القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 10:01 ص
يشغلني على الدوام محاولاتي في الوصول إلى إجابات ترضى أسئلة طفلين هما حصاد عمري، تلك الأسئلة التي تتسارع حول كل ما يحدث من حولي، ومما يثير الذهن بالأسئلة الكثيرة للكبير، فما بالك بالصغيرين؟ أحاول أن أكون عقلانيًا وأن أصلح ما اعتقدته –في ظني- خللاً ما، وأقع أسير تلك النرجسية الأبوية التي ترى في شخص الأب أنه صاحب حق في التدخل كيفما شاء في حياة أولاده، وهو ما أعود لمناقشته مع نفسي وسؤالي، هل نربي أنفسنا في أولادنا، أم نصنع نماذج مقلدة من تجاربنا تختلف في الشكل والمسمى لتحمل أسماء أطفالنا وحتى تلاميذنا في المدارس؟ ولماذا لا نترك أطفالنا لحياتهم وتجاربهم الخاصة، دون أن نرى فيهم فرصة لأحلامنا نحن في بعض الحالات؟!
صدفة قاتلة:
شاءت الصدفة في الفترة الماضية أن أتابع تفاصيل حلقات لبرنامج "the voice kids" والمذاع على فضائية "mbc مصر"، وفكرة البرنامج تتخلص في مسابقة لاختيار مجموعة من الأصوات من مجموع أطفال كُثُر يتنافسون فيما بينهم، مع لجنة تحكيم ثلاثية، في ظني أن حولها من علامات الاستفهام كثير، ولكن لستُ بصدد ذلك، إنما سأتابع في فكرتي، وبعيدًا عن النقل المشوه للبرنامج عن نسخة غير عربية لها معايير وقوانين لا تتوانى لحظة في التفريط في حقوق أطفال المجتمع، وخاصة ما يتعلق بالتعدي النفسي المباشر وغير المباشر على الأطفال المشاركين، إذ تعلم أن كُلفة إصلاح خلل نفسي يحدث في الصغر ويظهر أثره فيما بعد، هي كلفة باهظة لا طاقة للمجتمع بها في بعض الأحيان.
أعود إلى ابنتي التي سألتني عن السبب حول استبعاد أحد الأطفال، واختيار آخر؟ ولأني رجل مؤمن أني لا أملك كل الحقيقة، ولا أحب الآباء من عينة "السوبر مان"، قلت ببساطة :
- "والله ما أعرف يا حبيبتي"
- "بس يا بابا والله أنا شايفة صوته أجمل من اللي فات؟!"
طبعًا، لم أدخل في نقاش أعرف أني بين نفسي، لن أقتنع بإجاباتي، وإنما سأحاول بها التبرير لهؤلاء، وهو ما نفعله مع أطفالنا على الدوام، أن نقدم التبريرات لهم، دون أن نبحث في أسباب اعتقاداتهم وما وراءها، وبعيدين كل البعد عن قيمة هامة وهي الصدق والاعتراف بأننا نحن الآباء فعلاً لا نملك إجابة، وأنه لن تنهدم الدنيا لو قلنا "معرفش"، وأن نستغل عدم معرفتنا في الحضّ على البحث معًا عن الإجابات مع أطفالنا.
أعود إلى البرنامج، لأسأل عن فحواه الفني والأدبي، وكان على قبل كتابة المقال أن أراجع مجموعة من الملحنين والمطربين المحترفين ممن أعرفهم معرفة شخصية، تجعلني "أدي العيش لخبازه"، لأسأل حول الفكرة، وأسأل كذلك بعض المختصين في علم نفس النمو، لمراجعة البرنامج وتفاصيله. وهنا لا بُدَّ أن أذكر بأنني لست ضد اكتشاف المواهب ورعايتها وتقديم كل المجهود لها، ولكن سؤالي الأكبر عن الكُلفة التي يمكن أن ندفعها ونحن ندفع دفعًا "فراشاتنا الموهوبة" إلى النار كأننا نستعجل حرقها وقطف ثمرة موهبتها قبل الأوان.
التعليم... التعليم لا مناص:
دعوني أضيف هنا ما رأيته وعرفته في زيارة قريبة إلى فنلندا عن نظام التعليم هناك، وكيف يمكن أن يتمحور في ما يُعرف في العالم العربي بمرحلة التعليم الأساسي، أن الهدف من ذهاب التلاميذ في فنلندا إلى تلك المدارس هو تحصيل المعارف المختلفة ورعاية المواهب، مع إسقاط شبه تام لما يُعرف بنظام الامتحانات الشهرية والسنوية –بشكلها المعتاد والتقليدي في مصر والعالم العربي- وهو ما يضمن إلى حد كبير تساوي فرص الجميع في حق اكتساب المعرفة مُضافًا لها القدرات الشخصية لكل تلميذ، وبعيدًا عن جو التوتر والتحفز الذي تصنعه آلية الامتحانات في عالمنا العربي، ليُعبر الأمر بشكل ما عن غرس فكرة التنافسية –باعتقادنا المدرسي العربي للكلمة- لكنه يصنع بديلاً لها من خلال التعليم التعاوني وغرس روح فريق العمل، وكيف أن المعرفة في النهاية يمكن تحصيلها بتضافر جهد الكثير لا الجهد الفردي فقط في الحفظ والاسترجاع.
وعلى هامش تلك الزيارة سألت سؤال المنبهر الشرقي عن أسوار المدرسة، فكانت الإجابة ببساطة:
- السور في ذهن التلاميذ والعاملين بالمدرسة، وفي ذهن رجل الشارع، هكذا يتعلمون في المدرسة.
حرق الفراشات:
وعن البرنامج، أعود وأسأل عن الفحوى منه، وعن الداعي لخلق مثل هذا الجو التنافسي اللانفسي –من وجهة نظري- بين أطفال لا ذنب لهم غير أنهم تمتعوا ببعض الأمل وبعض الموهبة، فاستغلها كل من حولهم، وربما يحدث ذلك بحسن نية. أضف إلى ذلك، أن مثل هذه النوعية من برامج الكبار لم تقدم لنا "الموهبة" التي يمكن أن تُحدث الطفرة، بل تقدم مواهب عجولة الاحتراق بنار الشهرة والإعلام، وكأننا نقدم فراشات بريئة إلى النار بلا ذنب لها، بينما كان الأولى مثلاً تصميم منهج دراسي حقيقي يكتشف تلك المواهب وينميها، ويصقلها، بما يضمن لكل جيل نصيبه من المبدعين والموهوبين.
بناء الدكتاتور منذ الصغر:
يبدو أنني متشائم حين أعود وأسأل هنا عن حجم تلك الانتكاسات النفسية التي غرسها البرنامج، وغيره من برامج تقدم في قنوات الأطفال، وتؤسس لمبدأ التنافس والفردية لا للعمل الجماعي وروح الفريق؟ كأننا نغرس منذ البداية في هؤلاء أن لا فرصة إلا لشخص واحد، وأن الناس لا بُدَّ أن تتنافس لأجل الفرصة لذاك الواحد، وهو ما أراه بذرة أولى نزرعها دون وعي لنجنيها فيما بعد، إذ سيأتي بعدها طوفان من تلك المصطلحات، المطرب الأول، الملحن الأول، الممثل الأول، و.. و... و.... حتى ننتهي إلى الحاكم الأوحد (فردًا/ نظامًا)، لتتم صناعة الديكتاتوريات في النهاية، ونعاني منها ونذوق الأمرين، فلا رأي إلا رأيه، ولا نصيحة إلا نصيحته، ولا مبدع غيره، ولا ملهم غيره! وأظن عالمنا وتاريخنا العربي يعج بهم.
لو تأملنا حال الديكتاتوريات في التاريخ الإنساني، سنجد فكرة الواحد متأصلة بشكل عظيم، وأظن أنها بدأت من هكذا تداعيات، هيأت المجتمعات لأن هناك ذاك "الواحد" الذي ليس كمثله أحد، فهو المخلص وهو القائد وهو الوطني، وهو البطل، وهو كل شيء، لأنه "the best one"، والعجيب في الأمر أننا حين نتتبع ببحث دقيق لهؤلاء "الواحد" في التاريخ، سنجد تلك الملابسات التي صنعتهم كادت أن تتطابق في بدايات التكوين، وخواتيم النهايات، فلماذا نُصر على خلق هذا الديكتاتور في كل حياتنا؟!
لجنة التحكيم:
أعجب ما وجدته في الأمر، أن لا أحد تُطرف له عين وهو يُشاهد عشرات الأطفال يُدمرون نفسيًا باستبعاد اعتمد بالأساس على ذوق اللجنة التي تحكم، مع ملاحظة أن اللجنة كلها –من الكبار ولا تضم طفلاً أو مراهقًا واحدًا، ولا متخصصًا نفسيًا أو في أي علم له علاقة بالأطفال-، وربما يسوّق القائمون على البرنامج لبرنامجهم من خلال لجنة التحكيم لا من خلال مادة البرنامج وهم الأطفال.
هل أطفالنا باتوا لا قيمة لهم عندنا إلى هذا الحد الذي يجعلنا ندفعهم دفعًا إلى شعلة النار المسماة "الإعلام"، دون أن ننتبه أن الأصل في الفراشات أن تطير لا أن تحترق؟!، وما هذا الإصرار العجيب على دفعهم نحو أمثال تلك التجارب النفسية التي تتناقض مع أبسط حقوقه في أن يحيا كطفل بعيدًا عن الصراعات، وفي جو من الاستقرار النفسي والأمان الاجتماعي، أليس في ذلك ضربًا للإعلان العالمي لحقوق الطفل، وكذلك لاتفاقية رعاية حقوق الطفل العربي في مقتل؟ وماذا لو استخدمت كل تلك الملايين والرعاية المقدمة لخلق مدرسة نوعية أو تقديم ورش فنية لتعليهم كل هؤلاء الموهوبين ورعايتهم لا لتحطيمهم باختيارات تعتمد في جانب كبير على الحس الفردي للمحكمين؟!
صدقوني لن أعجب حين أعرف أن أحد هؤلاء الأطفال حين يكبر دون إزالة الأثر النفسي المدمر لعدم اختياره، انضم إلى تنظيم متطرف، أو تطرف بنفسه وتشدد واتخذ موقفًا مضادًا من الفن بشكل عام، والذي كان ضمنيًا هذا الوحش الذي قرر أن يحكم على طفولته بأحكام الكبار وقانونهم التنافسي البغيض لا التعاوني.
فلماذا نحرق فراشاتنا بدم بارد؟! أليس فينا رجل رشيد؟!