القاهرة 13 يونيو 2017 الساعة 10:30 ص
تختار القصيدة كاتبها، تماما كما تختار ناقدها، وفي كل قصيدة مفتاح فض شفرتها، وربما تجاوز الكاتب حدود ما رسمه وحدده لتخوم نصه بإضافة تفصيلات يراها تخدم هدفه، كذلك الناقد ربما تجاوز إطار منهجه وتنقل بين مناهج عديدة إزاء تجاوز الكاتب للنص. إذًا هي مقاربة طردية بين النص والشاعر من جهة، وبين النص والناقد من جهة أخرى. فالعامل المشترك بين الناقد والشاعر/المبدع الأصلي للنص- هو النص ذاته.
والنص الذي وقعت عيننا عليه هو نص "من روعك؟" من ديوان آنست نورا. بيد أن للشاعرة في هذه القصيدة نسقا لغويا غير شفيف، فاللغة ليست شفافة دائما، هكذا تعامل دريدا مع اللغة فهو لا يرى الوجود إلا من خلال اللغة، وهو يدعو إلى نظرة جديدة للغة، نظرة يتحول فيها الواقع إلى مجموعة من الأقنعة البلاغية.
هذه الأقنعة البلاغية تكشف عن عالم من البراكين يمور في وجدان الذات الشاعرة، تحدث ذبذبات وجدانية صعودا وهبوطا على مساحة الرقعة الشعرية. بدءا من العتبة حتى آخر نفثة شعورية خرجت مع زفير المرأة الملاك. فالرفض والقبول لذلات الرجل عندها أمر يتعلق بامتلاكها قلبا ملائكيا، يغضب غضبا وقتيا وسرعان ما يعفو ويغفر. فيا له من قلب له من البشر اسمه وصفته وله من الملائكية روحه ومعناه!!
تتكئ الشاعرة على أثر عتبة القصيدة في المتلقي، فالمتلقي بوصفه مشاركا في العمل الإبداعي برمته يمثل لديها نخبة ثقافية متكاملة لها حق الاحترام والتقدير، له من العناية والاهتمام ما يضمن لها بقاءه وسيرورته على ظهر المتن الشعري؛ لذا اعتمدت الصيغة الاستفهامية في العنوان كمشاركة وجدانية إنسانية للمتلقي في محاولة الكشف عن إجابة للتساؤل الغامض"من روعك؟؟". ومن جهة أخرى هي حددت طرفي الصراع في النص من خلال صوتين بارزين في العنوان: السائل والمسؤول/ المحب والمحبوب.. وفي السؤال إشارة إلى ثنائية الأنثى والذكر، وما عساه أن ينتج عن هذه الثنائية التي هي أصل الوجود وجوهره. وفي العنوان أيضا إشارة إلى العنصر الغائب (من) التي تسأل عن أنثى أخرى في ضمير المحبوب، ليتشكل لدينا ثلاثة أصوات متفاعلة ومتجاذبة في وقت واحد. ومتى توافرت الأصوات الشعرية الثلاثة في العنوان كشفت عن نوعية الصراع وتماهيه في ضمير المتلقي بشكل صارخ.
الصوت الشعري الصارخ في القصيدة هو صوت الأنا الأنثوي، الأنا المحب، الأنا الذي تنهض القصيدة عليه بفعل تمركز الضمير في النص وثباته، وصوت الآخر هو العامل الثانوي في النص يعمل على إمداد الصوت الأصلي بالحيوية والحركة والتماهي، فهو صوت المحبوب، وتحولاته الإنسانية الطبيعية. وثمة صوت آخر في النص يدور حول صوت المحبوب ويشغل حيزا من مضامينه الفكرية والعاطفية، وهو صوت أنثوي يمثل حد الغيرة وتقلباتها في ضمير الصوت الأول. ومن خلال ثلاثة الأصوات المتفاعلة يمكن رصد حركة الضمير النحوي في النص في حال الثبات والحركة والنمو.
ومن الملاحظ على الضمير الأنثوي الأصلي في النص أنه ضمير متكلم طاووسي النزعة، معتد بذاته، واثق في قدراته، متفرد في ذاتيته، ليس إنسانا كاملا، وليس ملاكا كاملا، يجمع بين الأنسنة والملائكية في تفرد عجيب، وخصوصية أكثر عجبا. يذهلك كلما تعمقت حروفه، بل يخطف أفئدتك وينزعها من مكانها ليزرعها فوق قمم الشعر الشهباء، له قدرة عليا في الاستحواذ على مشاعرك لا تنفك تهرب من سطوته وتتبع سيرورته وتحولاته المتنامية. وأحيانا يكون ضميرا مراوغا مخاتلا يخلع من نفسه على الآخر بشكل يستهويك وينتزع تعاطفا منك، ويحمل من المعاني الوجدانية ما يجعلك أسيرا لنزعاته. وهو ضمير ليس بريئا كل البراءة بل ضمير مشاكس، قوي الشكيمة، يمارس سطوته على الآخر/المحبوب بعنف وقسوة إلى درجة الهجاء القاسي، متخذا من قوافيه خناجر مشحوذة النصال، فيا له من ضمير ضعيف قوي في آن واحد!
وتبلغ الضمائر ذروة انفعالاتها عندما تتداخل في مساحة ضيقة من الرقعة الشعرية في جمل قصيرة ملتهبة، يحدد الضمير النحوي في تمركزه نفسية صاحبه تجاه الآخر في تداخل متنام.
لَكِنَّنِي حِينَ اغْتَسَلْتُ مِنَ التُّرابِ الآدَمِيِّ
بَرِئْتُ مِنْ حُمْقِي
.. فَغَرِّدْ حَيْثُما تَرْتاحُ رُوحُكَ يا ابْنَ قَلْبي
.. عُـــدْ لَهَـــا
.. وأنا سأضْحَكُ كالشُّموسِ
لم يكن النص نصا شعريا خالصا، بل استمد العنصر الحكائي من السرد، فالنص هنا يميل إلى الحكاية ذات الحبكة المحكمة، وعناصر أسلوب الحكاية تتوافر بكثرة في النص، فغيرة المرأة على محبوبها وصلت ذروتها عندما استطاعت أن تهجو المحبوب هجاء شديدا بسبب نظره إلى امرأة أخرى، مما أصاب المحبوب بالروع والفزع والخوف إزاء المحب، وتأتي لحظة التنوير خرقا للواقع، واستجابة للعنصر الملائكي في قلب المحب، وخرق الواقع جاء نتيجة العلو عن البشرية الكامنة في ضمير كل أنثى.
تمتلك الشاعرة اللغة امتلاك الأغنياء، تداعب تارة شمس أساليبها، وتارة نجوم ألفاظها، وبين الأساليب والألفاظ وشائج معنوية وبنيوية، فمقدرة الشاعرة للبنية اللغوية والأسلوبية جعلها تتوقد مكامن الجمال للأساليب البنائية. خذ –مثلا- أسلوب النداء وما يحمله من مضامين فكرية وشعورية خصبة لعب دورا في بنية اللغة، وتكوين شبكة عنقودية في النص لا يستطيع المتلقي الانفلات من هيمنتها وسطوتها، فالملاحظ أن النداء ورد في النص ست مرات، وكلها تمتح من معين الصورة المرسومة للمحبوب، فهو هي، وهو معذبها، وهو طفل روحها، وهو حيي الخطو، وهو ابن قلبها، وهو روح روحها .. فكيف يمكنها إقصاؤه عن عالمها الشعوري؟!، فهو في كل مرة من النداء يتغلغل في ضميرها الأنثوي الضعيف القوي تغلغل المتمكن من أنثاه، وربما وجدت الشاعرة استعذابا لتكراره عبر القصيدة برمتها. إنه توق إلى الرجولة المنشودة، والاكتمال التام.
واستنادا إلى ما سبق فقد حرصت موهبة الشاعرة الفذة على انتقاء ألفاظ خاصة لبلورة البنية اللغوية وتطويعها في خدمة غرضها النافذ إلى أعماق غورها، واستجابة لحالة تعويض لغوي، وتنفيس حر لما يتداعى في الوجدان الأنثوي من هول مكبوت جراء تصرفات المحبوب غير المسؤولة، فانتقت أفعالا وكلمات ذات شحنات عاطفية حادة نتيجة تضعيف الأفعال أو استطالتها بالهمز أو المفاعلة؛ لذا رأينا ميلا إلى الانفعالات الحادة والحركة، وضيقا بالوحشة والسكون؛ فتأمل معي الأفعال الاتية:
مبلل-معذبي-حييّ-روَّعك-أفزع-اجتث-حلِّق-حرِّر-بثَّني-أطلق-ستخبئان-قضّتْ-يضفِّر-تشتفُّ-اغتسلت-سامح-فغرّد-ترتاح-سأضحك.. ويعد التضعيف – من الوجهة الأسلوبية – نوعا من استثمار الطاقات التعبيرية التي تولدها بعض الألفاظ في صور مورفولوجية . ويعبر التضعيف – كما نعلم – عن قيمة انفعالية عالية ، هي من أشد خصوصيات التشكيل اللغوي الشعري.
وإذا كانت البنية اللغوية سرا من أسرار التفاعل الآسر لشعر الشاعرة فإن التشكيل الموسيقي يعد إضافة حقيقية إلى باقي الأسرار الكامنة في النص، فالشكل الموسيقي آخذ بلبك منذ البداية، نافذ إلى كينونتك عبر إيقاع متماوج لا يسمح لك بالتقاط أنفاسك إلا عند نهاية المعنى المقفى.
فهذه الاستمرارية في النفَس الموسيقي تذهب بك بعيدا بعيدا، ولا سيما إذا قرأت الجملة الشعرية عبر مجازات لغوية محببة قد تأخذ منك وقتا طفيفا في الذهاب إلى مدلولات معنوية خارقة لخيال المتلقي منتجة معاني لا متناهية جراء التركيب اللغوي المجازي، سرٌّ أودعه الله في ضمير الشاعرة فأنتجت عالما محببا يسمح لك بالتجاذب والتحاور مع ما وصل إليك من مراميها الجميلة.