القاهرة 20 يونيو 2017 الساعة 10:49 ص
الشهادة الأدبيّة تعبير خاصّ ونوعيّ ونموذجيّ واستثنائيّ عن تجربة الأديب في ظرف معيّن، وحالة معيّنة، ومناسبة معيّنة، ومقام معيّن، يحكي فيها عن مفصل محدّد من مفاصل تجربته الإبداعيّة بصورة دقيقة وحِرَفيّة تضيء جانباً مهمّاً منها، ويكون حديثه فيها مُنصبّاً على أحد الجوانب التشكيليّة المتعلّقة بالأدوات والتقانات داخل الفضاء الفنيّ الجماليّ حول التجربة، أو ما يتعلّق بالمقولة الموضوعيّة والمضمونيّة التي تنطوي عليها هذه التجربة في هذا المفصل، بما يعكس صورة أخرى غير مُكتَشَفة من صور التجربة وآفاقها وطبقاتها يمكن أن تقدّم وظيفة مهمّة في سياق تمثّل التجربة من أجل قراءة أفضل.
ولا بدّ هنا من التمييز بين صنوف الكتابة التي ينتمي إليها الأديب صاحب التجربة وهو يكتب شهادته الأدبيّة في السبيل إلى تمثيل التجربة تمثلاً نوعيّاً، فالشهادة الأدبيّة التي يكتبها الشاعر تختلف حتماً عن الشهادة الأدبيّة التي يكتبها القاص أو الروائي أو الكاتب المسرحي أو غيره، لأنّ الشهادة تُكتب في مستوى رئيس وأساس من مستوياتها تعبيراً عن خصوصيّة الجنس الأدبيّ فضلاً عن شخصيّة الأديب المبدع.
إنّ (خصوصيّة) التجربة التي تعبّر عنها الشهادة الأدبيّة وعلاقتها بـ (العام) الأجناسيّ تؤسس للجدل المطلوب في فلسفة الشهادة، فالجنس الأدبيّ بحكم طبيعته وهُويّته وقواعد بناء خطابه يلوّن الشهادة بما يناسبه ويتوافق مع فضائه، فضلاً عن أنّ الأديب المنتمي كتابيّاً إلى جنس أدبيّ معيّن ستكون كتابته لشهادته الأدبيّة نابعة من صميم تجربة الجنس، وعلى مجتمع التلقّي استقبال الشهادة الأدبيّة استناداً إلى معيار الجنس الأدبيّ كي تتحقّق الصورة المثلى للخصوصيّة الكتابيّة وجوهر أدائها وتعبيرها.
يمكن تحديد الهُويّة الأجناسيّة للشهادة الأدبيّة في سياق ثلاثة مرتكزات متداخلة ومتعاضدة ومتضامنة وموحّدة، بوسعنا عدّها أساساً مرجعيّاً وإجرائيّاً للتشكيل والتكوين والتمثيل والأداء في نصّ الشهادة، وهي مرتكزات يمكن توافرها في الكثير من أشكال الكتابة المعروفة الأخرى لكنّها في الشهادة الأدبيّة ينبغي حضورها بقوّة وعلى نحو أصيل، ويمكن فيما بعد إضافة مرتكزات أخرى بحسب قراءة النوع الأدبيّ من جهة، وبعد تطوّر هذا النوع وشيوع كتابته وتلقّيه على نحو واسع يتيح له التمظهر أكثر، بما يفتحه على مساحات عمل جديدة تفرز مرتكزات أخرى تساعد في تطوّر كينونته على المستويات الإبداعيّة كافّة.
أمّا المرتكز الأوّل فهو (القصديّة) بمعنى أنّ التوجّه القصديّ المباشر نحو هذا النوع من الكتابة هو الأصل في تكوين الهُويّة الأجناسيّة، فالشهادة الأدبيّة لا تأتي من دون هذه القصديّة الكتابيّة التي غالباً ما تُنجز استجابة لدعوة من جهة أدبيّة تكلّف الأديب بكتابتها، فيكتب الأديب شهادته حين يقرّر قبول الدعوة لتكون القصديّة مشتركة من طرف الجهة الداعية، ومن طرف الأديب حين ينوي تلبية الدعوة والخوض في نوع كتابيّ ينطوي على درجة عالية من الإغراء والرغبة، وينطبق الكلام نفسه على من يكتب شهادة أدبيّة غيريّة.
فالجهة الداعية تطمح إلى إغناء مؤتمرها أو ندوتها بمجموعة من الشهادات الأدبيّة المختارة والمنتخبة بعناية تدعم الأوراق البحثيّة التي يقدّمها عادةً أساتذة وأكاديميّون متخصّصون، والأديب المدعو لتقديم شهادته الأدبيّة يجدها فرصة لقول ما لم يستطع قوله في كتابته الإبداعيّة ممّا يسلّط الضوء على مساحات ربّما تبدو خفيّة في طبقات عمله الإبداعيّ، لتنتهي الشهادة إلى نهاية كتابيّة مفيدة في أكثر من اتجاه تضيء زوايا معتمة في حقل عمله وتفاصيل قد تكون غير مُكتشَفة، وكذلك الكاتب الآخر وهو يكلّف بكتابة شهادة عن أديب أو مثقّف محتفىً به حين يكون لديه ما يقوله من جديد في هذا السياق.
المرتكز الثاني هو (الرؤية) بوصفها موقفاً ووجهة نظرٍ ومغزىً وقيمة ثقافيّة عالية، تحمل مقصديّة كاتب الشهادة الأدبيّة بروح الأديب ونظرته وأهميّة ما تؤديه من وظائف دلاليّة أصيلة وموضوعيّة وذاتيّة، ولا بدّ أن تكون الرؤية واضحة وعميقة وواسعة وشاملة للموضوع الذي تشتغل عليه، وتعالجه معالجة حثيثة تعبّر عن طبيعة التجربة ومنطلقاتها وحيثياتها ومراكزها وأطرافها وزواياها وطبقاتها، وهذه الرؤية ينبغي أن تنطلق من عتبة معرفة وافية بكلّ خفايا الموضوع ومقدماته وخلفياته، وتنعكس على مساحة المكتوب في الشهادة الأدبيّة بوصفه خبرة فريدة قادرة على الإضافة في مجال بحثها، وتخضع قيمة الرؤية ودورها في صوغ الشهادة الأدبيّة لسعتها وخصبها وعمقها ومعرفيّتها وأدبيّتها، ودرجة وعي الأديب في التقاط ما يصلح من الموضوعات في ضوئها لإنشاء شهادته.
المرتكز الثالث هو (المنهج) وهو يتكامل مع الرؤية ويستجيب لأطيافها وضروراتها وتمثّلاتها، ويحقّق قيمها الموضوعيّة على نحو معرفيّ أصيل وجميل، إذ بلا منهجيّة واضحة ومرسومة بدقّة وخاضعة لظهير معرفيّ أصيل لا يمكن بلوغ كتابة شهادة أدبيّة رصينة، وليس المقصود بالمنهج هنا الارتماء في أحضان منهج من المناهج المعروفة في المجال الإبداعيّ والنقديّ، بل التفاعل بين الرؤية والمنهج لبناء رؤية منهجيّة عميقة وواسعة وناضجة، تستجيب لوعي الأديب وثقافته ودرجة معرفته بخفايا وطبقات وزوايا وظلال الجنس الأدبيّ الذي يمارس كتابته، وقدرته في تشكيل شهادة أدبيّة تخصّ هذا العمل وتمثّله استناداً إلى مناسبة الكتابة وضروراتها ومقاصدها، فضلاً عن استثمارها من الكاتب لتمرير تصوّراته الشخصيّة في هذا المجال لتقديم رؤيته المعزّزة بالمنهج في ظلّ قصديّة واضحة وأكيدة.
أمّا الشهادة الأدبيّة التي يكتبها أديب أو مثقّف عن غيره في مجال الاحتفاء بأديب ما، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـ (الشهادة الأدبيّة الغيريّة)، بوصفها كتابة موازية في هذا المجال للشهادة التي يكتبها الأديب عن نفسه، فينبغي أن تخضع أيضاً لهذه المرتكزات الثلاثة على النحو الذي يناسب كلّ حالة من حالات الكتابة من حيث طبيعتها ومناسبتها وظروفها، فيتمّ التركيز على المجال المعيّن الذي يستطيع فيه كاتب الشهادة إنجاز شهادته على أمثل ما يكون، حين يذهب في تدوين شهادته نحو مفصل محدّد يُحسن الحديث عنه بجدارة والكشف عن طبقات جديدة فيه بوعي نقديّ أصيل، بما يجعل من الشهادة الأدبيّة في الحالين إسهامة حقيقيّة في تنوير وإضاءة زوايا معتمة في تجربة الأديب، على النحو الذي تكون فيه الشهادة مفيدة ومثمرة وتنطوي على إضافة مجدية ومناسبة.