القاهرة 27 يونيو 2017 الساعة 07:29 ص
د.محمد السيد اسماعيل
لا تقتصرالمقاومة على مرحلة عمرية معينة ولا تأخذ مستوىواحدا فهناك المقاومة بالفعل الفدائى والمقاومة بالكلمة فالكلمة قد تفعل كما كانيقول صلاح عبدالصبور، والمقاومة بالوعى .وهذا المستوى سابق لغيره من المستوياتفلابد ان يمتلك المقاوم أولا وعيا مناهضا لأشكال الظلم والقمع والاحتلال بحيث يكونهذا الوعى دافعا للفعل .هذا الوعى المناهض وتسييده وتأكيده فى ذاكرة الأجيالالمختلفة هو مهمة الأدب بدءا من حكايات الأجداد التى تسترجع ما ضاع وتنفخ فيهالروح، وليس انتهاء بأدب الطفل. وفى هذا السياق يحكى أن جان بول سارتر قد زارفلسطين وفوجىء أن الأطفال الفلسطينيين يحكون عنها كما لو كانوا قد عاشوا بينربوعها قبل الاحتلال الصهيونى لها وقبل تهويدها وتشويه ملامحها وعندما سأل اينتعلم هؤلاء الأطفال كل هذه الحكايات ؟ قيل له : إنهم قد تعلموا كل ذلك فى جامعةالجدات، فالجدة الفلسطينية – والجد كذلك – تمثل جامعة تمشى على قدمين وتثبت ذاكرةيراد لها أن تُمحى كما حدث للأماكن والقرى والمدن الفلسطينة.
و
ولثريا عبدالبديع كتابات متميزة فى أدب الطفل فقد أوقفتجهودها على هذا النوع الأدبى الذى يكاد يكون مهجورا، وقد بلغت كتاباتها فى هذاالنوع درجة كبيرة من التنوع ومن ذلك ما يمكن أن نطلق عليه أدب المقاومة كما يبدوفى كتابيها " حكايات الجد عمران " و "شمس البهلوان " علىالرغم من إيماننا أن الأدب الذى يحقق شروط أدبيته هو أدب مقاوم بالضرورة لأنهيقاوم القبح والظلم وكل ما يشوه الإنسان وينتقص من آدميته، لكن الكتابين المشار إليهمايجعلان من فلسطين محورا لهما. فى الكتاب الأول قصتان "حكايات الجدعمران" و" على يرسم حضن بلاده " والثانى يحوى قصتى " شمس البهلوان" و" غدا نأكل الحلوى " وإذا تعاملنا مع العنوان بوصفه عتبة دلاليةأولى، فسوف نلاحظ أن اختيار اسم عمراناختيار مقصود فى الغالب لأنه مأخوذ من تعمير الأرض الذى هو مهمة الإنسان الأولى فىالحياة .تعمير الأرض وليس سلبها واغتصابها وتهجير اهلها وهكذا يقف الجد عمرانبدلالة الاسم على النقيض من أعدائه الذين اغتصبوا أرضه وقضوا على معالم الحياة فيهاكما توحى دالة الجد بالحكمة واتساع الخبرة الحياتية .والحكاية – أو الحكايات التىيرويها الجد – ليست مجرد سرد أو قصص للمسامرة وإذكاء أوقات الفراغ، بل هى استحضار لفلسطينالسليبة كأنها ترتسم أمام أعينهم مع كل كلمة حيث " يحكى الجد وينصت الأولاد...يطوف بهم هنا وهناك، فيصلون فى الحرم الإبراهيمى ..ثم يطير بهم إلى المسجد الأقصىوبعدها يزورون كنيسة القيامة ويأكلون من برتقال يافا " ("خكايات الجدعمران وقصص أخرى " ثريا عبدالبديع ص5دار المعارف ) الحكايات تطير بالأولادكأنها بساط الريح وتطوف بهم أرجاء فلسطين التى تجمع بين ماهو إسلامى وماهو مسيحىفى وحدة لا تعرف التنافر فهى أرض السلام التى تجمع فى محبة بين الأديان الثلاثةقبل أن يستوطنها الصهاينة ويحولون سلامها إلى حروب دائمة . وتنجح الكاتبة فى رسمصور مشهدية عديدة يتآزر فيها الصوت والحركة والسرد والحوار وهى مشاهد تقرب المعنىمن القارىء بطريقة غير مباشرة وتستحضر الصورة أمام عين القارىء. كما تنجح الكاتبةفى توظيف تقنية المنولوج فى بعض المواضع كما يبدو من ذلك الحديث الطويل الذى يقولهالصبى بينه وبين نفسه " حاذر أن تموت ياجدى ..إننا بحاجة إليك، لتعرفنا طريقبلدنا ..نحن لابد راجعون يا جدى لا بد أن نعود إلى بلدنا " وسوف نلاحظ أنالجمل الخبرية هنا مؤكدة للدلالة على الإصرار وهى الوظيفة نفسها التى يقوم بهاالتكرار فى هذا الشاهد وعلى مدار القصة سوف نلاحظ التراوح بين ضمير الغائب وضميرالمتكلم طبقا لطبيعة الحدث مما يعطى حيوية للأسلوب السردى بصفة عامة .
وفى مواضع كثيرة نجد التركيز على تفاصيل الوطن وأشيائهالحميمة وشخصياته القريبة من الذات الساردة ومشاهد الطبيعة الفلسطينية المميزة فقدكان ياسر – الحفيد – " يفكر فى السكن والدار والأرض ..الراحة والهناء التىيجدها الناس فى دورهم وبلادهم يفكر فى الدار والجار وصحبة الأخيار تمر أمام عينيه" (ص11).
وهناك توظيف لتقنية الحلم الذى يأخذ طابعا فانتازيا كماتستخدم الكاتبة هروب الحمام للكناية عن هروب السلام من أرض فلسطين، لكنها تختمالقصة بالأمل فى العودة وعودة الحمام بوصفه رمزا للسلام. وفى قصة " على يرسمحضن بلاده " يحل الرسم محل الحكاية وفى المجتمعات البدائية كانوا يرسمون صورأعدائهم، وهم قتلى على سبيل الأمنية،فالرسم معبر عن رغبات الذات وهذا ما فعله على كنوع من مقاومة الواقع البائس، فحين تلفت حوله "رأى شيئا عاليا ايضا انهااعمدة الانارة لكن لها رءوس خربة لم يرها مضاءة من قبل وسقط أكثرها، فسكنتهاالفئران والزواحف آمنة "(ص18) هذا على العكس من الطبيعة الساحرة التى تريدالمعلمة أن يرسمها التلاميذ، ورغم هذا الواقع البائس يجد نبتة خضراء رمزا للأمل،فيأخذها بحنو ويحدثها عن أحلامه المستقبلية، وفى بعض المواضع نجد تأثرا بالقرآنالكريم حين تقول المعلمة" يمكننا ان نرسم النخل باسقات لها طرح جميل "وفى قصة "شمس البهلوان " يتم الربط بين صلاح الدين رمز البطولة وفتيانفلسطين ومنذ البداية يصبح فقر المكان دالا على فقر صاحبه، فالبطل الذى ما زلنانجهل اسمه كان يبحث عن كسرة خبز، لكن شمس رغم هذا الفقر يملك قوة نفسية عاليةواعتزازا قويا بنفسه، فهو ابن بدر الفدائى حفيد عائلة كرامة، وكأننا أمام استعادةللماضى الشخصى يتوازى مع استدعاء الماضى المجيد للأمة العربية الممثل فى صلاحالدين ويصل الأمر بشمس إلى درجة التوحد مع هذا البطل التاريخى لمواجهة مايلقاهالفلسطينى من هوان وتعذيب وتشريد. لكنه لا يعتمد على القوة، فحسب بل الحيلة أيضاوهو هنا يستدعى ألاعيب على الزيبق كما يتذكر عمه الحاوى الذى كان ماهرا فى الألاعيبمع المحتلين و يتذكر – كذلك – أباه بدر الفدائى الألعبان الذى كان يناور الأعداءويتخفى منهم ويقتل عشرات الجنود منالاعداء. وفى نهاية القصة يتوهم شمس أنه يرى صلاح الدين، لكى يلقى إليه بحكمةالقصة وهى أن "الزمن الجميل يعود عندما ويعمل الجميع "(ص19) وبهذا تتخلصالقصة من الماضوية والحنين السلبى للماضى وتستشرف ما ينبغى أن يكون وهو الزمنالجميل القادم وفى قصة "غدا نأكل الحلوى " تنتقل الكاتبة من سلاح العملفى القصة السابقة إلى سلاح العلم كما تقدم القصة شخصية روز التى تركت وطنها وجاءت إلىهذا الشعب المشرد، لتعيش معه مؤكدة بذلك البعد الإنسانى لقضية فلسطين ولغيرها منالقضايا العادلة .ويأخذ عنوان القصة معنى أعمق من الحلم الفردى حين تصبح الحلوىحلوى النصر وتحقيق الأهداف المنشودة