القاهرة 20 يونيو 2017 الساعة 11:04 ص
تعد الرواية أكثر الأجناس الأدبية كفاءة في ابتكار الكيفيات، التي تتعدد بها وعبرها وسائط نقل المحكي الروائي، من كونه مادة خام إلى كونه فنا، لتنهض علاقة هامة وضرورية بين النص الروائي والنصوص الغائبة بأنواعها، فيغدو فيها التناص عنصراً ملهماً وكاشفاً في الوقت نفسه، إذ يعبر كل واحد منهما عن الآخر، ويتحول به حيث إن شجرة نسب النص شبكة غير تامة، من المقتطفات المستعارة شعوريّاً أو لا شعوريّاً.
تحاول الرواية المعاصرة حشد الهموم الإنسانية كلها، داخل المتن السردي لتحولها إلى عمل فني وإبداعي، فتسعى إلى الانتقاء الجيد لمختلف هذه الاهتمامات «إنه الخيار الدقيق العسير، وسط زحام الممكنات وإغراءاتها، للوقوف على بؤر أكثر توهجاً، والأقل استطرادا وتشتتاً؛ حيث إن الإلمام بكل تلك القضايا المتشعبة ومتعددة الاتجاهات والمجالات بشكل بؤرة تأزم النص الروائي المعاصر.
ولأن الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية قابلة لتمثيل تلك القضايا؛ ولأنها تعتبر لوحة فسيفسائية لمختلف الأجناس، فهي تعطي انطباعا يستطيع القارئ من خلاله أن يتذوق سلطان الصياغات، وانقلاب الأصول والمرح، الذي يأتي بنص سابق من نص لاحق.
لعب الشكلانيون الروس دورا بارزا في تحليل الخطاب الحكائي ، وكانت لأعمالهم آثار واضحة في النقد العالمي المعاصر حيث تركزت أبحاثهم على الجانب الشكلي والتركيب البنائي الداخلي ، واهتموا بالبنية الأدبية وبالوصف الموضوعي لطبيعتها ، ورفضوا المقاربات النقدية التي تفسر العمل الأدبي انطلاقا ً من سيرة حياة الكاتب ، أو من علاقة النص بمرجعه ، أو من خلال العلاقة بالعلوم الإنسانية الأخرى كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس.
وكان من أهم جهودهم البحث عن الوحدات التي يخضع لها الحكي ، فأنجزوا في ذلك عددا من الدراسات التي اعتمدت على الوصف الدقيق لبنيات الحكي الداخلية ، ومحاولة كشف العلاقات التركيبية والمنطقية القائمة في الحكي ، " وتركزت عنايتهم بالأنساق البنائية في العمل الحكائي انطلاقا من إقامة تماثل بين أنساق تركيب المبنى والأنساق الأسلوبية في الاستعمال الجاري للغة.وهو ما حدا بهم للتمييز بين ما يمكن تسميته بالمبنى الحكائي والمتن الحكائي.
الشخصية في الرواية:
تعدّ الشخصيّة الروائيّة من أهمّ أسس البنيان الروائيّ، يختلف تعاطي الروائيّين مع شخصيّاتهم تبعاً لكثير من الأمور، في بعض الأحيان تفرض الشخصيّة نفسها على الروائيّ، وفي أحيان أخرى، تفترض محاورُ العمل الروائيّ شخصيّاتٍ بعينها، فيخلقها الروائيّ ليسدّ بها الفراغ الذي قد ينشأ، يحتاج إليها العمل، يرسمها بطريقة آليّة، ويتخلّى عنها بعد أن تؤدّي دورها المحدَّد، وفي هذه الحالة، يختلف الشعور حيالها، فقد يتركها بعد توظيفها في المحور المختار دون أيّ رأفة أو اهتمام، فلا يعود إلى ذكرها لاحقاً، وينهي استمراريّتها بإنهائها، وقد يفسح لها المجال لتستكمل دوراً ما حتّى في غيابها.
إشكاليّة الشخصيّة الروايّة لا تضبط بتعريف ولا تحدّد بمقياس ثابت، الأنماط المتعدّدة الموجودة للشخصيّة تجعل الشخصيّة الروائيّة، كتقنية، خارج أيّ تنميط، لأنّها من أكثر عناصر الرواية مرونة، تبدو بسيطة بقدر تعقيدها، لذلك فإنّها تظلّ عصيّة على التقييد والتقعيد، بعيداً عن التعريفات المدرسيّة التبسيطيّة، وبعيداً عن الافتراضات التسطيحيّة التي ترهن الشخصيّة لرغبات مفروضة ونزعات ملبّسة.
كيف يبدع الروائيّ شخصيّاته؟
هل هي محض خياليّة أم فيها شيء من عالمه؟ وما هي مشاعره تجاهها؟ هل يحبّها أم يكرهها أم يخفي مشاعره؟ وما هي مشاعره تجاه قسوة مصائرها؟
هناك شخصيّات تكون حاضرة في ذهن الروائيّ قبل المباشرة بعمله، أي تكون الشخصيّات – الشرارات، ولا يقتضي ذلك أن تظلّ رئيسة، بل يمكن أن تتحوّل مع تصاعد المحاور الدراميّة وتداخل الخطوط والخيوط إلى شخصيّات ثانويّة، كما أنّ كلّ شخصيّة تفترض ندّاً أو مكافئاً لها في العمل، وهكذا يجد الروائيّ نفسه أمام شخصيّات ينطلق بها ومنها، ثمّ يخلق أخرى يحتاج إليها العمل، وتقتضيها الأحداث والمجريات والتوازنات والتجاذبات. يمكن أن تكون الشخصيّة الروائيّة تصويراً لشخصيّة واقعيّة بعينها، كما يمكن أن تكون جمعاً ومزجاً لعدّة شخصيّات واقعيّة وأخرى متخيّلة. ترتبط بالواقع لكنّها لا تتطابق معه تماماً. تلتقي في نقاط وصفات وتفترق في أُخرى.
يستحيل أن تكون الشخصيّة الروائيّة محض خياليّة، لأنّ الروائيّ يعيش في عالم مصطخب، ولا يمكن التغافل عن أيّ مكوّن من مكوّنات عالمه النفسيّ والمادّيّ بأيّ شكل من الأشكال، ولا يمكن ممارسة القطيعة مع عالمه، لأنّ فكّ الارتباط مكلف ومعقّد وخطير، ومن هنا، فإنّ الشخصيّة الروائيّة تشتمل على الكثير ممّا يحيط بالروائيّ، حتّى أكثر الشخصيّات غرابة، وأبعدها عن واقعه، تنوجد بطريقة أو أخرى، تجتاح عالمه، أو تكون قد اتّخذت لها مستقرّاً في قرارته، أو قد خمدت في ذاكرته، وجاءت الرواية لتثوّرها، وتشعلها في بحر أحداثها. كلّ شخصيّة هي جمرة في قلب الروائيّ، يغلّفها بالذاكرة، ويحرص ألّا يطالها رماد الإهمال والنسيان، لأنّه في حاجة دائمة إلى كلّ مَن وما مرّ معه.
المشاعر إزاء الشخصيّة الروائيّة محطّ اهتمام وموضع تجاذب، ذلك أنّ الرواية باعتبارها تقليداً للواقع في بعض جوانبه، وتصويراً لبعض معتركاته، فإنّها تتمتّع بمقدرة استيعابيّة هائلة، تحتضن مختلف النماذج، وليس بالضرورة أن تكون الشخصيّات كلّها مقرّبة من قلب الروائيّ، لكن لا مناصّ من التحكّم بالمشاعر لتظهر على طبيعتها دون أن تتحمّل تلبيسات معيّنة قد لا تنسجم مع بنيتها وتكوينها. وأعتقد أنّ في القول بأنّ الشخصيّات الروائيّة هي كالأبناء، فيها الخيّر والشرّير، بعضاً من الانسياق وراء تعميمات بعينها، لأنّ الرواية كحرفة، تُبتنَى عوالمها ببراعة وتدقيق من قبل الروائيّ، ويظلّ دور المصادفة محدوداً، لكن هذا لا يعني أنّ مشاعر الروائيّ معدومة أو محدودة إزاء شخصيّاته، قد يقع في أسر بعضها، حبّاً أو كرهاً، قد تشغفه بأفكارها وجنونها، لكن لابدّ أن يتحرّر من تلك السطوة كي يتمكّن من بناء عالمه من مختلف الزوايا. ولو أنّه ظلّ سجين شعور بعينه، لن يتمكّن من تصوير الأبعاد المختلفة. كما أنّه يستخرج شخصيّاته كلّها من داخله، لتستكمل الشخصيّة الدورة الواجبة، يستعيرها دون استئذان، يعرضها على مصفاته الفكريّة والنفسيّة، يمرّرها إلى الرواية بعد فَلترتها.
الروائيّ يخلق عمله، يتحلّى ببعض صفات المحرّر، من حيث إفساح المجال للمصير المرتَقب أن يقوم بدوره، وترك الخطوط تسير إلى منتهاها المرسوم. وقسوة المصائر المنتقاة ليست بعيدة عن قسوة الوقائع المَعيشة، هي أصداء لها، لكنّها قسوة تحفر في قلب الروائيّ. وليس من السهولة التحرّر من ذاك الألم الذي تخلقه النهاية البائسة، كما ليس من اليسر الفكاك من سحر الشخصيّة، ولا من الأسى الذي ينتج جرّاء موتها الحتميّ، وذلك مع انعدام أيّ مجال لتغيير ذاك المصير القاسي.