القاهرة 06 يونيو 2017 الساعة 02:01 م
محمد علي
العقل العلمي الجديد من أهم الكتب التي ألفهاجاستون باشلار، لما فيه من أفكار جديدة ومغايرة وتسعى لتكوين بنية عقلية تؤمنبالعلم وبدوره في إنتاج المعرفة، وتناهض الخرافة والجهل والأفكار الميتافيزيقة.
يضعنا كتاب ”العقل العلمي الجديد” أمام اعتباراتفلسفية وعلمية مخالفة لتلك الاعتبارات التي كان يقوم عليها العلم الحديث، خصوصاالفيزياء الكلاسيكية التي تتبنى الفروض والمفاهيم الأساسية، وما لبثت أن انهارتأوصاف مجال صلاحيتها نتيجة تقدم العلم.
يعتبر الكتاب نقدا نفيسا لما تضمنه من أفكار جريئةورؤى تحريضية عميقة، حيث رفض كل النظريات والأفكار السائدة منذ أكثر من ألفي سنة،وكان فعلا تأسيسيا لعقل علمي جديد وترجم العديد من الباحثين العرب كلمة (إسبري esprit) بالروح، لكن عند دراسة الأفكار الواردة في الكتاب نجده يتكلم عن العقل لاالروح ولا حتى الفكر، وكلمة الروح تترجم في مواضع أخرى ب، لها معان كثيرة نحو فكر، روح،ذهن، عقلية إلخ .... وهذا دليل مؤكد كما يقول مترجم الكتاب الدكتور جمال الدينقوعيش على أنه مفهوم مشكل حتى في إطاره الغربي، لذلك المصطلح الأقرب والأنسب هوالعقل، فكان العنوان ”العقل العلمي الجديد”.
ويشير مترجم الكتاب إلى أن هذه الترجمة كانت عملامضنيا وشاقا، لما تضمنه الكتاب من مصطلحات علمية خاصة.
مؤلف الكتاب هو أوليفيي غوي وهو يتناول بطريقةمتسلسلة أبرز محاور الإبستيمولوجيا المعاصرة: وظيفة الرياضيات، مسائل الشكلانية،العلاقة بين العلم والواقع، مكانة التجريبية، مسألة المنهج وأخيرا الإشكال المطروحلفكرة العقل العلمي وتاريخه، وتم التعليق على الأمثلة التقنية بالبقاء انطلاقا منتبسيط علمي في متناول الجميع.
يقترح هذا الكتاب مقاربة أصلية لوضعية الخيال فيالإبستيمولوجيا الباشلارية ويوضح ما تحيل إليه فكرة العقل العلمي من علاقة معقدةبين العلم وموضوع العلم، أي العالم.
إن إبستيمولوجيا باشلار لا تؤسس لإقصاء الموضوعالقطيعة بين المفهوم والصورة، النظرية والموضوع بمعنى بين طرحي المؤلف باشلار، فهيلاراديكالية ولا نهائية.
يرى المؤلف أن الإشكال يتمثل في عملية تحديدالسلوك الثقافي الذي سينتج ما يسمى بالعلم، فليس بالإمكان الحديث عن العقل أوالذكاء أو المنطق بصفة عامة لأننا - حسب المؤلف - نجد كل هذه العناصر في معارفليست بالضرورة علمية، وعليه نسمي عقلا علميا كل تصرف أو سلوك خاص بالمعرفة.
يمكن اعتبار العقل العلمي جوهر العقل الإنسانيالذي سيبقى قارا وثابتا في قوانينه كما في محتواه، إن العقل العلمي هو كل ما هوعقلاني وأشكال المعرفة الأخرى ستظهر متباينة بسبب صبغتها بالخيالي والاعقلاني.
كذلك يمكن اعتبار العقل العلمي كمنهج صارم يمكنتعريفه وتوضيحه دون مرجعية تطبيقية علمية، وهذا موقف ديكارت.
يبدو أن الإبستيمولوجيا تعمل على إبعاد مفهومالعقل وهو الأساسي، أي الموضوع الملموس في مقابل اهتمامها بمفاهيم أخرى كالتطبيقالعلمي، تاريخ العلوم....
لا تعود الإبستيمولوجيا إلى العقل الإنساني ولاإلى حالة ذهنية، هذا الشيء يمكن أن يقوم به منهج منضو من قبل صاحبه.
لا توجد عند باشلار إمكانية وجود علم محض معزول عنمرجعية الصور، فالمفهوم ينزلق باستمرار في الصورة ولا نستطيع الاستغناء عن الخيال،لأن المشكلة تكمن في خلق استعمال منظم دون الخلط بين الصور والمفاهيم.
الصورة الجيدة لها إما وظيفة بيداغوجية (فهموإفهام) وإما وظيفة شاعرية توقعية.
يتشكل العلم من الرياضيات ويستعين كذلك بالخيال،ووضعيته اتجاه الفسلفة تبقى غامضة في ابستيمولوجيا باشلار، من زاوية أخرى فهي التيتدخل بمفاهيم وصور مغلوطة في الممارسة العلمية، ومن زاوية أخرى تسمح باستيعاباستعمال متمكن للمجاز والصورة.
ليس للعلم أطروحة حول العالم بوجه عام، حول الكليةوالكمال، لكن حول صورة خيالية للكلية يمكن أن تتأسس رغبة حول المعرف وبدون هذهالرغبة لا يوجد علم، وعليه فابستيمولوجيا باشلار لا تنكر دور الخيال لكن تقترح أنيستعمل بطريقة منظمة.
وللبقاء في عمق باشلار في مؤلفه ”العقل العلميالجديد”، لا يمكن العودة إلى بقية كتبه ولا إلى مختلف المعلقين والشارحين لها. لاتوجد إذا حوصلة شاملة حول فكر باشلار بوجه عام، لكن اغتنم المؤلف هذه الفرصةلمحاولة التعميق في عدد من المحاور التي بدت لنا مهملة في بعض الأحيان؛ مسألةمكانة الخيال في النشاط العلمي، وعلى وجه الخصوص علاقاته مع الرياضيات: مسألةالواقع، الوظيفة البيداغوجية للمؤلف، وفي النهاية الإلحاح على دور الموضوعالسيكولوجي في العقل العلمي.
أراد المؤلف البقاء في مستوى التبسيط العلمي المناسب، وهو أمرجد حساس بالنظر إلى باشلار الذي يعود دائما إلى الاكتشافات الأخيرة للفيزياء، فيوقت صدور الكتاب سنة 1934.
يوجد في نهاية الكتاب بيبليوغرافيا للتبسيط العلمي، التي منالمفترض أن تسمح بتوضيح أمثلة معطاة من طرف باشلار، الأمر الذي سيسمح بالخروج منإطار التفكير الفلسفي.
إن مشروع باشلار لا يتمثل في تخليص العلم من الفلسفة، لكن توضيحمرجعية العلم الفلسفية.
هذه المرجعية التي اتسمت بالغموض والتداخل، لأنه أصبح لهامهمتان، فإما أن تملي المفاهيم الفلسفية الإطار والموضوع على العقل العلمي الذييقوم بترييضها، قياسها واستعمالها (كالزمان، المكان، المادة، السببية وحتىالقانون) أو يبقى للمفاهيم الفلسفية دور سيكولوجي يتمثل في السماح للعالم بالحدسواستخلاص التجارب وفق إطار رياضي مجرد (مثلا الطاقة).
فالمرجعية الأولى تابعة للعقل العلمي ”القديم”، بينما الثانيةللعقل العلمي ”الجديد”.
وعليه أصبحت الرياضيات بمثابة منافس للفلسفة في علاقتها معالعلم، والنقاش أصبح يدور ليس على حضور الفلسفة وإنما على كيفية استعمالها.
للإشارة، تتمثل خطة الكتاب في 4 أقسام:
الفصل الأول يدرس الهندسة أي النموذج الرياضي وعلاقتهبالفيزياء. الفصل الثاني يعالج الكتاب الوظيفة الفعلية للنموذج الجديد في الفيزياءالمعاصرة.
الفصل الثالث يتناول أمثلة حية لإعادة تشكيل وتصحيح بعضالمفاهيم الأساسية للفيزياء.
وأخيرا في الفصل الرابع، يعيد المؤلف تعريف العقل العلميبالمقارنة مع مفاهيم المنهج، الطبيعة البسيطة والعقل.
العقل العلمي في نهاية المطاف لا هو بمنهج ولا بسلك مفاهيم وليسأيضا بتطبيق تجريبي، إنه قبل كل شيء عقل العالم