القاهرة 07 يوليو 2017 الساعة 11:43 م
عماد مجاهد فـي مديح الذات .. و الكتابة الفارقة في كتاب "تراتيل الجرح ". ثلاثة وخمسون نصا فى مائة واثنتى عشرة صفحة مفتاح يقولعماد مجاهد واصفا كتابه :"امتزاج بين القصة وروح الشعر المشتعلة تداخلت العناصر،فتكونت هذه النصوص من هذا الامتزاج"
إذن نحن أمام نصوص قصيرة ، هي فرع من القصة وروح الشعر ،وهو ما يفتح الباب بشكل جزئي أمام تداخل الأنواع ، فكرة "الجنوسة "، وحدودالعمل الأدبي ، خاصة حين يلوح للمرء أهميةا لانضباط في العمل الإبداعي ، لكي يحقق الأدب قيمة ، لا بد له من أسس يسير عليها ، فالحرية المطلقة مفسدة ، ثم يعاود المرء التفكير في أن مداد الابداع والحرية ، والتجديد وتذكر كلمة بسيطة عبقرية لنجيب محفوظ قبل وفاته (حاليا لا شئ يثير أعصابي مثل التقليد ) اذا الكاتب حر ، مثلما القارئ حر يقرأ ما يهواه ، وبين الأمرين نتوقف أمام نص أولي وهو (الصيف شتاء ، السحلب هو هو الكوكاكولا).
يقسم قصته الي حروف متتالية أ ح و هـ وهي حيلة لا لزوم لها إذ انها تضاربت مع رقي النص ، نجد (أشجار النخيل لا تتوقف عن إثمار زجاجةكوكاكولا مثلجة ) نشربها بجوار الباب الرخامي الواسع للمسجد ... حيث صفوف المصلين متوازية منتظمة .. الإمام الذي يقطع خطبة الجمعة بهذا الدعاء المقدس
اللهم انصر علينا أعداءنا
اللهم شتت شملنا
اللهم احرق أرضنا ... الخ
القضية هنا تتعلق بالتخلص من الهوية عبر عنها بزجاجة الكوكاكولا والجمل والخيمة والحصان بناء القصة هنا عرضي ليس تصاعديا ، ومحاولةقراءة القصة بترتيب مختلف يمنحنا دلالات شبه ثابتة أيضا ، يحاول المبدع التعبير عنها ، مما يعني أن البناء هنا ليس حتميا ، بينما في قصة الصفقة تعتمد علي بنية حتمية متكاملة ملل الإنسان / تآمل الموت / الرغبة في العودة / أمل الخروج .. عمل مميز بنائيا
ويبدو حرص الكاتب علي شكل الكتابة طاغيا ، خاصة حيث نجدهيحفظ قصصه ، كثرة النقاط ، اختلاف شكل الترقيم للفقرات ، فوضع خطوط تحت عباراتمعينة عبارات يسار الصفحة ، الفراغات بين السطور الخ ، هذه الملامح البنائية لدي الكاتب تتصل بفكرة المزج بين الشعر والسرد في الإطار المتداخل لأن لغة الشعر لاتمنح السرد طاقته ، بل تصبح زخرفا مثقلا علي السرد ، يقول جون كوين في بناء لغة الشعر ترجمة د. درويش( إن فكر الشاعر أن يكتشف جانبا مجهولا من العالم ، فهو يرتكب خطأ قاتلا ، فالشعر ليس علما وإنما هو فن ـ والفن شكل وليس الا شكل ص 93
ولهذا نجد في حصة تاريخ شكلا لا يمنح الا للشعر أسطر شعرية تبدأ بقوله :
خبأت في قلوب التلاميذ / طلقة صاروخ للأعداء /
انتظار بطل يقشر الثلج من فوق أجسادهم فيتحولون ... إلي شلالات المشاعر
وهكذا تتطرح قضية النوع الأدبي ذاتها ، ولعبة القصة الشاعرة ، وهذه الحوارات الثقافية المستهلكة ، لأنها بعيدة عن القارئ ، وهذا عينالخطر الحقيقي ، ولكن ما يقرب الشعر من النثر في المجموعة ، هو الذاتية الطافحة ،أعني ذاتية الفكر وليس السارد ، الكاتب هنا ممتن للحرية أمتنانا مطلقا ما يسميةالدكتور / محمود الضبع (كتابة نص الحالة ، الذي هو نص مفتوح المواجع والمسارب ،لكنه يقوم علي نوات غائرة هي مساءلة الذات )
يبدو عماد مجاهد وكأنه يكتب نصا شعريا غنائيا عن علاقتهبالكون والحياة والذكريات والمواجع والأصحاب والتخلي والفشل والأمل ..
وبين يدينا نص عجيب ، بعنوان عجيب أيضا ( هو أول فراشةللمطر وأخر نخيل البكاء )
يتناول شخصية صديق حدد اسمه ( انه محمد سلامة .. لكن عندما نزل البدن الشفاف / مرايا السحاب / لون المطر ) الذاتية هنا طاغية علي النص، بحيث تفقد تعاطف القارئ أو حتي فهمه ، فهو يكتب عن مبدع استقال من الابداع ليتفرغلعمله ودروسه
ولذلك ف ( كل حصة درس خصوصي برقم ، يزيد الرقم ، وتزدادفرصتك لشراء ساقين ونهد ... ) ولذلك فينهي قصته بقوله (وانا اجلس هنا أتلقي عنك العزاء)
طبيعة الذاتية ملازمة للشعر ، أو قل مناسبة له حيث تقومبدور مزدوج (ما يراه وما يضيفه علي شخوصه ان وجدت ) هذه الذاتية تمثل نوعا منالتفرد لدي عماد مجاهد بحيث يكتب ما يريده ، لا ما تفرضه التوافقات الأدبية ، حيث في تناصاته واستشهاداته يلجأ لشعراء محلين من نفس مكان إقامته ، صحبة نادي الأدب ،هذه الذاتية تتجسد في اختياراته الشكلية والمضمونية معا ، وما يتجسد في
اللغة
في قصته (بنت روحها زهور تنبت علي أجنحة الملائكة ) منالأول نجد معرضا عبقريا للغة حيث تشف ، لتصل إلي الروح ، وهو ما يضعف السرد بلا شك، ويصعد باللغة الي شعر ، حيث تتصل لغته بلغة النبوءات الكبري ، نرتقي للتناص مع القرآن الكريم والإنجيل وكتب التصوف ، فاختار تعبيرا شهيرا من سفر التكوين (ورأيالرب ذلك غير حسن ) إعادة انتاج لقول الإنجيل ( ورأي الرب ذلك أنه حسن )التكوين وكذلك تناص مع القرآن الكريم سورة القصص
بهذه اللغة العذبة لغة المقدس والنبوءات والأساطير يصنع الكاتب ( حالة) لغوية ، موصلة للشعر أو ما يسميه العقاد (اللغة الشاعرة ) والتييراها خاصة ظاهرة في اللغة العربية من حيث تركيب حروفها علي حدي ، ثم قواعدها ،وأنها قامت علي نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية ص 8
ويذكر العقاد آيات من القرآن ويكتبها في شكل أبيات شعرية، مثل (انهم رجس ومأواهم جهنم) بحر الرمل و ( لن تنالوا البر حتي تنفقوا مما تحبون) بحر الكامل وهكذا اللغة لدي عماد مجاهد يتخذها للتعبير عن عوالم غير حقيقية ،ولذا يستخدم لغة غير مهمومة بطبيعة اللغة الساردة .. يقول في تجربة مدهشة
(عيناها في عيني قرأت )
لا الشوارع ولا الشجر ولا المطر يعرفون شيئا عن العصافيروالقمر والفراشات التي نتبادلها معا حين نلتقي .. هذا ما قرأته عيناها في عيني لماعاتبتني عن كشف أمر ما لل.... تمت
لا يمكن أبدا أن تتعانق لغة الشعر ولغة السرد ، ولكن لكل مبدع رؤاه , وتجربته ونظرته ، خاصةمع مبدع يستعذب ذاته ، ويستملح ذكرها .. يقول في (مكان للعشاق )
(ما زالت هناك بنت جميلة
أو ربما غير جميلة
تنظر الي وتقول لي يا عماد
تسأل عن صحتي وأشياء عديدة
في لقاء طويل طويل طويل طويل ...... )
وهكذا ينسكب الميل لدي عماد الي ذاتية قاهرة ، ولذا فسرده يرتدي دوما ثوب الشعر ، ملاحظة نهائية تتعلق بالجزء الثاني من المجموعة الذيعنونه ب( الملف الثاني ) تراتيل الجرح للأعمال من 2003 الي 2013 ويضم 9 قصص .. هذه القصص تختلف بشكل صارم عن الجزء الأول ، حيث اندلعت نار السرد فيها ، قطعا لم يتخلعن أسلوبه ( والأسلوب هو الرجل ) ياسيد بيفون لكنه عادل السرد بالشعر ، عادلالذاتي بالخارجي ، ظل قابضا علي ذات الأخرين من خلال ذاته ، يحكي لنا قصة صديقه رضا رفعت الرسام ، من خلال رؤيته ومشاعره ، بينما يحتفظ بلمحه عذبة ، غاية فيالعذوبة حيث يمنح قصته اسم حبيبة وهي ابنته في الواقع ، راصدا حالة غيابها وشوقه للضجيج الذي تحدثه الطفلة ، ولا يودعنا الا بأجمل عمل في تصوري ، أعني (تراتيلالجرح) حيث الإخلاص للقصة ويبدو أنه فعلها علي عينه ولذا وازن بين ظلم أخوة يوسفله ، وبين ظلم أخوة السارد له في شكل فني ممتع وعميق ، عبر لغة بهية كعادته يبكي الشعر حين يري عماد قاصا ، ويبكي السرد الذي يريده حبيبا له وحده لا يشرك به شعرا.