القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 11:28 ص
يخبرنا التاريخ الإنساني بأمريين غاية في التناقض، إذ يعزى فضل التطور والرقي إلى أشخاص بأعينهم، وهؤلاء الأشخاص في سيرتهم الشخصية سنجد حكايات ونهايات أقل ما توصف به أنها مؤلمة، وهو ما ينطوي تحته الجميع منذ سقراط حتى اللحظة. فلماذا يظل المبدع في ذلك الصراع الأبدي في بلدنا على وجه الخصوص، ومنطقتنا العربية؟!
جين الإبداع:
تشاركتُ مع الصديق (د. صامولي شيلكه) في بحث ممتد عن الإبداع في الإسكندرية، وكُنا نطمح الوصول إلى الإجابة عن سؤال دوافع الإبداع وكان محركنا الأول في البحث، وعن استمرار هؤلاء المهمشين في "إبداعهم" –طبقًا لما يعتقدونه عن أنفسهم- وكيف يستمرون في هذا الأمر الذي بلغ حدَّ الحياة نفسها لتتحول تلك الدقائق أو السويعات -التي يمارس فيها المبدع الإنساني حقه الأصيل في التعاطي مع ما يحب أن يفعل- إلى الحياة برمتها؟! كانت الإجابات –وما زالت- تأتينا مدهشة ومتباينة في دوافعها وأسبابها، وحتمًا في نتائجها الإبداعية، حتى أنك –كمبدع- وحدك في النهاية ستدافع عن وجودك وإلى جانبك حفنة من هؤلاء الممسوسين بالجين الإبداعي على مختلف مستوياته وتوجهاته واتجاهاته، لكنك أبدًا إياك أن تظن أنك بمأمن في حياتك بهذا الجين المبدع.
نقمة الإبداع:
عرفنا أن الإبداع نعمة، لكنه يتحول إلى نقمة على صاحبه في بعض الأحيان، بل إن شئت الحقيقة فأصحابه دائمًا في كبدهم وصراعاتهم معلنة كانت أم خفية تستهلك المبدع في صمت، وهو بكل نبله يُقاوم في صمت أيضًا مستعينًا بجين الإبداع كحائط صده الأخير في هذا الصراع، ونكون –وحدنا- متلقو الإبداع وقراؤه أهل الحظ بقراءتنا لتلك النماذج التي يفرزها ذلك الصراع. ونضيف هنا أن الأمر لا يصبح حربًا في جبهة واحدة، إذ يتصادف في غالب الأوقات أن يكون على المبدع أن يدخل في صراعات مُهلكة ومستهلكة مع الدولة أو الحكومات لنزع حقوقه البسيطة بداية من النشر الإقليمي لا العام، ونهاية بصراخ الجميع لإنقاذه من الموت وصراعه الذي بات ملمحًا هامًا من ملامح المثقف المصري، إلا من رحم ربي، فكل يوم تطالعنا المقالات ووسائل التواصل الاجتماعي بتلك المناشدات لعلاج مبدع أو فنان يهزمه المرض والفقر في بلد كلما اختبرت صراعاتها تتصدر "نعرة" تقول بأننا بلد علّم العالم والإنسانية، فكيف ينتهي الحال بحملة تلك الشعلة التنويرية والحضارية إلى ذلك البخس؟!
رأس المال الرمزي:
ليس الأمر دائمًا على ذلك المنوال، فهناك من ينتج ويبدع في هدوء تام ورعاية كاملة من الدولة ومن الحكومات، وهؤلاء ليسوا ضمن نطاقنا الجغرافي العربي للأسف، إذ فهمت تلك الدول والحكومات قيمة هذا المثقف (الكاتب/ الفنان) وما يمثله من رأس مال رمزي لها في العالم كله، فهو يدها الناعمة التي تمرر من خلالها كل قضاياها الوطنية وثقافتها إلى العالم، ويقينًا ليس في تلك الدول ما يُسمى شهادات التزكية –مثلاً- التي لا يمكن للمبدع أن ينال عضوية اتحاد الكُتاب أو الحصول على منحة تفرغ، دون هذه التزكية، كأن إنتاج هؤلاء المبدعين غير كاف للسادة واضعي القانون، فقرروا أن يجعلوا من الإبداع وظيفة ومن التفرغ للإبداع –كما يحدث في كل بلاد الله المحترمة- مصدرًا لـ"السبوبة" والمصلحة، وهنا تم فتح باب الفساد على أشده.
حكايات القهر:
دعوني أحكي معكم عن عشر ات المبدعين الذين يُشار إليهم بالبنان، ولكنهم لم ينشغلوا بعضوية اتحاد الكُتاب حتى وهو ما يثير تساؤل عن الأسباب نعرفها ولكننا نترفع عن الخوض فيها من باب المجاملة أو من باب إراحة البال عن صراعات لا طائل منها غير القهر وحرق الدم، وكذلك أحكي لكم عن آلاف المبدعين ممن صار الإبداع لهم يمثل حربًا في جهات متعددة أولها حربه الاقتصادية المادية، وكأن المبدع لا يأكل ولا يشرب، فهو تمامًا هذا الكائن الخرافي غريب الأطوار الذي أفلحت الميديا الساداتية إبان عصر الانفتاح في تصدير صورته الساخرة وتم اعتمادها لدي غالبية المجتمع، وكأن ذلك حتى الساخر ليس له الحق في حياة كريمة، وهنا أحيلكم فقط إلى مقدار منحة التفرغ التي تتفضل الدولة بتقديمها وشروطها ومعاناة الحصول عليها كأنها سرّ حربي وأمن دولة لا يجب الإفصاح عنه بشفافية ووضوح... .
كيف تحولت بيئتنا المصرية خاصة إلى تلك البيئة القاسمة القاصمة لظهر الإبداع بشكل عام؟!
سيقول البعض أني شخص يائس متشائم وأبالغ، إذن عليك فقط أن تتحرك نحو الأقاليم والمدن غير المركزية وحاول أن تتعرف على المبدعين وما يعانونه من المرض والفقر والتهميش والتجهيل بهم، وهنا لا أسألك لصالح من يتم ذلك، لكن أبشرك بأنك سيلزمك وقت كبير للتخلص من أثر رحلتك الإنساني متى قررت تلك الرحلة...
معركة الرحى والسندان:
يا سادة هناك من المبدعين ممن أعرفهم يدفع الثمن ومستمر في دفعه حين يقع بين رحى الإبداع وسندان الحياة، هذا الذي فرّ بإبداعه كالفار بدينه من عمله بعد اتهامات الهرطقة التي وصلت إلى رفع قضايا ازدراء الأديان والتي صارت موضة هذه الأيام، فكل من تريد الانتقام منه من المثقفين فقط مجرد بلاغ تافه يتهمه بازدراء الأديان والبقية تعرفونها جيدًا، والتي غالبًا ما تنتهي إما بهروب المبدع أو حبسه، والأمر ليس قصرًا على ذلك وفقط، بل هناك من دفع حياته الشخصية ثمنًا للإبداع حين خُيّر بين الكتابة وبين "عش الزوجية"، ولأن الناس لا يعرفون عن طبيعة المبدع، كان صادمًا لهم أن يتحرك المبدع نحو إبداعه بعيدًا عن الزواج وكل قيوده كما يُظن، وهنا أرجوك حدد لي في ذهنك عدد المبدعين الذين انفصلوا عن حياتهم الزوجية، وحاول الإجابة عن سرّ هذا العدد، وهنا لا أدافع عن المبدعين قدر ما أنبه إلى اختلافهم عن الآخرين، فالمبدع لا يصلح له ما ينصلح به غير المبدع، ورغم ذلك يظل واقعه الاجتماعي يضغط عليه حتى يجد نفسه أما سؤاله الأعظم، إما إبداعه وإما حياته الشخصية؟ وهو خيار لمن يعرفه واختبره صعب وقاس للغاية، وتاريخ الأدب الحديث وأبحاث حول بيئة الإبداع تحمل الرد على السؤال وتذهلك حالات قررت التخلي عن نعمة الإبداع في مقابل الحياة الشخصية الآمنة، وقليلون فقط من دفعوا الثمن وانتصروا في معركة الإبداع وقرروا بنبل تجرع كأس سقراط، وسممهم وضعهم الاجتماعي.
أنت مؤلف؟ إذن أنت مليونير:
أذكر منذ سنوات كنتُ في زيارة إلى برلين بدعوة من مهرجان "الفيلم" للفيلم العربي المستقل، وفي لقائي مع الجمهور سألني أحد الحضور بالندوة عن عدد الكتب المنشورة لي، وكنت وقتها انتهيت من نشر كتابي الثالث، فتعجب السائل، كيف أنتج فيلمًا لم تتجاوز ميزانيته ثلاثمائة يورو وأنا مؤلف وصاحب ثلاثة كُتب؟! حاولت أن أفهم الرجل أن النشر في مصر له أحكام خاصة جدًا ربما أناقشها في مقال آخر، لكنه كان يُصر، أن من ينشر كتابين فقط لابد أنه أمن بذلك رعاية مادية لحياته لسنوات كثيرة، وقال نصًّا "أكيد أنت مليونير!!". قارن السائل بين حال الكُتاب في ألمانيا وأمريكا واندهش من حالي، ولا أبالغ أنه ظنَّ أنني أخفي الحقيقة. هنا أعترف أن الحقيقة التي أخفيتها هي صعوبة أن تمتهن الكتابة في بلدنا، فهناك قانون حاكم واحد "الكتابة مبتأكلشي عيش".
بدا الآن في ذهني هذا السؤال، لماذا "مبتأكلشي الكتابة عيش في بلدنا"؟
ولماذا لا تتحول الكتابة إلى صناعة تعتمد على الموهوبين وأصحاب الرؤى الجادة؟
أليس المبدع بوجه عام هو ذلك الشخص الذي حمل شعلة النور نحو المستقبل، متجاوزًا كل الاتهامات التي تطاله حتى في أرقى المجتمعات؟ وكيف تحولنا من بلد كان للكاتب فيها تمثالاً يؤكد قيمة الكتابة والكُتاب إلى جوار تماثيل الآلهة والملوك، كيف يتردى به الحال إلى تلك الزاوية من الغبن وسوء التقدير له؟ بل ويتحول إلى شخص يكافح بمعنى الكلمة لمجرد العيش الكريم في مجتمعه؟!
قبل فوات الأوان:
أظننا في مصرنا الآنية أحوج ما نكون إلى النظر إلى خيارات جديدة في كل مواجهاتنا وصراعاتنا التي أثبتت التجارب أن كثيرًا من الحلول التقليدية لمشاكلها لا تجدي نفعًا وأن الأوان لاح لاعتماد الحلول غير التقليدية والتي لا تنتجها غير عقول المبدعين والموهوبين، ونحن في بلد –أظنه- يملك تلك المقومات وهذا الجيش من المبدعين والخلاقين، فقط عليك أن تتأمل خريطة العالم الثقافية والفنية والعلمية، لتجد في كل بًقاع الدنيا لمبدعينا أثر، لكنهم وجدوا من يُقدر مواهبهم ويرعى إبداعهم بإخلاص متفهمين أن خلاص الأمم والحضارات بين أنامل كاتب أو ريشة فنان أو عقل عالم مُبدع.
قبل فوات الأوان يلزم دولتنا التي ننتظرها أن تحمي مبدعيها وذخيرتها وجيشها المبدع من هكذا هجمات طالت الكثير ممن سمعنا عنهم أو حتى من لم نسمع بهم، وقرروا الاستسلام منتحرين على مذبح الإبداع في صمت مخجل من المجتمع والدولة.
أيها السادة، أما آن الأوان أن نعيد توازن وتسليح بلدنا بخير الأسلحة وأمضاها، سلاح المبدعين؟!