القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:35 ص
من المكان البارد البعيد والذى جاء منه شخصيات كافكا العالمية ، جاء رجل باردا دمثا ، ومد يده نحوى بخطاب مغلق ، وجعلنى أمضى بأصابع مرتعشة بالأستلام على ورقة بيضاء بها بعض كلمات قليلة لم ألمح منها سوى ( اسم المستلم ، أمضاء ، التاريخ ) .
بعد أن وقعت بأصابع مرتعشة على الورقة التى فى يده ، وبنفس منهارة غير مصدقة ، خرج من حجرة المكتب منتشيا كالمنتصر فى معركة حربية .
أمسكت الخطاب بأصابعى التى مازالت بها بعض الرجفة ، وأخذت أتفحص الخطاب بدقة وتعال ، وأمرره أمام عينيى يمنه ويسره وأنا أتوجس خيفة ، وأفكر من أين جاء هذا الخطاب المسجل بعلم الموصول ، وماذا به ، هى لحظات قليلة ، ولكنها مرت كأنها دهر بكامله .
دخل حجرة المكتب الكثير من العمال ، وخرجوا منها على عجاله ، وظللت باقية فى مكانى أتأمل الخطاب المغلق ، واخمن بمئات من الأفكار السوداء ، وغير المستحبة من أين جاء هذا الخطاب ؟
خفت أن أصاب بحالة من المناخوليا لمدة دقائق لمجرد أن تتصارع أمام عينى بعض الأخيلة الغامضة ، وبعض العمال عادوا ثانية إلى الحجرة ، يدخلون ويخرجون من المكتب فى صمت هؤلاء المتفرجون الذين لا يقفون هنا إلا لمدة دقائق معدودات ، ربما يكونوا شهودا على الحالة التى أنا عليها ، أو ربما يكون القليل منهم يدرك تمام الأدراك مابداخل الظرف المغلق ، أو قد يكون البعض منهم متعاطف مع الحالة التى أنا عليها الآن ، ليس لدى يقين قاطع بهوية وجودهم أو أهميته !!
هل هم شهود عيان على هذا الواقع المرير ؟ بعض الضحكات الساذجة تبدو واضحة على ملامحهم ، وبعض الجدية والحزن تطل من عيون القلة ، إنهم متشابهون فقط فى حالة الدخول والخروج السريع .
فى حالة (كيه) فى رواية المحاكمة فى آخر فقرة إن حالة المناخوليا تسارع عفريت العلبة هو كل مابقى أمام كيه ليعول عليه فى هذه اللحظة الأخيرة .
يتبين لى هاجسا سريعا أن هناك مؤامرة تدبر لى بعناية ودقة وفى حالة غفلة من حالات الطيبة الخالصة التى أنا عليها . فى حالة كافكا تخلو كتابته من مشاعر التعاطف إنها كتابة مجردة ، إنها لا تتبنى موقفا متعاليا إزاء الناس أو الأشياء ، فإذا صورت الناس ، تصورأحيانا كالدمى ، فليس هذا سخرية منهم ولكنه تقدير لحقيقة واقعة ، أما فى هذه الحالة التى أنا عليها ، فالناس تشارك فى جريمة مدبرة بحنكة وعناية فائقة لى .
إنه من الساخافات الآن أن أعول على الطيبة المنقذة والتى لازمتنى لمدة سنوات طويلة من المحبة المفرطة .
الناس الآن أصبحت تتخفى وبثقة بنوع من المشاعر الزائفة ، وهى تدعى الإيمان ببساطة بالغة ، إنها الطرق الملتوية الجديدة للزج بالضحية فى أتون المغامرة الخاسرة ، للتخلص من أصحاب النوايا الحسنة ، إنها اللعنة إذن .
" فى مستعمرة العقاب التى كتبها كافكا بعد بداية الحرب العالمية الأولى ، وهى أعظم قصصه إثارة للفزع ، إنها قصة آلة بشعة صممت لتعذب البشر ، وهى فى ذات الوقت تصوير مجازى للحالة الروحية التى كان يعيشها أولئك الذين أرغموا على معاناة الكروب والأهوال بدرجة لا توصف من جراء بعض التصرفات الهوجاء غير المفهومة بالنسبة لهم ، ولعل أحد مصادر هذه القصة هو (الحفرة والبندول) لأدجار آلان بو ، قصة بو يحكيها سجين ... "
ماجدوى أن أكتب فى هذا المكان القمىء ، وأنا أشعر بالغبن .
جاء كافكا خارجا من صورته المعلقة أمامى على الحائط ، وجلس قبالتى فى صمت بهيج ، وهو يرى حفيدة من أحفاده المبدعين تعيد رسم سيرته من جديد فى قصة المحاكمة ، ولكن بشكل عصرى ومختلف ، حيث أننا الآن فى عام 2017 أى نبعد عن حياته ووفاته بما يقارب القرن تقريبا أو أكثر .
جلس صامتا فى حبور وهو يرى ملامح الحيرة والخوف تطل من عينيى الزابلتين من السهر والقراءة والكتابة .
عينان عميقتان غائرتان حزينتان بشدة وآسى ، وشفتين رقيقتين .
جلس صامتا فيما يقرب من الساعة أو أكثر أمامى على المقعد الوثير الضخم المصنوع من الجلد الرقيق ، و تطل أذنيه من خلف وجهه فى انصياع شديد لسماع شىء جديد ومختلف من القصة .
ظل صامتا يرنو بعينيه نحوى فقط . وأنا أتأمله بدقة شديدة ، وتتوافد على رأسى مئات الأسئلة ، ومئات العبارات والاستفسارات . وكان يطل أول سؤال فى ذهنى وأريد أن أستفهم منه بوضوح لماذا مات (كيه) فى رواية المحاكمة ؟ وماهى تهمته أيها الكاتب المبدع ؟ ولكننى صمت ، وظللت خرساء لمدة ساعة كاملة ، أتأمل وجهه وملامحه وهو جالسا أمامى فى صمت . هل هو يفكر فى رواية جديدة ؟ هل مازال يكتب هناك فى الأعالى ؟ لماذا أتى إذن إلى هنا ؟ ومن أى فجوة زمنية حضر ؟ مئات ومئات من الأسئلة تدور فى ذهنى ، ولكن لسانى فقد القدرة على النطق ؟
وأنا أمام المحكمة . وقفت إلى جوارالمحامى بطوله الفارع خرساء ، صماء ، فقدت كل الحواس ، عدا حاسة واحدة ظلت تعمل فى آلية تامة ، وهى حاسة النظر .
كان لا بد من المقاومة الشديدة والقوية ، حتى لا تنداح عاطفتى وتذوب مثل قطعة الأيس كريم فى يد طفل صغير فى شهر أغسطس الحار .
حاولت مرارا ومرارا أن أضحك ،ولكن المرارة كانت فى الحلق أشد وأقوى من الضحكات .
مازال الخطاب فى يدى مغلقا ، أنظر إلى المظروف الخارجى يمينا ويسارا وأقلبه فى يدى ، وأضرب أخماسا فى أسداسا لكى أعرف من أين جاء ؟ وبداخلى خوف شديد من فتحه ، ربما يكون بداخله خبرا مشؤما لا أقدر على تحمله ، أو يكون بداخله شىئا يشبه آلة التعذيب فى معتقل النازية ، لماذا النازية ؟ إذن هى التى جاءت على خاطرى ؟ هل لمجرد وجود كافكا جالسا أمامى هو ما جعلنى أفكر بشدة وخوف فى هذا الموضوع ؟ مازال كافكا جالسا أمامى على المقعد المصنوع من الجلد وهو يتأملنى فى صمت وبخبث شديد وشبق ، كأنه يبحث من خلال ملامحى المندهشة عن قصة يكتبها عن حالتى ، وقد يسميها السيدة (ص) مثلا ، أو قد يسميها (حجرة المكتب) أى مأساة كافكاوية تليق بى ؟
إن فى قصة المحاكمة كان السيد (ك) جالسا فى سريره فى الثامنة صباحا ، ينتظر الفطور ، فدخل عليه شخصا عريبا .
يبدو أن الياس يتسرب إلى نفس كافكا وهو ينتظر بفارغ الصبر أن أفض غلاف الخطاب ، واقرأ ما بداخله ، عساه أن يستريح من هواجس الانتظار ، فبدأ ينظر إلى السقف ، ثم الحوائط ، ثم إلى الأرض . وأنا أرقبه عن قرب . وهو يزفر أنفاسه بمشقه وصعوبة بالغة ، لقد تسلل السل إلى رئتيه ، وتمكن منه المرض بقوة فى عام 1917 وعرف هو بذلك .
ثم بدأت أحادثه بصفة الود والأعجاب المتبادل بيننا ، فقد أعتقدت أنه معجب بكتاباتى مثلما أنا معجبة بإبداعه العظيم وخاصة قصة (المسخ) والتى قرأتها إلى الآن ف تاريخ عمرى الأدبى فوق الخمسة عشرة مرة ، وكل مرة يزداد إعجابى بها ، وأنحاز لها ، وكأنها تلخص المصير الإنسانى فى قصة قصيرة .
كلنا كريجورى !
إلهى لماذا تركتنى ؟
كان لجلوس كافكا على الكرسى الذى أمامى لمدة طويلة يعطينى أحساسا بالمرارة ، والانتصار ، والانتظار .
لقد بدأ يتذمر ويتذبذب بين الانتظار ومعرفة الخبر اليقين ، وبين الانصراف وترك المكان فورا كى أنعم بوحدتى .
كنت لا أشعر بمرارة أو تأنيب ضمير نحوه ، فهو الذى ظهر هكذا فجأة فى حياتى ، وجلس على الكرسى الذى أمامى ، يتأملنى فى صبر وصمت .
إلا أن أفض الخطاب فى وحدتى . ولكن جلوسه هكذا منحنى فرصة من التفكير والانتظار ، وسمعت صوتا ضعيفا لا أعرف يصدر من مَن ؟ صوت يشبه الهسيس أو الهمس الملائكى ، أو النحيب على الصليب ( إلهى ، إلهى لماذا تركتنى؟) .
أخذت أنصت بقوة ، باحثة عن مصدر الصوت بأذنى المرهفة السمع ، ولكننى وجدت شفاه كافكا ترتعش ، وتتحرك ببطء شديد ، وكأنها ترتل بعض الأدعية . فتحركت شفاهى معه مبسملة ببعض الأدعية والأيات القرآنية .
وأخذت أردد بعدها : عزيزى كافكا ، لقد أجهدتنى كثيرا بوجودك معى فى هذه الحجرة الضيقة ، وكلما نظرت إليك تذكرت فصلا كاملا من أعمالك المدهشة ، خاصة العملين المهمين (القلعة والمحاكمة) .
بربك أنصت إلى حروفى ، ودع بعض الكلمات تخرج فرحة من القلب .
أخذ يرنو إلىَ بعينيه الضيقتين العميقتين وعاد إلى صمته القاتل مرة أخرى .
فأخذت أبحث فى مكان حولى عن أى شىء يلهينى حتى لا أعود إلى التحدث معه ثانية خصوصا أنه ربما يكون دخل فى مرحلة من مراحل تأنيب الذات أو (جلد الذات) كما يحب أن يسميه بعض علماء النفس .
وبعد فترة صمت طويلة ، أخذ يردد بعض الكلمات بشفتين مرتعشتين ، وبثقة متناهية : أريد فى كل لحظة برهانا جديدا يؤكد لى أننى موجود .
ثم عاد إلى صمته .
أخذت أردد هذه الكلمة وراءه بدهشة وغرور ، وكأننى اقرأ هذا المقطع فى رواية (القلعة) على لسان (ك) لكن كافكا من خلال خطابه هذا يكشف عن أحساسه المفرط بالذنب والدونية
وصاح بقوة (صيحة السيرافيم المرعدة بالفرح) .
منهم هم الذين يعيشون فى الحقيقة كما قال عنهم فلوبير!
هل لمجرد أن رأى أسرة برجوازية تستمتع بحياتها فى حالة من الاطمئنان ؟ وما هو الاطمئنان من وجهة نظرك ؟
كافكا يتملل فى مكانه ، ويسترجع بعض الكتابات والأفكار التى فى كتابه (مستعمرة العقاب) ويؤكد على رؤية الضابط حين يؤكد أن الذنب أمر لا شك فيه .
فإذا كانت الحقيقة شيئا بعيد المنال ، طالما كان الناس مهتمين بها ، فالجميع مذنبون .
أخذ هذا الحديث الذى كتبه صديقه (فلوبير يود) بعد وفاته ( أن انعدام الوعى بالذات هو نوع من البراءة ) .
وبعد أن تململ كثيرا فى جلسته ، وأخذ يتفحص بدقة ملامح وجهى المضطربة من جراء الخطاب (نذير الشؤم) والذى لم أفض ما بداخله حتى الآن ، حتى أرسو على الحقيقة ، وكأنها أصبحت لعبة تستهوينى ، وأمارسها أمامه ، أن يظل السر مغلفا ، وانا استمتع بترويض أفكاره القلقة ، قال مخاطبا أياى بصوت خفيض وبنبرة واثقة : إن أكثر وسائل الغواية التى يملكها الشر ، هى أن تتحداه وتقاومه .
ثم قام واقفا بهدوء شديد ، وأخذ يتطلع من خلال النافذة على الطريق الواسع أمامه ، والأشجار أمامه تحط عليها العصافير والغربان .
سألته ببطء الواثق المتحدى : لماذا تركت الحارسين فى رواية المحاكمة يتعرضان للضرب بالسوط طوال الوقت وتعذيبهما ، ويرى (ك) جلدهما ولا يبالى ، هل هذا نوع من الخنوع ؟
أخبرنى بربك ماذا كنت تريد من هذا المشهد المازوخى؟
قال بهدوء شديد : أكملى الجملة ياسيدتى .إن أكثر وسائل الغواية التى يملكها الشر هى أن تتحداه وتقاومه ، إن للشر مفاجأته . ثم صمت بعدها للحظات ، مرت كأنها دهر كامل ، وأخذ ينظر إلى الخارج وهو مازال يتأمل الأشجار وفوقها أعشاش العصافير والغربان .
ظللت أنا جالسة مكانى أتأمل غلاف الخطاب من الخارج واسترجع فى ذاكرتى بعض الأحداث هى دقيقة لا أكثر ، ثم سمعته يضحك ببطء ، ثم بعنف ، ثم أخذ يقهقه كأن به مساً، أو كأنه تذكر شيئا أضحكه بقوة .
رغم أننى أنا التى كانت تستدعى الذكريات الماضية من ذاكراتها .
ثم توجه إلىَ منفعلا : لماذا تصرين أن تكونين قائداً للناس ؟
قال هذه الجملة بوضوح وقوة وغرابة .
ثم عاد إلى تأمله الشديد وهو ينظر من النافذة على الخارج .
حقيقة لم تهزنى الجملة ، ولم تبهرنى ، فأنا منذ طفولتى وأنا أشعربهذه الجملة كحقيقة ماثلة أمامى دائما .
أبتسمت فى استغراب وتهكم ودون سخرية منى أو تعليق عليه ، ثم قمت من مكانى واقفة ، وذهبت إليه ووقفت وراءه تماما كى أتأمل ما يتأمله ، وانظر إلى حيث ينظر ، فلم أجد شيئا مختلفا عن المعتاد ، وعما أراه كل يوم خارج هذه النافذة ، أشجار كثيفة تمتلىء بأعشاش العصافير والغربان .
ظللت واقفة مكانى أتأمله من ظهره ، واقتربت ، اقتربت حتى أصبح فحيح أنفاسى مثل السياط خلفه ، وكدت أن أفعل به فعلة مشينة تهزه ، ولكننى تراجعت فى آخر لحظة ، وجلست مكانى ، وأنا أحاول أن أبعد عن الشر بقدر المستطاع .
جلست فى هدوء مرة أخرى ، وأنا أردد جملة كبيرة من كتاباته (يوميات كافكا) لا أرف لماذا تذكرتها الآن بكل دقة ، وكأن أحداً يجلس فى رأسى ويمليها علىَ !
" أيها الجنرال الطويل العظيم ، أنتَ تقود الجماهير ، فهيا تقدم وخذ بيد أولئك الغارقين فى اليأس عبر ممرات الجبال ، تحت كتل الجليد الذى لا يستطيع إنسان آخر أن يكتشفه . أما من يمنحك القوة ؟ فإنه هو الذى يمنحك صفاء البصيرة ".
ثم نظر نحوى بعمق وهو مازال واقفا أمام النافذة ، سوف أحكى لكى حكاية شيقة ومضحكة وغريبة ، أنا إلى الآن غير مصدقا أنها حدثت " فى ليلة كنت أشعر بغبن شديد وظلم بائس ، وأتهمت بأفعال لم أقم بفعلها قط ، فأنا بأخلاقى الرفيعة ، وثقافتى العالية لا تسمح لى القيام بفعل مشين حتى ولو كان بسيطا أو كان سهوا ، فبت ليلتى أبكى بمفردى فى حجرتى الصغيرة المعزولة فى آخر البيت ، ورقدت رقود المهزوم على سريرى الصغير وأنا أتطلع بعينين دامعتين إلى سقف الحجرة المظلمة ، وأتخيل خيالات وهمية وتصورات ذهنية قد تكون حقيقية وقد تكون كاذبة ، ولكن داخلى كان يتألم ، فأنا الشيخ الجليل القانع الصابر الصامت العابد يحدث لى هذا الأفتراء والكذب ، لم أعرف إن كنت قد كتبت هذا الكلام من قبل أو قرأته فى مخطوطة نادرة من المخطوطات القليلة والتى أحتفظ بها داخل مكتبى مثل مخطوطة عن تذكرة داوود ، ومخطوطة نادرة وغير محققة عن البنتجرانتا ، ومخطوطة أخرى فشل بعض الأصدقاء فى قراءتها أو تصنيفها ، وقد قال البعض لى ربما تكون هذه المخطوطة كتبتها قبل وفاتك أو فى أثناء مرضك ، حيث يوجد الكثير من المخطوطات وبها بعض الرسومات التى تشبه رسومات لمحتها قديما فى كتاب ضخم موضوع بدار الكتب بالقاهرة ، وقال لى يومها مسؤل المكتبة ، أنها مخطوطة من كتاب فارسى قديم وغير محقق ، هل سرقت هذا الكتاب / المخطوط النادر ؟ لا أعرف بالضبط ، ولكننى مع مرور الوقت نسيت حكاية هذا المخطوط ، إلا أنه فى يوم ما ليس بالبعيد كنت أبحث عن كتاب أهداه لى صديقا من دولة عربية ، وقد نسيت هذا الحدث لكثرة مشاغلى ، وعندما هاتفنى صديقى هذا عن موعد زيارته لى فى بلدى ، قررت أن أبحث عن الكتاب لقراءته مرة أخرى ، وحتى يكون ذهنى حاضرا عن لقاءه والتحدث معه ، ولكى أناقشه فى بعض الأمور الأدبية الواردة فى هذا الكتاب ، فتحت حجرة المكتب ، وأخذت أبحث عن الكتاب بعينين كليلتين من كثرة القراءة والسهر ، وبعد جهد جهيد عثرت على الكتاب المنشود وبداخله تلك المخطوطة النادرة ، وكانها اللعنة .
لحظة .
اسمع الآن طرقا خفيفا على الباب .
قمت من مكانى متوجها نحو الصوت ، رأيت ابنتى الصغرى فاطمة تقف على الباب وفى يدها كوبا كبيرا من اللبن الدافىء قدمته لى وهى ضاحكة : تفضل ياأبى .
أخذت من يدها الكوب شاكرا ، وعدت إلى سريرى الصغير ، وحجرتى الضيقة ، وهى ذهبت إلى النوم فى فراشها بجوار زوجها وأولادها .
لماذا أنا كنت حزين إذا فى هذه الليلة .؟
لقد نسيت أن أقول لقد أتهمنى ابنى الأكبر على بأننى أحب أخته الصغرى فاطمة أكثر منه ، رغم أنه الولد وهى البنت ، فضحكت من قلبى وأنا أحاول جاهداً أن أثنيه عن فكرته .
ياعلى إن فاطمة أختك هى التى تراعى مصالحى ، وترتب لى حياتى لذا هى تقيم معى فى البيت ، أما أنتَ أخذت زوجك (هدى) وأولادك ، وذهبت بعيدا عنى وأنا شيخ عجوز .
غضب على وترك البيت ومن يومها لم يعد إلى زيارتى مرة ثانية ، المهم بعد صلاة العشاء تناولت كوب اللبن الذى أحضرته فاطمة ، وحاولت النوم قليلا ، حتى استيقظ فجرا كى أصلى ، وأبدأ فى قراءة كتاب صديقى ، وبعد ساعات قليلة ، رأيت فيما يرى النائم ، السماء تشق ثوبها الأزرق أمام عينى ، وترعد وتبرق ، برقا شديدا ، وكأن السماء انشقت ، وخرج منها ضوءً كثيفا أبيض يبهر الأنظار ، كنت أنا واقفا بعيدا أستطلع الأمر، وأنظر إلى السماء، بأتساع حدقتى ولم أخف ، ولم أقف مكتوف الأيدى ، بل ظللت أنظر مبهورا بالضوء الشديد الذى ظهر ، رأيت أناسا تظهر ، وأناسا تختفى ، وتوابيت عديدة فارغة ، وتوابيت كثيرة بداخلها جثث لأناس أعرفهم بقوة ، وبعد دقائق معدودات ، هدأ كل شىء وصفا الجو وراق ، ورأيت أبنتى فاطمة تقف باسمة لى وهى تمد يدها وتأخذ بيدى ونعبر نهرا صغيرا ، ثم نسير سويا داخل غابة واسعة وكثيفة الأشجار ، وظللنا نسير ونسير إلى أن سمعت صوت آذان الفجر ، فقمت من فورى ، وأخذت أردد فى سرى مع الآذان ، عرفت فى لحظة صفاء أن الروح التى تضىء بنور الله لا تنطفىء أبداً ، هى روح أبدية مخلدة ، أخذت أبكى وأتضرع إلى العلى العظيم أن تكون روحى من تلك الأرواح التى لا تنطفىء أبداً .
وعدت إلى النوم ثانية ، حيث كنت مرهقا وحزينا ، ولا أعرف عدد الساعات التى غبت فيها عن الوعى ، وأنا نائما إلا عندما سمعت بعض الطرقات الخفيفة على باب حجرتى ، ودخلت فاطمة أبنتى الصغرى ومعها زينب حفيدتى الجميلة ، وهى تحمل لى فطور الصباح .
قال بصوت متهدج مملوء بالدموع : ما رأيك ياأستاذة فى هذه القصة ، إنها من بنات أفكارى ، ثم أخذ يمسح جبهته بيده المرتعشة ، وجلس أمامى على المقعد الجلد الوثير وهو يقول لى بصوت مبحوح : لا لا ياسيدى لقد حدث هذا بالفعل ، ولقد رأيته رأى العين .
هل بعد أن تصعد روحنا عالياً ، نتشكل ويتم أعادة بنائها من جديد فى أشكال ومواقف أخرى ، ثم قام واقفا وهو منهزما ومرتعشا : لالا لقد بدأت أفقد أعصابى ، عذرا ياأبنتى ، أمهلينى بعض الوقت . ثم جرى فى سرعة ، ودخل أطار الصورة المعلقة مرة أخرى .
وظللت أنظر نحوه غير مصدقة ماحدث .
ثم عندما خلت حجرة المكتب تماما ، واصبحت بداخلها بمفردى ، فضضت الخطاب الذى بيدى ، وبدأت أقرأ بهدوء وأستغراب وأنتابتنى رعشة مفاجأة .
أستدعاء إلى المحكمة غداً .
أغلقت الخطاب ثانية ، ووقفت فى نفس المكان الذى كان يقف فيه كافكا من قبل ، وأخذت أرنو بعينين كليلتين نحو الأشجار العالية وعشش العصافير والغربان فوقها .