القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:18 ص
فصل من رواية "كتاب الزنوج" ـ ترجمة صلاح صبري
هرِمتُ! {لندن، 1802}
يبدو أن هناك مشكلة في أن أموت. منطقيًّا، لم يكن لي أن أُعَمَّر هكذا. غير أنني ما زلت قادرة على أن أشم ما تحمله الريح من المتاعب، بنفس الدقة التي أستطيع أن أميز بها إن كان الذي يبقبق في الإناء الحديدي على النار هو حساء رقاب الدجاج، أو أكارع الخنازير. أذناي ما زالتا تعملان بكفاءة ككلاب الصيد. لمجرد أنك لا تقفين منتصبة كالغصن، يفترض الناس أنكِ صماء. أو أن عقلك كالعصيدة. منذ قريب، وأنا ذاهبة للقاء أحد الأساقفة، قالت إحدى سيدات المجتمع مخاطبة أخرى: "لا بد أن نضم هذه السيدة إلى البرلمان فورًا.. من يدري إلى متى ستظل حية بيننا؟!" على الرغم من أنني نصف محنية، نخستها بإصبعي في ضلوعها. ندت عنها صرخة، والتفتت ناحيتي. قلتُ: "حذار.. ربما تموتين قبلي!"
لا بد أن هناك سببًا جعلني أعيش في كل هذه البلاد، وأنجو بعد كل هذه البحار التي عبرتُها، بينما كان الآخرون يتساقطون حولي؛ سواء الذين ماتوا بطلقات الرصاص، أو الذين كانوا يغمضون عيونهم ببساطة ويسلمون أرواحهم. في أيامي الأولى، كنت حرة، ولم أكن أعرف غير أنني كذلك. كان من عادتي أن أنسل خارجة عبر سياج أرضنا، فأتسلق شجرة السنط، وبينما يستقر مصحف أبي متزنًا فوق رأسي، أجلس على طرف أحد فروعها، متسائلة كيف سأستطيع ذات يوم أن أحل كل ألغاز هذا الكتاب. ثم، وأنا أؤرجح قدميَّ، أُنزل المصحف، وهو الكتاب الوحيد الذي رأيته في بايو ‘Bayo’ ، وأحدق في تلك البيوت الطينية المسقوفة بالقش. الناس دائمًا في حركة دائبة. النساء يجلبن المياه من النهر، والرجال أمام مواقدهم منهمكون في معالجة الحديد، بينما الأطفال عائدون من الغابة مظفرين بما اصطادوه من القنافذ. فصل اللحم عملية طويلة ومرهقة، ولكنهم، على أية حال، سيؤدونها إن لم يكن هناك ما يشغلهم عنها. ينزعون شوك القنافذ أولاً، وبعد ذلك يسلخونها، ويستخرجون أحشاءها، ثم يُعملون سكاكينهم الحادة في جثث هذه الحيوانات المسكينة. في
تلك الأيام، كنت أنعم بالحرية والسعادة، ولم أكن مشغولة أصلاً بفكرة الأمان.
لطالما نجحت في تحاشي النهايات المأساوية، حتى وهي محيطة بي. غير أني لم أذق يومًا نعمة الاحتفاظ بأولادي والعيش معهم، حتى أربيهم بنفس الطريقة التي رباني بها والداي طيلة عشرة أعوام، أو ربما أحد عشر، إلى أن بعثرتنا الأيام. لم أنجح قط في الاحتفاظ بأبنائي فترة طويلة، وهو ما يفسر عدم وجودهم الآن معي ليعدوا لي الطعام، ويزودوا حشيتي بالقش، ويمنحوني عباءة تدفئني في الليالي الباردة، ويجلسوا معي أمام المدفأة مدركين أنهم لم يخرجوا إلى الحياة إلا عبر هذا الرحم. الغرباء هم الذين يعتنون بي هذه الأيام. ذلك شيء رائع. ولكنه ليس كأن يكون لدى المرء من هم من لحمه ودمه ليشيعوه إلى مثواه الأخير. كم أتوق لأن أضم أبنائي وأحفادي، إن كان لي أحفاد. إنني، في الحقيقة، أفتقدهم وكأنهم أعضاء مبتورة من جسدي.
هنا في لندن، يجعلونني دائمًا منشغلة إلى أقصى حد. يقولون إن لديَّ مقابلة مع الملك چورچ. أما أنا، فلديَّ مجموعة من مناهضي الرق– رجال صلع، شواربهم طويلة، بطونهم واسعة، لا يستعملون السكر، ولكن أنفاسهم تمتزج دائمًا برائحة التبغ، ويوقدون الشمعة تلو الأخرى، ساهرين الليل جله منهمكين في وضع خططهم. يقول هؤلاء إنهم أحضروني إلى إنجلترا لكي أساعدهم على تغيير مجرى التاريخ. حسنًا! سنرى. ولكن ما دمت قد عشت كل هذا العمر، فلابد أن لذلك سببًا.
في لغتي الأصلية "فا" تعني "أب". "با" تعني "نهر"، وأيضًا تعني "أُم". وفي طفولتي، كانت أمي كالنهر، لا تهدأ حركتها وهي تحملني رائحة غادية بالنهار، وساهرة على سلامتي بالليل. مضى جل عمري، غير أني ما زلت أشعر أنهما أبواي: أكبر مني سنًّا وأشد حكمة. ما زالت نبراتهما ترن في مسمعي؛ تأتيني أحيانًا عميقة، وأحيانًا أخرى سابحة كالأنغام. أحس بأيديهما وهي تنأى بي عن العثرات، وتقودني بين الكوانين حتى أبلغ الحصيرة المستظلة بجدار بيتنا. ما زالت عالقة بذاكرتي صورة أبي وهو ينقش بعصاه المدببة على الأرض الصلبة بعض الكلمات العربية، بخطه الانسيابي الجميل، بينما يحكي لنا عن مدينة تمبكتو ‘Timbuktu’ النائية.
في اللحظات التي أخلو فيها إلى نفسي، عندما ينفض مناهضو الرق الذين لا يكفون عن التحويم حولي كالأعاصير، طالبين حضوري ضمن هذا الوفد أو توقيعي على تلك العريضة، عندها أتمنى لو أن أبويَّ ما زالا هنا ليحوطاني بالرعاية. أليس ذلك غريبًا؟ هذي أنا، امرأة زنجية عجوز متهالكة، عبرتُ من البحار ما يتجاوز عدده قدرتي على التذكر، وقطعتُ من الأميال أكثر مما قطعه حصان أنهكته المشاوير طيلة حياته، وكل ما أتمناه هو ما لا يمكن إدراكه: الأبناء والأحفاد أمنحهم محبتي، والأبوان يمنحانني الدفء والرعاية.
منذ وقت قريب، أخذوني إلى مدرسة لندن وجعلوني أتحدث مع الأطفال. سألتني إحدى الفتيات إن كنتُ حقًّا تلك المرأة الشهيرة ‘مينا دي Meena Dee’، التي تملأ أخبارها صفحات الجرائد. قالت إن أبويها لا يصدقان أنني قد عشت في كل هذه البلاد. أكدت لها أنني مينا دي، وأنها تستطيع، إذا شاءت، أن تناديني بـ ‘أميناتا دياللو Aminata Diallo’، كما كنت أُدعى في الطفولة. حاولت أن أعلمها كيف تنطق اسمي. وبعد ثلاث محاولات، نجحتْ في نطقه. أميناتا. قلت لها إنه ليس بهذه الصعوبة في واقع الأمر. أربعة مقاطع: "أ.. مي.. نا.. تا". قالت إنها تتمنى لو أقابل والديها. وجَدَّيها. قلت لها: "يسرني ذلك." قلت لها: "أحبيهم جيدًا.. وأحبيهم كثيرًا.. أحبيهم طوال الوقت." سألتني لماذا أنا سوداء هكذا. سألتها لماذا هي بيضاء هكذا. قالت إنها ولدت هكذا. قلت وأنا كذلك. قالت: "أستطيع أن أجزم بأنك كنت جميلة برغم كل هذا السواد." قلت: "لو أن سماء لندن عانقتها الشمس مرة.. لكنتِ الآن أجمل." سألتني ماذا آكل. يقول جدي إنه يراهن أنك تأكلين لحم الفيلة نيئًا. قلت إنني في الحقيقة لم أذق لحم الفيلة مطلقًا، ولكن عشت أيامًا كان إحساسي فيها بالجوع يكفي لأن أفكر في ذلك. في حياتي كلها، طاردت ثلاثة أو أربعة منها. غير أني لم أفلح، قط، في إمساك أحدها لأمنعه من العيث في القرى، وأجبره على الوقوف ساكنًا حتى أتمكن من الحصول على وجبة مناسبة. ضحكت وقالت إنها تود لو تعرف فعلاً ماذا آكل. قلت: "آكل ما تأكلينه.. هل تظنين أني سأجد فيلاً يمرح في شوارع لندن؟ سجق.. بيض.. حساء ضأن.. خبز.. تماسيح.. وكل هذه الأشياء المألوفة." تساءلتْ: "تماسيح؟" أخبرتها أنني أردت فقط أن أختبر حسن استماعها. قالت إنها مستمعة جيدة، وإنها ترجوني أن أحكي لها حكاية من حكايات العفاريت.
قلت لها: "يا صغيرتي.. حياتي نفسها واحدة من حكايات العفاريت."
وقلت إنني أميناتا دياللو، ابنة مامادو دياللو وسيرا كوليبالي ‘Sira Kulibali’، ولدت في قرية بايو التي تبعد عن ساحل الحبوب في غرب إفريقيا ثلاث ليالٍ سيرًا على الأقدام. أنا من البامانا ‘Bamana’ . وكذلك من الفولا ‘Fula’ .أنتمي لكليهما معًا، وسوف أوضح ذلك فيما بعد. أظن أني ولدت سنة 1745، أو حواليها. وأنا عاكفة حاليًّا على كتابة سيرتي. بكل تفاصيلها. چون كلاركسون ‘John Clarkson’ واحد من أقل مناهضي الرق حماسة، غير أنه الوحيد الذي أثق به، طلبت منه ألا يغير شيئًا مما كتبت إذا ما متُّ قبل إنجاز هذه المهمة. المناهضون هنا في لندن رتبوا لي أن أكتب دراسة قصيرة، حوالي عشر صفحات، أوضح فيها أن التجارة في البشر شيء بغيض، ويجب إلغاؤها. ولقد فعلت ذلك فعلاً، والدراسة متاحة الآن في مكاتب الجمعية.
بشرتي سمراء صافية. يصفها البعض بأنها سوداء مائلة إلى الزرقة. عيناي لا تقويان على القراءة أو تكادان، ورغم ذلك، أحبهما. الريبة، الاحتقار، الكراهية- لا أحب الحديث عن مثل هذه الأشياء على الملأ.
يقول البعض إني كنت فائقة الجمال ذات يوم. غير أني لا أتمنى الجمال لامرأة لا تملك حريتها، ولا تستطيع أن تقرر عمَّن تمنع نفسها. لست الآن على هذا القدر من الجمال. لم تعد لي تلك الأرداف المستديرة الساحرة، والتي يندر مثلها في بلاد الإنجليز بمؤخراتهم الممسوحة. ولا هاتان الفخذان المكتنزتان، ولا الربلتان المتألقتان كتفاحتين. ولم يعد نهداي يُحلِّقان في خيلاء مثل طائرين خرافيين. ما زلت أحتفظ بأسناني كاملة؛ لم تسقط غير واحدة. أواظب على تنظيفها كل يوم. أن أحتفظ بها كلها نظيفة وبيضاء ولامعة، لهو شيء رائع بالنسبة لي؛ والمواظبة على استعمال السواك ثلاث أو أربع مرات في اليوم، يحفظها هكذا. لا أدري لماذا كلما ازداد مناهضو الرق حماسة، ازددت شعورًا بالاختناق. بعض الرجال من بني وطني يكثرون من تناول ثمار