القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:11 ص
هناك علامات كبيرة فى تاريخ البشرية لا يَمل الإنسان من التفكر فيها والبحث عنها, بالنسبة لى تمثل مكتبة الإسكندرية أحد أهم هذه العلامات الفارقة فى تاريخ الإنسانية, نظرا لما احتوته من كنوز ومعارف وكذلك ما يمثله احتراقها من صراع بين من أرادوا خير العالم ومن أرادو فقط السيطرة عليه وتجهيل البشر وأيضا ما تلقيه قصة احتراقها من ضوء على فترات هامة من تاريخ مصر, كذلك رمزية فى وجودها فى مصر صاحبة أول حضارة مكتملة فى التاريخ, وبالتالى لم يكن من المتصور وجود مكتبة بهذا الحجم وهذه الأهمية فى العالم القديم فى بلد أخر غيرها حتى وإن كان مؤسسيسها يونانيين.
بداية الحلم:
كانت الفكرة لليونانى ديمتريوس الفاليرى وتبناها الملك العظيم بطليموس الأول* مؤسس دولة البطالمة فى مصر وأتمها ابنه بطليموس الثانى فيلادليفوس* وكان ذلك فى بداية القرن الثالث قبل الميلاد. ظل الملوك البطالمة يساندون المكتبة ويدعمونها طوال الوقت وخصصوا مبالغ كبيرة لشراء الكتب من بلاد فارس والهند وفلسطين وأفريقيا وبلاد أخرى, حتى بلغ عدد الكتب فى بعض التقديرات 900000 كتاب. كان بالمكتبة حديقة حيوان وحدائق للزهور ومعامل وقاعات للبحث بلغ عددها عشرة قاعات يقوم على العناية بها العديد من الشعراء والفلاسفه والعلماء يمكن أن تسع فى مجملها 5000 شخص وهو رقم يدل على ضخامة المبنى وأهميته فى ذلك العصر. استحدث القائمين عليها نظام تدفئة كى تبقى الكتب جافه لأطول فترة ممكنة بالمخازن التى كانت تقع تحت الأرض. كذلك اسِتجلب لها الملوك أشهر الكتبه و النُساخ والمحررين فى العالم اليونانى كى يقوموا بعمليات النسخ والكتابة. كان يتم عمل نسخ أو طبعات بلغتنا اليوم للكتب القيمة والتى كانت تحظى بتقدير كبير ربما أكبر من الأصلية وذلك بسبب التصحيحات التى كانوا يقومون بها, كذلك كانوا يرسلون مفاوضيين لشراء مكتبات كاملة بالخارج أو على الأقل عمل نسخ للكتب الموجودة بها.
علماء المكتبة:
انقسم علماء المكتبة إلى مجموعتين وهما: فقهاء اللغة والفلاسفة. كان فقهاء اللغة يقومون بدراسة النصوص ومطابقة مراعاتها لقواعد النحو الصحيحة حيث أضحى فقه اللغة علما فى ذلك الوقت وكان يتضمن علوما أخرى مثل التأريخ وعلم الأساطير. أما عن الفلاسفة , فكانوا يمثلون كافة فروع العلوم الأخرى, وذلك لأن الفسلفة كانت تشمل كل فروع الفكر والعلم مثل الفيزياء والكيمياء والطب والفلك والجغرافيا والرياضيات وكذلك الأدب وما نعرفه اليوم بالفسلفة.
أبرز علماء مكتبة الأسكندرية:
• أرشميدس : والذى يعد أشهر عالم رياضيات فى العصر القديم.
• إقليدس: وهو الذى طور علم الهندسة.
• هيبارخوس القورينى: طور علم حساب المثلثات ودافع عن مركزية الأرض فى الكون.
• أرسرطارخس الساموسى: والذى تبنى نظرية مضادة لهيبارخوس والتى تقول بمركزية الشمس فى الكون وكان ذلك قبل كوبرنيكوس بقرون.
• إراتوستينيس: وهو جغرافى صمم خريطة دقيقة إلى حد كبير للكون المعروف آنذاك.
• هيرفيلوس الخلقدونى: فيلسوف توصل إلى نتيجة هامه وهى أن الذكاء مركزه العقل وليس القلب.
• أبولونيو البرجامونى: عالم رياضيات ألف كتابا عن القطع المخروطية.
• هيرون السكندرى: مخترع علب التروس وبعض الألات التى تعمل بالبخار ومؤلف كتاب "الأله" والذى يعد أول محاولة لعمل انسان ألى.
• جالينوس : رائد علم التشريح.
• تشمل القائمة عدد لا يحصى من الفلكيين مثل تيموخاريس و أرستوليس وكذلك جغرافيين مثل كلاوديوس بطليموس.
بداية النهاية للحلم الكبير:
دائما ما يشار إلى أن أول دمار للمكتبة تم على يد الرومان أثناء تعقب يوليوس قيصر الذى وصل إلى مصر لتعقب صديقه القديم وصهره بومبى الكبير بعد هزيمته فى فارساليا* ولكن كان قد تم إغتيال الأخير على يد بوتينوس معلم ووزير بطليموس الثالث عشر (فيلوباتير) وذلك من أجل التقرب من قيصر. كانت مصر تعانى حربا أهلية فى ذلك الوقت لوراثة العرش بين بطليموس الثالث عشر وأخته كليوباترا , وأثنائها انحاز قيصر لصف كليوباترا السابعة, والتى كانت تعى جيدا أنها لن تتمكن من هزيمة روما الفتية عسكريا ولكن ربما إستطاعت غزو قلب قيصر وبالتالى التقرب من أعدائه فى السناتو وبالفعل تزوجته وأنجبت منه ابنها قيصرون. أعلن بوتينوس الحرب عليها فى 9 نوفمير 48 ق م, حيث هاجمت القوات المصرية بقيادة قائد مرتزقة يدعى أخيل (سنتيرون القديم) قوات قيصر فى القصر الملكى بالمدينة وحاولوا أسر المركب الرومانية الراسية بالميناء . و فى أثناء المعركة أشعلت قوات قيصر النيران فى مراكب الأسطول المصرى والتى احترقت عن بُكرة أبيها فى سويعات قليلة. ولكن وفقا لرواية قيصر نفسه فى كتابه الحرب السكندرية فإن المدينة لم تتأثر و"ذلك لعدم وجود مبان خشبية يمكن للنيران ان تلتهما".
ومع ذلك فإن المصادر الكلاسيكية الأخرى تقضى بأن هذا الحريق قد امتد لمخازن الكتب بالمكتبة الكبرى والتى كانت توجد بالحى الملكى, بالقرب من الميناء . ويؤكد سينيكا* فى كتابه "النفس المطمئنة" على فقدان أكثر من 40000 ألف كتاب وفقا لمصدره المفقود وهو عبارة عن كتالب تيتيوس ليفيوس, والذى عاصر الكارثة. ويعيد باولو أرسيوس هذا الرقم فى القرن الخامس فى كتابه المعنون" تاريخ الوثنينين" قائلا" عندما نشبت النيران فى الميدنة فإنها التهمت 040000 ألف كتاب كانت مُخزنة بالصدفة فى بعض المبانى". ويشير كاسيوس ديو إلى دمار مخازن الميناء والتى كانت تحوى بعض اللفائف, ويعتبر بلوتارخ الخيرونيى أول من أشار بشكل ضمنى إلى إتساع رقعة الحريق ووصوله إلى المكتبة الكبيرة والتى تحولت معه إلى رماد كامل وليس تدمير جزئى . بعد الحريق الكارثى وموت قيصر ووصول أغسطس الى سدة الحكم, لجأت كليوباترا السابعة ومعها مارك أنطونيو الى مدينة تارسو فى تركيا حاليا . ربما آنذاك قدم لها أنطونيو(أحد حكام روما الثلاثة ) 200000 مخطوط من مكتبة برجامون* فى أسيا الصغرى, والتى قامت كليوباترا بتخزينها فى المكتبة ربما كتعويض عن أى خسارة محتملة.
تم التاكيد على وجود المكتبة بعد هذا الدمار المفترض وذلك من خلال نقش تم العثور عليه فى بداية القرن العشرين مخصص لتيبيريوس كلاوديوس بالبيلو والذى كان يقوم بإدارة المتحف والمكتبة. وأيضا عندما عندما يحكى سويتونيوس تاريخ الإمبراطور دوميتيان فإنه يشير الى قيام الاخير بالإنفاق السخى لإصلاح المكتبات المحترقة على طول الامبراطورية وعرضها والبحث عن نسخ أخرى بديلة للتى احترقت. و أرسل الى الإسكندرية بعثة من أجل نُسخ مصقولة وإصلاح النصوص.
ومن تحليل ما سبق يتضح بشكل كبير أن حريقا كبيرا وقع أثناء حروب قيصر فى الإسكندرية ولكن يختلف المؤرخين عما إذا كان هذا الحريق قد أتى على المكتبة كليا أم جزئيا.
الأسكندرية فى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد:
ألمت بالمدينة الكبيرة فى هذين القرنين الكثير من الكوراث نتيجة العديد من الحروب مثل حرب كيتوس* التى قام فيها اليهود بتدمير جزء كبير من المدينة, والحرب البوكالية وكذلك العنف الذى صاحب فترة حكم الأباطرة كاراكلا وأورليانو ثم القمع الكبير الذى أعمله الإمبراطور الدموى دقلديانوس للقضاء على المسيحية للدرجة التى جعلت الكنيسة القبطية تتخذ من بداية حكمه فى 284 م بداية للتقويم القبطى. وعليه يرى الكثير من المؤرخين أن كل ما سبق بإلاضافة للعديد من الزلازل الكثيرة التى تعرضت لها المدينة لابد قد ترك أثرا كبيرا على المكتبة وخاصة تلك التى كانت تكونت فى معبد السرابيوم وسُميت بالمكتبة الصغرى.
المكتبة فى العصر المسيحى:
بعد أن أصبحت المسيحية هى ديانة غالبية أهل مصر, طلب أسقف المدينة ثيوفيلوس* من الامبراطور ثيوديسيوس الكبير هدم المعابد الوثنينة, فقام الأخير بحملة طالت معبد السرابيوم حيث كانت تقع المكتبة الصغرى التى كانت تحمل ما تبقى من مجد المكتبة الكبيرة . وقد شهد على ذلك المؤرخ الرومانى سقراط القسطنطينى فى كتابه الخامس عن التاريخ الكنسى الذى كتبه فى 440 م. واصل تلك الحملة على الوثنية الأسقف كيرلس عمود الدين* وهو ابن أخت ثيوفيلوس والذى فى عهده تم قتل الفيلسوفة المصرية هيباتيا*.
المكتبة فى العصر الإسلامى:
تتحدث بعض المصادر العربية عن طلب المؤرخ يوحنا فيلوبونوس المعروف عند العرب بيحيى النحوى من القائد العربى عمرو بن العاص الحفاظ على كتب مكتبة الإسكندرية وبالتالى أرسل عمرو بن العاص للخليفة عمر بن الخطاب الذى رد عليه قائلا" إذا كانت تتوافق مع كتاب الله فلاداعى لها, فيكفينا القرأن وإن كانت مخالفة له فالأفضل حرقها", وفقا للقصة فإن عمرو بن العاص لم يروقه رأى الخليفة ولكنه لم يكن يملك غير الإمتثال له وبالتالى ووفقا للقصه تم حرقها لتدفئة حمامات المدينة البالغة 4000 حمام وبقيت مشتعلة طيلة ست أشهر. ذكر هذه القصة الكثير من المؤرخين العرب منهم ابن القفطى وعبد الطيف البغدادى وابن النديم وابن خلدون والمقريزى.
قبل الرد على تلك الحكاية وتفنديها سوف أورد مثلا تاريخيا للدلالة على كيفية نشأة الأساطير, وهو عبارة عن ما ذكره المؤرخ اليونانى هيرودوت الذى لقبه البعض بأبو التاريخ عن أن الملك خوفو العظيم بانى الهرم الأكبر قد أجبر ابنته على العمل فى الدعارة كى تبنى هرما صغيرا لها بالقرب من هرمه العظيم. ومن المعروف أن هذا المؤرخ اليونانى قد عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد ومن المعروف أن خوفو كان قد حكم مصر حوالى 2500 ق م , فكيف لنا أن نعتبر ما ذكره تاريخا موثقا علما بأنه لم يكن يجيد اللغة المصرية القديمة؟ ولكن مجرد ذكر قصه خيالية فى مشاهداته فى مصر أصبحت تاريخا لدى بعض من يريد تشويه التاريخ. هذا بالضبط ما حدث مع قصه الصاق تهمه حريق مكتبة الإسكندرية للعرب. بداية لابد وأن نتسأل عن ذلك الحوار الذى دار بين عمرو بن العاص ويحي النحوى, فلا توجد وثيقة معتبرة تدل على أنه قد حدث وبالتدقيق فى تاريخ وحياة يحيي النحوى نجد أنه قد عاش ومات فى القرن السادس بعد الميلاد أى قبل قدوم العرب إلى مصر. التدقيق الثانى فى القصة والتى ينسفها من الأساس هو التدقيق فى عدد الحمامات التى أشعلوا لها الكتب وهو 4000 حمام , فعلاوة على أن الكتب فى ذلك الوقت كانت تُكتب على الرق وهو عبارة عن جلود مدبوغة ومعالجة للكتابة وبالتالى لا تشتعل وأيضا كى يظل هذا العدد من الحمامات مشتعلا طيلة ستة أشهر لابد من وجود على الأقل 14 مليون كتاب وهذا أمر مستحيل. إلاأن تدوين القصه وفي وقت متأخر جدا عن تاريخ الحدث يبقى أهم وأخطر ماوُجه لهاأي القصه من نقد فابن العبري وهو المصدر الذي أعتمد عليه المؤرخيين الغربيين كان قد عاش مابين عامي 1226 – 1289 واعتمد ابن العبري على عبد اللطيف البغدادي الذي كان قد زار مصر عام 1203 .
لكي نقبل قصه تدمير مكتبه الإسكندريه على يد العرب يجب علينا أن نفسر كيف أن حدثا دراماتيكيا مثل هذا قد غاب ذكره ليس في المصادر الإسلاميه المعاصره للحدث وحدها بل في مصادر الكنيسه القبطيه أو غيرها من الكنائس المسيحيه وأغفلت حتى المصادر البيزنطيه و اليهوديه أو اي جهه كانت ترى فيالمكتبه صرحا بتلك الأهميه ذكره.
إلا أن تلك القصه لاتزال تعيش حتى اليوم بل يُعاد سردها رغما عن كل تلك الإعتراضات ,ومابقاؤها إلا دليل عن قدره الأساطير على العيش في ذاكرةالبشر، إلاأن الأساطير لاتأتي عن فراغ بل تُقدم للإجابه عن تساؤلات البشر أو أنها تخدم غرضا وهدفا معينا ومالنا إلا أن نتسائل عن الغرض والهدف من هذه الأسطوره .
فى كتابة "تشريح الأسطورة anatomy of a myth" يرى المستشرق برنارد لويس أن بعض المسلمين يقدمون هذه القصة كمثال على تربص الغرب بالإسلام ومحاولته الدائمة لتشويهه على الرغم من أن جميع المصادر التى ذكرت القصة بإستثناء ابن العبرى كانوا عربا وأن من حاول ويحاول تفنديها هم علماء الغرب وبالتالى وفقا للويس فلابد من وجودسبب قوى كى توجد هذه القصة وفى رأيه لا يخرج هذا السبب عن محاولة المؤرخين عبد الطيف البغدادى وابن القفطى وهم كانوا من أشد المعجبين بصلاح الدين الأيوبى بمحاولة إيجاد سابقة تاريخية تكون شخوصها من أبطال صدر الإسلام كى يظل سجل صلاح الدين ناصع بعد أن قام بحرق جميع الكتب التى كانت تؤسس للمذهب الإسماعيلى الشيعى فى مصر وهو الفعل الذى ربما أثار حفيظة العلماء فى الشرق فى ذلك الوقت, لذا فحين أحرق صلاح الدين الكتب المهرطقه فهو لم يفعل سوى أن نفذ وطبق سنه عمر بن الخطاب ويكون قد اقترفعملا بطوليا لا عملا بربريا. ونحن هنا لا نرغب بأى شكل من الأشكال فى تبرئة ساحة أحد وإلصاق التهمة بأحد أخر ولكن فقط نتبع المنهج العلمى فى تفنيد الأدلة المذكورة كى نصل فقط لمبتغانا وهو الحقيقة التى لا يمكن لأحد الزعم بإمتلاكها.
________________________________________
*بطليموس الأول: مؤسس الدولة البطلمية فى مصر وكان من قادة جيش الإسكندر الأكبر (367 ـ283 ق م )
*بطليموس الثانى: ثانى الملوك البطالمة فى مصر (309 ـ 246 ق م)
*معركة فارساليا: وقعت فى 48 ق م بين كلا من يوليوس قيصر وغريمه بومبى وتعتبر نهاية للجمهورية الرومانية وبداية الحكم الإمبراطورى.
*سينيكا: فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني (4 ق م ـ 65 م )، كتب أعماله باللغة اللاتينية. ولد في قرطبة C?rdoba في إسبانيا وتوفي بالقرب منروما.
*برجامون: مدينة تاريخية بتركيا إشتهرت مكتبتها فى العصر الإغريقى بكونها ثان أكبر مكتبة بعد مكتبة الإسكندرية.
*حرب كيتوس: هى عبارة عن تمرد يهود الإمبراطورية الرومانية فى 115ـ117 ولكن تمكنت فيالق روما بقيادة لوسيوس كيتوس من سحقها.
*ثيوفيلوس: بطريرك الإسكندرية رقم 23 عام 385 م.
*كيرلس عمود الدين: البطريرك الإسكندرية الرابع والعشرون والملقب بعمود الدين ومصباح الكنيسة الأرذوكسية (376 ـ444 م)
*هيباتيا: (370 ـ 415 م)فيسلوفه وعالمة رياضيات سكندرية تخصصت فى الفلسفة الأفلاطونية, لقت حتفها على يد متعصبين مسيحيين.