القاهرة 04 يوليو 2017 الساعة 09:56 ص
الحب هبة فطرية وهبها الله للإنسان منذ أن خلقة فجعل الحب قبل الحرب . وببداهة معهودة نتساءل أي من هذين القطبين أسبق الى دواخل النفس البشرية؟
فالحب هو ذلك الوئام والسلام بين مخلوقين ، وأوله ما بين سيدنا أدم عليه السلام وأمنا حواء إذ انطلقت من ضلعه ومن تحت جناحه، وكان يمكن أن تخلق من أي عضو في جسدة ، لكنها خلقت بين جوانحه لكي يدق قلبه مع نبضها الذي انطلقت منه الحياة! وبعدها بذرة الكراهية والحرب بين هابيل وقابيل ليتأسس في ملكوت الله بين ثيمة الحب والحرب في صراع دائم يتغلب فيهما صاحب الفضيلة.
وللحب منازل ومسارات منه الحبيب ومنه النديم ومنه الخليل الخ... من المشاعر الفياضة التي لم يوجدها الله في دواخل النفس البشرية إلا لاعمار الأرض وليس لهدمها وخرابها وقتل من فيها .
وما دعاني لكتابة هذه السطور هو مشاهدة حدثين هامين يحملان هذا التضاد الكبير بين الحب والحرب وأثر كل منهما في بناء الدول وهدمها . أولهما بناء الجمال في مدينة القاهرة ؛ وثانيهما برنامج على إحدى القنوات عن سباق التسلح " الحرب الفيزيائية" ويا ألطاف الله من فرق شاسع بين الهدم والبناء والذين يعتمدان في أصلهما على الحب والكراهية! شيء غريب وعجيب وكريه ومرعب ، إذا ما أخذنا برهة من التأمل والتفكير النادرين في مثل هذه الأيام !
دعونا نسبح قليلا في أولاهما حيث فضل التكوين والأسبقية ؛ بناء أجمل ما تراه العين في القاهرة على يد اسماعيل باشا لأن هناك قلب أحب ورفرف بين جوانحه فصنع الجمال الخالد ، و لكي تسر عين المحبوبة الضيفة عند قدومها من بلاد الإفرنجة ( أوجيني) فهي محبوبة الشباب وزميلة الدراسة وقرة العين التي حرم منها!
(أوجيني) فتاة أسبانية بالغة الجمال والثقافة وتوقد الذهن . التقت بالخديوي إسماعيل وهو في ريعان شبابه أثناء دراستهما في فرنسا ووقع الشاب في غرامها ثم يعود بلاده ويصبح بعدها خديوي مصر لكن قلبه مليء بالجب وبالجال، فلم ينسه المال والسلطان وحسناوات عصره حبها المتقد في وجدانه إلا أنه يفاجأ أنها قد تزوجت من إمبراطور فرنسا وأصبحت حينها ذات نفوذ يفوق نفوذ زوجها. فيدعوها الخديوي لزيارة مصر وافتتاح قناة السويس ؛ فماذا فعل المحب حينها بشوارع مصر وبحدائقها وبساتينها وطرقاتها وقصورها إكراما لعينيها ؟
ما أن قبلت دعوة الخديوي حتى رتب العديد من الأمور لإكرام حبيبته، فأنشأ قصر الجزيرة على الطراز الفرنسي وهو ما سمي بعد ذلك بقصر عمر الخيام ثم أصبح الآن فندق (ماريوت) ، والذي بني كصورة طبق الأصل لقصر "التويليري" بفرنسا، حتى تشعر بأنها مازالت في فرنسا، وأمر بغرس حبوب زهرة الكرز تحت نافذة غرفة نومها لكل تستنشق عطرها فور استيقاظها، لأنه يعلم عشقها لهذه الزهور، إضافةً إلى أمره بإنشاء شارع الهرم، أنها ستعبر منه لزيارة الأهرامات، كما أمر الخديوي إسماعيل بإنشاء حديقة الجبلاية، والتي تبلغ درجة عالية من الجمال والأناقة، لتتمتع الإمبراطورة بها وتتريض بين أزهارها ، وقيل أنه أنشأ حديقة باهرة الهندسة المعمارية في حي الزمالك بالقرب من القصر المخصص لإقامتها لكي تتنزه بها ثم أمر بإنشاء أحواض بها أسماك من نوادر حياة البحار داخل الحديقة لكل تتمتع برؤيتها حين التنزه بها فأصبحت الآن " حديقة الأسماك" يقول أحد المؤرخين :" في يوم افتتاح قناة السويس، استقبل الخديو إسماعيل الإمبراطورة أوجيني على رصيف ميناء بورسعيد، والذي سُمي باسمها، واصطف الجنود على الرصيف، كما اصطفت السفن أمام الميناء ترحيبا بها، وبعد تناول الغداء، عُزف النشيد الوطني الفرنسي، ودخل الخديو، وترافقه الإمبراطورة إلى مكان الاحتفال، وكانا في المقدمة، فيما كان باقي الملوك والأمراء خلفهما، كما بدأت المدافع في إطلاق النيران، كنوع من الحفاوة، وفي نهاية زيارتها، أمر إسماعيل بصنع غرفة نوم من الذهب الخالص لها، زينتها ياقوته حمراء، ونُقشت حولها عبارة بالفرنسية، وهي "عيني على الأقل ستظل معجبة بكِ إلى الأبد"
أنشأ القصور والحدائق والشوارع التي نقلت مدينة القاهرة إلى مصاف المعالم العالمية جمالا وفخامة وحضارة ، لأنه يحمل بين جوانحه قلبا يرف بالحب. فحفر قناة السويس وأنشاء قصور فخمة مثل قصر عابدين وقصر رأس التين وقصر القبة وأنشاء دار الأوبرا المصرية وإنشاء كوبري قصر النيل الشهير .واستخدام البرق والبريد وتطوير السكك الحديدية ثم إضاءة الشوارع و مد أنابيب المياة فأصبحت القاهرة مدينة للنوروالجمال، فقط لأنه أحب..و مصر المحروسة في عينيه.
هكذا يعتمل الحب في بناء معالم الجمال في الحياة ، فالحب لا يبني إلا الجمال ولا وجود للقبح في عالمه على الإطلاق فإذا ما توهج بالقلب بنى الحياة والجمال والسلام السعادة في قلوب البشر!
أما الأمر الثاني النقيض وهو الحرب والقبح وفنون القتل وسباق التسليح و ما يدمر البناء والجمال ويبعث على الشقاء الإنساني لأنه مستنبت من بذرة الكراهية فهو ما ينتشر في أيامنا من فنون الحرب الفيزيائي ويسمى " علم الحرب المتطور" ! فنون في ابتكار القتل وإبادة البشرية ، وبمقارنة مع سابق هذه السطور نجد أن نابليون نفسه - وفي نفس اللحظة التي يبني فيها الخديوي بالحب فنون الجمال الخالد – يبني الأخير فنون الحرب والدمار، فيكتب بارى باركر في كتابه " فيزياء الحرب" The Physics of War ـ الذي يؤرخ أن «نابليون دَرَسَ علم الفيزياء بجانب الرياضيات والفلك في المدرسة العسكرية، وأدرك أهمية العلم للحرب"! رجال عشقوا الكراهية والقتل ورجال عشقوا الجمال والحب فماذا فعل كل منهما تحت تأثير هذين المسميين في عالم الجمال والحب والسلام
فعلم النفس ما يوكد مختلجات النفس البشرية في الحرب والسلام,
وفي الحب والكراهية على النقيض.. يقدِّم كتاب مايكل ماثيوز «رأس صلبة» Head Strong ـ النابض بالحياة، والمثير للاهتمام ـ حجةً قوية على أن علم النفس يبزغ بوصفه العلم الذي سوف يُحْدِث الفرق في حرب القرن الواحد والعشرين. ويزعم أن الحرب ليست معناها مجرد القتل، إنما فَهْم أنفسنا. يوضح ماثيوز ـ وهو عالِم متخصِّص في علم النفس العسكري ـ كيف أسهَمَ علم النفس في كل شيء، بدايةً من اختيار القادة، إلى مساعدة الجنود في الإبحار عبر ثقافات أجنبية. ويتنبأ بأنه سوف يفيد يومًا ما في إنتاج عقاقير «قادرة على تنظيم استجابة المخ لضغط المعركة العصبي، وربما التخلص من اضطراب ما بعد الصدمة» ".
كلمة هامة أطلقها (ماتيوز ) وهي أن نفهم أنفسنا أولا وأن نضرب مهماز الحب من أجل السلام الداخلي والخارجي حتى نبني الجمال في أعين الكون من أجل الحياة .