المخرج بها جميع النجوم تقريباً، فإنه ريهام عبد الغفور، وإلى حد ماأحمد مالك وخالد كمال.
وإذا ما ادّعى المسلسل، كما يشير التتر، أنه يقدم الرواية برؤية خاصة، فإن هذه بكل وضوح ليست رؤيةً، بل تشويه الرؤية عبقري الرومانسية العربية إحسان عبد القدوس وقتلاً لإحدى أجمل رومانسيات الأدب العربي، وتشويهاً للشخصية المصرية ولاسيما المرأة. وردّاً على ادعاء البعض بأننا يجب أن لا نغمض أعيننا عن السوء والسيّئ في المجتمع، نقول ما من أحد اعترض على تقديم "رية وسكينة" بجرائمهما البشعة فنياً بحجة الإساءة لمصر والمصري، ببساطة لأنهما شخصيتان سيئتان من وسط كبير، وهذا غير ما تقدمه بعض المسلسلات حين تقدم جل الشخصيات لاسيما النسوية ساقطة أو سيئة، تماماً كم يفعل المسلسل، وكما فعل من قبل علاء الأسواني، مثلاً، في "عمارة يعقوبيان" التي لا أدري كيف ارتضى أي مصري الاحتفاء بها وهي تقدّم جميع شخصياتهما سيئة أو منحرفة باستثناء واحدة، والمفارقة أن جميع هذه الشخصيات مصرية باستثناء تلك الشخصية فهي ليست مصرية.
بقي أن أقول بصراحة إنني، وأنا أرى هذه (المعالجة) البائسة والمسيئة للعمل ولشخصياته وللشخصية المصرية، شعرت بأنه لا بد لمن فعل هذا قد فعله وهو في وضع نفسي وإدراكي غير طبيعي أو غير متوازم، فلا يمكن أن يُقدِم مؤلف أو فنان على تقديم كل هذا السوء والتشوه ما لم يمكن هناك خطأ ما فيه لحظة العمل، مما أرى أن صورة اللقطة التي التقطتُها شخصياً من المسلسل تجسّده برمزية.ولعل ما قاد المخرج والسيناريست إلى فعل ما فعلاه،المبالغة في إطراء كراند هوتيل، فهي من نوع المبالغة التي تُفسد ولا تطور، وتحديداً حين يكون الممدوح شاباًفيتمرّد على كل ضابط ومعيار وقيمة ولسان حاله يقول أنا الذي أقدّم الضابط والمعيار والقيمة، حتى وإن قاد ذلك إلى إساءة إلى روائي كبير ورواية عظيمة، بل إلى الشخصية المصرية، مما لا أظن أن الروائي الراحل كان ليرتضيها، وعليه أملي أنْ لا يسكت ورثة المؤلف فيطعنوا بهذا الذي فعله المسلسل لرد الاعتبار للرواية والروائي والأجيال بل لشعب، على الأقل حين شوّه الشخصية المصرية.