كتب وائل سعيد :
يربي كثير من الناس طيورًا، أو حيواناتٍ في منازلهم، إمامن باب الهواية، وإما بغرض المتاجرة. أما أن يربي أحدهم، فنانًا؛ شاعرًا، نحاتًا،أو روائيا، فهذا ما يطرحه الكاتب البرتغاليّ أفونسو كروش في روايته القصيرة"هيّا نشترِ شاعراً" ، الصادرة هذا العام عن دارمسكيلياني للنشر، بترجمة عن البرتغالية لعبد الجليل العربي.
قد تبدو الفكرة غريبة في باديء الأمر، لكنك باتباعارهاصاتها الأولي التاريخية تجد لها مبررًا عقليا في عصرنا الحالي، فعبر كلالثقافات تقريبا (عربية وغربية) سجل التاريخ صورا لهذا التبني أو (الشراء) فيحالات شعراء البلاطات الملكية، وكُتاب السير الذاتية لمشاهير الملوك والأمراء، حينكان بالإمكان (شراء) مداح للملك يكتب انجازاته وفق معايير مُتفق عليها، ويُثني عليأعماله البطولية أثناء فترات حكمه.
الملك الآن لم يعد شخصا بعينه أو قوة محددة الأركانوالدوافع؛ بل أصبح هيمنات كبيرة لأيديولوجيات أكبر سرعان ما تتعقد تفاصيلها كلماتدخلت العقول واضافت أو حذفت.. ولا شك في أن أكبرها في العصر الحالي هي فكرةالرأسمالية وهيمنتها العالمية، المُعادل الجديد لتمثل السلطة، أو القوة، التيمارسها الإنسان بوعي وبغير وعي منذ أن عرف نفسه علي الأرض وبدأ في تصنيع حضاراتهالمختلفة..
أُسرة صغيرة تعاني طفلتها من الملل، فتقترح علي والدتها شراء شيء جديد تلعب به ومعه ويسد فراغ البيت، فيبدأونفي المفاضلة فيما بينهم بين الشاعر والرسام، يختارون الأول نظرا لملائمته المنزلية،حيث أن الرسام لا يصلح لذلك كما تقول والدة الطفلة (إنهم يقومون بالكثير من الأوساخ،فالسيدة 5638.2 لديها واحد منهم ويلزمها ما بين ثلاث ساعات إلي أربع لتنظيف الوسخالذي يخلفه من جراء استعماله للألوان في تلك الاشياء البيضاء.. لوحة زيتية..)، أماالشاعر فلا يحتاج سوى لبضعة ورقات وقلم ليس إلا!
بالتوازي مع ذلك، سنجد أنه لا توجد أسماء للشخصيات فيالرواية؛ رغم صلات القرابة التي تطرحها طفلة العائلة في الحكي (أبي، أمي، أخي، أصدقاء...)إلا أن الجميع يحمل أرقاما وليس أسماء عادية للبشر كما تعودنا، واستمرارا في(سطوة) العدد أو الأرقام، يتم التركيز علي أحجام وأعداد وأوزان كل المفرداتالكثيرة اليومية في الاستخدام فيما بينهم..
(مائة غرام من عجين الكبد، خمس عشرة قطعة خبز متنوعبحوالي 30 غراما لكل قطعة...، حوالي عشرين مليلترا من الدهون غير المشبعة...، أكلتثلاثين غراما من السبانخ هذا اليوم، سعر الكيلو باثنين من اليوروهات وثلاثينسنتا...)، حتى المشاعر الانسانية في صور التقبيل أو الحب مثلا تتحول إلى أرقام؛ أخيهاالذي يحب فتاة (بنسبة سبعين في المائة) بينما الفتاة تحبه (بأكثر من ثلاثين أو ستةوثلاثين في المائة) أو الاب؛ (استهلك أبي عشرين غراما من القوة عند باب المطبخ،وقبل أن يترك علي وجوهنا مليغراما أو ميلغرامين من اللعاب، أو من القبلات إذاأردتم أن نستعمل عبارة شاعرية..).
توليفة فكاهية تروي بعض الأحداث في إطار فانتازي، يدقناقوسا ما –بالطبع- نحو تحول ما يتغول للهيمنة الجمعية؛ العبودية الجديدة لن تقفعند حد الأفكار وهيمنتها أو التوجهات؛ هل نقترب نحو انصهار مروع للتزواج الجديدبين هيمنة رأس المال وهيمنة الآلة التي أصبحت رقمية..
ولا يقتصر الأمر –فقط- علي روح "الديستوبيا"عبر الرواية، حيث المرار يتضافر مع الخوف في المدينة الفاسدة..، الفساد هنا يتعدي –أيضا-فكرة عبودية العولمة الحديثة لرأس المال، وتحكم الآلة... إلخ؛ العالم المطروح فيالرواية يفوق الخيال السوداوي؛ حين (يتشيء) الإنسان على الأرض، من السهل الدخولللمنظومة الرقمية؛ الكل يتحول لأرقام لا تحمل أي مدلولات، وبالتالي لا مكانللاختلاف بين البشر.. الكل يتجاور في تلك الرصة الرقمية بالتوالي أو الاستباق؛ ليسإلا..
الخسارة عددية والمكسب كذلك: كسبت أو ربحت (كذا) رقماتحديدا، ستخرج ابتسامتي بقوة (كذا) فيالثانية، ولا مكان للحس (الكُلي).. تلك القيمة، المساحة الشعورية التي تميز هذاالمخلوق الآدمي عن بقية الأشياء؛ أو المخلوقات.. فتتحول رُسل الجمال (شعراء،رسامين، فنانيين..) إلى مجرد أشياء.. رقمية، يمكنها تسلية الأطفال ويمكن تربيتهاواقتنائها داخل البيوت!