كتب إبر اهيم موسى النحّاس:
في مجموعته القصصية الجديدة "أخرقتها لتغرق أهلها " يتجه القاص عبد الله عقيل إلى تعرية الواقع الاجتماعي وكشف الكثير من سلبياته, إيمانًا منه بطموح الذات المبدعة وسعيها نحو المثالية والكمال , وأن أوَّل سبيل لعلاج مشكلات واقعنا العربي هو اكتشاف تلك المشكلات وتسليط الضوء عليها ,وأن الذات هي إحدى مفردات الواقع الذي تتبادل التأثير فيه والتأثر به, فنجد معالجة قضية ازدواجية الفكر في العقلية العربية حتى عند بعض المثقفين في قصة حملت عنوان "شيزوفرينيا" ص 64 حيث يقول: (( أنهى محاضرة بعنوان" كيف تتعايش مع صاحب مزاج متقلِّب" ..في طريق عودته هاتف زوجته وصارحها بعدم الاستمرار مع مزاجها)) . كذلك فضحت المجموعة القصصية انطفاء الهمم مع التراخي والكسل لدى البعض فيقصة حملت عنوان" هِمَّة منطفئة" ص 52 ويقول فيها: (( حدَّث ذاته ملتزمًا البعد عن الكسل والتراخي شحذ هِمَّته...قام من مجلسه...فتح الكتاب ونام)) . كما اتجهت المجموعة للتعبير عن قضايا المرأة العربية وهضم الكثير من حقوقها في ذلك المجتمع الذكوري في قصة " وأد" ص 57 حين يقول: (( تبهت الكلمات ... تموتجذورها, تذوي وريقاتها في حضرة والدها, وتلسعها أشواك طفولة موبَّخة)) فبالإضافة للبعد الدلالي للعنوان" وأد" نجد في تلك القصة غياب رونق القتاة حتى أمام أبيها , كما نجد طفولتها التي كان من المفترض أن تكون للسعادة والتشجيع تصبح موبَّخة. هكذا رصدت المجموعة صورة المرأة ومعاناتها في مجتمعنا العربي. ومع انحيازالمجموعة القصصية للمرأة وحقوقها نجد ملمحًا إنسانيًا آخر هو الانحياز الواضح للطبقات الكادحة في مجتمعاتنا تلك الطبقات التي تظل تعاني من أجل لقمة العيش حتى الموت , فيقول في قصة " حظ ميِّت" ص 58: (( طفل تسليه والدته بحلمةرضاعة فارغة...زوجة تلعن حظًّا عاثرًا...زوج يتسول وظيفته.. لفظته الحياة فلفظ روحه ليرتاح)). كما تناولت المجموعة واحدة من أخطر القضايا التي نعاني منها وتزدادالدعوة إليها وهي قضية تجديد الخطاب الديني من خلال عرض صورة لشخصية بطل إحدى قصصه" إمام القرية" ونقد الكاتب لما يحمله هذا الإمام من خطاب الكراهية تجاه الآخر فيقول في قصة " نيَّات" بما حملته من إسقاطات فكرية ودينية وتكثيف دلالي ينتهي بالمفارقة في نهايتها ص 49: ((قنت إمام قريتنا وسأل الله الغيث ودعا على قرية مجاورة لأنها منبع الفساد, في نفس اللحظة تساقط المطر على القرية المجاورة)) .
تلك التعرية للواقع جاءت من خلال روح ذات قصصية تعشق الجمال وترفض القبح في شتَّى صوره وتتسلح بالقيم الروحية التي ظهرت بدءًا من عنوان المجموعة القصصية وانتشرت تلك القيم الروحية في جميع القصص على مستوى الرؤية وعلى مستوى المعجم القصصي ففي قصة "لست أنا " ص 9 يفتتحها بقوله: (( ضممت يدي بروحانية عبدٍ مبتهل في سجوده ,استيقظ عالمي المهجور استيقاظ من قُتل غدرًا وقام لثأره غير مكترثٍ أن يُقتلمرَّةً أخرى)) فها هو العبد المبتهل في سجوده يفضح عالمه المهجور المقتول غدرا بتلك السلبيات التي تفضحها الذات القصصية في تلك المجموعة التي نبتت من قيم روحية تجلَّت على مستوى المعجم القصصي في أكثر من موضع بدءًا من العنوان وتذكيره لنا بحديث الرسول الكريم حول ضرورة اليقظة لأخطاء الذين هُم مِنَّا وحولنا , كما نجد هذاالملمح الروحي في ص 42-43 حين يقول: (( كنت بهرجًا جميلًا يسرُّ الناظرين )) أوقوله في قصة " عطاء مقتول" ص69: (( يؤثرهم على نفسه ولو كانت به خصاصة, طُمست مشاعره يوم اكتشف يبابًاقاحلًا)).
وعلى المستوى الفني اعتمد الكاتب في بنية قصته على القصة القصيرة جدًا أي قصة الومضة القائمة على التكثيف اللغوي والدلالي في معظم قصص المجموعة حتى إن بعض القصص اكتملت في سطر واحد أو سطر وجزء من سطر بحيث لا تكمل سطرين كما في قصة "ميتتان" ص 46 حين يقول: (( حطَّم قيود والديه وخرج ليطير, فسحبه الجار من تحت عجلات سيارته)). ونلحظ في تلك القصص تعمد الكاتب لعدم ذكر اسم لبطل القصة ربَّما كان هذا من باب التعميم والتجريد الفلسفي وكأن الكاتب يقول ضمنيًا إن بطل قصته يمكن أن يكون أيّ شخص مِنَّا في أيّ مكان وفي أي زمان. كذلك نلمح تعمد الكاتب إلى التركيز على النهايات المفتوحة لبعض قصصه ليجعل من القارئ شريكا في خلق الدلالة داخل القصة مثلما حدث في قصة " وفاق" ص 14 حين يختمها بقوله: (( أصابعه على لوحة مفاتيح الكمبيوتر , وعيناه متسمِّرة بشاشته. بادرها بإجابته المعهودة:ماذا تريدين؟! ابتسمتْ وأكملتْ الحكاية)) ماذا حدث بعد هذا؟ وما تلك الحكاية التي أكملتها بطلة القصة , كل هذا تركه المؤلف للقارئ في نهاية مفتوحة لم يحسمها المؤلف بنفسه.
إضافة إلى لغة السرد القصصي القائمة على التكثيف الدلالي استخدم القاص الصورة الفنية للتعبير عن رؤيته بشكل يتسم بالتنوع الفني والثراء على مستوى الخيال فنجد الصورة المجازية القريبة من لغة الشعر في قصة " شهقة" ص 9 حين يقول: (( تذكَّرَتْ جوالها نائمًا في أحضان القابس الكهربائي)) وفي بداية قصة" الحياة تنتضر" ص 45 نجد تلك الصورة: (( تختنق, وأبَى الهواء أن يتدحرج لرئتيها)) أو تلك الصورة المبتكرة في قصة" وصول" ص 63 حين يقول: ((الأخوة المسافرون, استعدادًا للهبوط نرجو منكم العودة إلى ذواتكم وربط أحزمة السعادة)) كما نجد توظيف الهامش في قصة : كتابة" ص 15 مع كسر أفق التوقع حتى في عناوين بعض القصص مثل كسر أفق توقع القارئ في عنوان القصة الواردة في ص 16 التيجاء عنوانها" تشير الساعة إلى انتصاف الغياب" فتوقع القارئ العادي يعتقد أن العنوان سيكون إلى انتصاف الليل او انتصاف النهار وهكذا لكن الكاتب كسر أفق التوقع بقوله إلى انتصاف الغياب ليخلق الدهشة الفنية التي تدفع القارئ لقراءةالقصة كلها .
من القراءة السابقة يمكن القول إن المجموعة القصصية ( أخرقتها لتغرق أهلها) للقاص عبد الله عقيل تكشف كثيرًا من سلبيات واقعنا الاجتماعي العربي إيمانًا بالدور الاجتماعيّ والأخلاقيّ للأدب وتعكس صورة الذات القصصية بما تحمله من قيم روحية وأخلاقية في قصة قصيرة جدا ( قصة الومضة) التي قامت على التكثيف الدلالي وتوظيف الهامش وكسر أفق التوقع لدى القارئ لخلق الدهشة الفنية لديه ويجعله مشاركا في صنع الدلالة داخل القصة من خلال الاعتماد على النهايات المفتوحة في بعض القصص .مع توظيف لغة قصصية راقية جمعت بين التصوير الجزئي والصورة الكلية الجديدة المبتكرة.