القاهرة 06 يونيو 2017 الساعة 12:20 م
يقال للبحر أسرار هناك لحظات لا يمكن نسيانها وتكون محفورة في الذاكرة حتى مع مرور الأيام والسنين، منها ما هو مفرح وآخر محزن بل ومأساوي، وحكايات البشر لا تخلو من المواقف واللحظات والآمال والخيبات .. بعضها نتلقاه من الحياة وأخرى نجلبها لأنفسنا، ونتحمل معها ثقل عذاب الضمير وضغط النفس.
هذا هو حال لي شاندلير هذا الرجل البسيط الذي يعمل في عمل بسيط ويمتلك حياة بسيطة وعائلة وأولاد وزوجة يحبها ولم يعتقد يوما أن تتحول حياته إلى مأساة كما صاغها أرسطو، يخسر معها البطل كل شئ ولا يبقي له سوى الحزن والانتظار لنهاية مصيره المحتوم، بروح مثقولة بالهموم والذنب الذي لا ينتهى، وكأن حياته كابوس متواصل لا يفيق منه.
حياة العدم
قبل مشاهدة الفيلم يخيل للمشاهد أنه على لقاء بفيلم تقليدي عن علاقة شاب وعمه الذي يتولي رعايته بعد وفاة والده بناء على الأب، ولكن تلك القصة ما
هي إلا مدخل لحياة "لي"، التي نطالعها بتمعن على مدار ما يزيد عن ساعتين من الزمن، من تقديم السيناريست الأمريكي المخضرم كينيث لونيرجان، الذي كتب سيناريو فيلم عصابات نيويورك مع المخرج مارتن
سكورسيزي من قبل، في فيلم مانشستر بجانب البحر لم يكتفي لونيرجان بالكتابة فحسب بل قدم تجربة إخراجية خاصة، عبر من خلالها عن ما أراد من مشاعر وانفعالات على ورق قصته.
وظف لونيرجان حيله التأليفية والحكائية للتعير عن واقع لي من خلال العودة إلى ماضيه القاتم، لتكوين لوحة كولاجية ما بين الماضي والحاضر لرؤية مستقبل لي وحياته القادمة بعدما فقد عائلته في حادث ترك بصماته عليه دون قصد منه.
مأساة أرسطية
بحسب أرسطو فإن الأبطال المأساويين يتعرضون إلى الصعوبات والأزمات التي تخرج عن السيطرة وتنهي حياتهم حتى وإن بقيوا على قيد الحياة، وفي أغلب الأحيان يحدث هذا بسبيل خارج عن إرادتهم، ويدفعون الثمن أيضا، وهنا يعيش "لي" حياة قاتمة بعد ما تذوق حلاوة الحياة مع أسرته البسيطة وزوجته التي يحبها.
فخلال عشرين دقيقة تنقلب حياة لي رأسا على عقب بعد أن يتعرض منزله للاحتراق ويفقد أولاده، تراتب الأحداث ومسارها الطبيعي يزيد من مأساته، فمن خلال خطأ غير مقصود منه يتسبب في وفاة أولاده ويفيق من حالة السكر على قلب ممزق، يشعر معه بالذنب وضرورة عقابه على ما اقترف من خطا، كلف أولاده حياتهم.
القصة البطل
سرد الفيلم يعتبر هو البطل الأول، حيث يغلب على لونيرجان عمله كسيناريست، كما يعتبر السيناريو أحد أهم نقاط القوة بالفيلم، لاسيما مع استخدام تقنية الفوتو مونتاج التي تعرفنا على حكاية "لي" دون عناء، تلك التقنية التي تزيد من تأثر المشاهد وربطه بما يراه وانتظار ما هو قادم.
من أبرز المشاهد الهامة في الفيلم محاولة انتحار "لي" كعقاب لما فعله، وانتظاره لمحاكمة قانونية عادلة ولكنه لا يحمل أي مسؤولية قانونية وهو ما يزيد من شعوره بالذنب ورغبته في عقاب ذاته، في مشهد يحمل معني الانهيار والانكسار.
الانهيار الصامت
كما هو حال البحر يتطبع "لي" بالبحر الذي رافقه، فكما يتكتم "لي" على مشاعره وانفعالاته وكأنها أسرار لا يمكن الاطلاع عليها، ويموت في كل مرة تتجدد بها أحزانه، ودموعه الحبيسة في روحه الثقيلة.
يمتاز الفيلم بواقعيته الشديدة، فلا يطالب لونيرجان بطله بالنسيان وبدأ حياة جديدة، بل يقدم حلا لا يثقل على روحه أكثر، إذ يتعايش مع ما يحمله من هموم في سبات وسكينة، وسط تفهم من حوله لما وصل له من حال.
لغة سينمائية
فيلم مانشستر بجانب البحر، المرشح إلى ست جوائز أوسكار لعام 2017 وحصل على 96 جائزة وما يزيد عن 220 ترشيح، إلى جوار قوة قصته فإن الصورة أيضا تمتاز بجمالياتها الخاصة، لاسيما المونتاج للمونتيرة الأمريكية "جينفر ليم" مونتاج الفيلم دعم عقدة "لي" وحيطته في التعبير عن انفعالاته، فظهر الفيلم مشابها لشخصية "لي"، فقد المعلومات كلما سنحت الفرصة للتعريف بـ"لي"، وسخرت "ليم" تقنيات المونتاج لاسيما القطع والفوتو مونتاج.
فيما لعبت الموسيقي دورا هاما لتصوير انفعالات "لي" وحالته وتحولاته على الصعيد النفسي والاجتماعي مع من حوله، وكأن علاقته بابن أخيه هي المحاولة الأخيرة المقدمة من الحياة لعبوره ما مرة به من أزمات، قدمت الكندية "ليزلي باربر" جملا لحنية عبرت عن تصاعد الأزمة التي مر بها "لي"، وكان للموسيقي تأثيرها الكبير، لاسيما أن مسار الاحداث غير تقليدي، وهو ما يولد حالة من اليقظة لدى المشاهد وتكوين شحنة أكبر من التعاطف لحالة "لي".
تصوير الفيلم لم يكن بعيد عن العناصر السينمائية المذكورة سلفا، حيث تكاتف التصوير مع العناصر الأخرى لاكتمال تلك الصورة عن حياة "لي" وبلورة الفيلم في إطار التعارف على "لي" عن قرب، لهذا ركز المصور الأمريكي "جودي لي ليبس" على اللقطات القريبة والراصدة لملامح "لي" المتغيرة، لاسيما مع تذكره للأحداث الأليمة الماضية، كما لم يغفل "ليبس" لقطات واسعة ومفتوحة للمحيط تكشف عمق حزنه وغضبه المكتوم.
آهات لا تتصاعد إلى السماء
يعتبر الممثلون الأوائل للفيلم، ولكن في فيلمنا هذا يأتي الممثلون في مرتبة ثانية أو بالأحرى مكملة للعناصر، قدم "كيسي أفليك" بملامح الشاجنة الجامدة بعض الشئ أداء خاص ومميز لشخصية "لي" بتقلاباته، فلم تزره الابتسامة أغلب مشاهد العمل، كما نجح في التعبير عن تكوين "لي" لحواجز نفسية واجتماعية بينه وبين من حوله حتى أقرب الناس له وهو ابن أخيه، ورغم حضورها الطفيف قدمت "ميشيل ويلز" بأداء هادئ وسلس مشاعر الأم المكلومة في أولادها والشرخ الذي حصل بينها وبين "لي"، بصورة عامة لم يكن الأداء انفعاليا بالنسبة لشخصيات الفيلم، رغم وجود مشاهد عديدة تتسيح هذا، ولكن لونيرجان أراد أن يصعب المهمة على مشاهده بالسكوت على ما تحمله الشخصيات من آهات لا تتصاعد إلى السماء.
ينتهى الفيلم ببصيص أمل نحو غدا نأمل أن يكون مشرقا، لكن لا يصرف "لي" في تفاءله بل يظل على عهده وعاداته القديمة ويعطي الفرصة لغيره للحياة والنجاه من الوقوع في شرك الصمت كما وقع هو.