القاهرة 06 يونيو 2017 الساعة 11:53 ص
في إحدى مقولاته يقول الروائي الفرنسي چان اشنوز: " لئن كان بعضهم يكتب رواياتٍ تاريخية، فأنا أهوى كتابة روايات جغرافية ".هنا يعني اشنوز أنه يجعل من المكان بطلًا لرواياته، ومثله فعلتْ الروائية سهير المصادفة في روايتها الأحدث " لعنة ميت رهينة " الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية.غير أننا في " لعنة ميت رهينة " لا نجد المكان بطلًا وحيدًا ومنفردًا بذاته، بل يشاركه دورَ البطولة البحثُ عن شيء ما: ثمة من يبحث عن آثار تحت الأرض، من يبحث عن مولود، من يبحث عن أنثى بها من الصفات والمواصفات ما يبهجه ويمتعه، من يبحث عن كنز، من يبحث عن إجابات لأسئلة ما، من يبحث عن وطن يعيش فيه ممارسًا كامل حريته، وهناك أيضًا من يبحث عن أشياء أخرى.كذلك هناك بطل آخر في الرواية، إلى جانب الشخصيات المحورية، التي يقوم عليها بنيانها، وهو شخصية نور بنت ليلى التي تشير إلى قيمة العلم والمعرفة ودورهما في محاربة الجهل والتخلف وعالم الشعوذة والخرافات، غير أنها ترى أن الطريقة الوحيدة للتخلص من النماذج السيئة في المجتمع لا تكون إلا بقتلها والتخلص منها، فيما يرى صلاح قرينها في الرواية أن أفضل شيء لمحاربة أيّة أفكار منحرفة لا يكون إلا بالرد عليها فكريًّا أيضًا.
رسائل وقضايا
هنا لا تكتب سهير المصادفة رواية لمجرد الكتابة، أو لإمتاع القاريء بإدخاله في جو تحيط به الأساطير، بل تريد عبر روايتها هذه، أن تبعث رسالة إلى القاريء يدعوه محتواها إلى حب مسقط رأسه والولاء له والتفاني في خدمته ومنفعته: " ليس مهمًّا ماذا نلبس أو كيف نتحدث، المهم أن نُعلّمهم ونتعلم، المهم أن نُفكر كيف نحب ميت رهينة ".ثمة رسالة مهمة أيضًا ترسلها المصادفة داعيةً الجميع إلى المحبة والتسامح حالمةً بالمجتمع " الفاضل " الذي توجد صور منه في بلدان أخرى، ولا يهمه سوى الإنسان بعيدًا عن أيّة مسميات أخرى: " نتعلم من جديد، نذهب هنا إلى الكنائس والجوامع لنعبد الله الواحد الأحد، نحب البشر ويحبوننا دون النظر إلى اللون أو الجنس أو الدين أو العِرق ". في " لعنة ميت رهينة " لا تكتفي المصادفة بإرسال الرسائل، بل تناقش عدة قضايا جوهرية لها تأثيرها الشديد على الإنسان والمجتمع الذي يحيط به ويتحرك هو فيه، من هذه القضايا: الفقر، الصراع الأسري، تحوّل البعض أو تلوّنهم فكريًّا وسياسيًّا: " مزجَ أقصى درجة من درجات الازدراء، ثم أقصى درجة من درجات التبجيل ". كذلك تطرح عدة أسئلة محورية منها لماذا نكره نحن العرب الفلسفة؟، ومنها كيف يحيا الجمال وسط القبح: " الجمال لا يعطل أبدًا، فالجمال هو أصل الحياة، وكل ما عداه هو خلق شيطاني ". كذلك تضع الكاتبة يدها هنا على مسألة البحث عن الهوية: " هل أنا الفرعونية التي تشغل العالم ويتحاربون فوق تابوتها؟ أم أنا حفيدة أدهم الشواف الشاعر العربي الحالم، الهارب من نيران فتنة قومه، أم أنني مجرد طفلة سِفاح لأب أمريكي لا يجيد في الحياة إلا خدمة غرائزه ونهمه اللانهائي؟!" كما تضعنا أمام ثورة يناير مُقارِنةً بين فريقين: أحدهما شارك فيها واكتوى بنارها، والآخر آثر الابتعاد قابعًا في الظل مستريحًا أعلى أريكته المنزلية، مشيرةً إلى أن هناك من شارك في الثورة وهناك من شارك نفسه في لا مبالاة لم تزل جاثمة على تفكيره وأسلوب حياته.
شخصيات الرواية
من شخصيات الرواية أدهم الشواف الأربعيني الغريب الذي يحب الشعر والفن، الشاعر الذي ضاق بحياته العائلية ورتابة العمل فقرر أن يهيم في الأرض ليكتب شعرًا، وأن يعيش من أجل كتابة الشعر فقط.عبد الجبار الذي يمنّ على ميت رهينة أن أدخلَ إليها كل الأشياء، وفتح عيون أهلها على ما لم يسمعوا عنه سوى في الإذاعة.ليلى بنت أدهم التي تعلمت وحاولت أن تقف أمام طغيان عبد الجبار الذي كانت تصفه بالجاهل، وهنا نجد صراعًا بين العلم والجهل من ناحية، وبين العلم والسحر من ناحية أخرى.الرواية، كما تكشف لنا مصر الجميلة بآثارها الفرعونية، تكشف لنا أيضًا قبح سلوكيات البعض مستنكرة أن تحيا الورود بعبيرها وشذاها بين الأشواك.كذلك تكشف لنا عالم مجموعة من الشخصيات لكل منها أسطورته الخاصة التي يعيش وفقًا لنهجها ومفرداتها وبوْصلتها التي قامت بضبطها على توقيتها هي، وبالطريقة التي تناسبها جيدًا.ثمة شيء آخر تريد الرواية أن تقوله لنا وهو أن لكل منا كنزه الخاص، كنزه المفقود أو المختبيء في مكان ما، والذي يظل يبحث عنه، ربما يصل، وربما تضيع حياته سدًى دون الوصول، كما لكل منا سؤاله الخاص الذي يلهث كثيرًا بغية الحصول على إجابة مقنعة عنه.
فلسفة الحياة
كذلك تبث سهير المصادفة فلسفتها ورؤيتها للحياة عبر مشاهد روايتها، كاشفة لنا عن سمات حيوات أخرى هناك من يطمح إليها ويتوق للعيش داخل عباءتها.لعنة ميت رهينة التي ترصد واقع مصر وتغيراتها عقب الثورة تضع يدها على ظاهرة الدعاة الجدد الذين يحاولون إثارة قضايا قديمة، في عصر حديث، لن يحتاجها أحد، كما ترصد تدخّلهم في مجال الأدب وبحثهم في بطون الكتب عن مشاهد جنسية، كلمات بذيئة، ازدراء دين، أو آراء سياسية تعارض نظام الحكم، مما قد يؤدي إلى مصادرة الكتب وحبس مؤلفيها، مُنصّبين من أنفسهم حُماة ومحامين يدافعون عن الله في الأرض، رغم أنه تعالى لم يطلب منهم ذلك، مانحًا لكل البشر التصرف بحرية وبعدها ثمة قيامة وحساب.الرواية، إلى جانب ذلك، تنتقد الدور القبيح الذي يقوم به الدجالون ورجال الأعمال الجشعون والمنقبون عن الآثار ومروجو المخدرات وجرائمهم الشنيعة التي يرتكبونها في حق الوطن ويهدمون بها أساس المجتمع.كما تنتقد الذين يقدمون أوطانهم هدية لآخرين ليفعلوا بها ما يشاءون مقابل أشياء لا وزن لها إذا قيست بميزان الوطنية والكرامة: " هل رأيتم من قبل مغفلا يقود رجلا إلى حبيبته ليتزوجها ؟ "الرواية ترى كذلك أن القضاء على النماذج السيئة في المجتمع " تجار آثار، نابشي قبور جشعين، دجالين، رجال دين أفاقين ونصابين، رجال أعمال ومخدرات وبنت حرام " لا يكون باغتيالها وتصفيتها جسديًّا، بل بمناقشة أفكارها والحوار معها، خاصة وأن هذه النماذج تتناسخ كل يوم وتتناسل في صورة ناس آخرين.هذه الرواية التي تأخذنا معها لنعيش خلال فترة زمنية تبدأ من سبعينيات القرن الماضي وحتى أعوام ما بعد الثورة، تسلط الضوء على عصر الانفتاح الذي بدأ على يدي الراحل أنور السادات، على ظهور رجال الأعمال وازدياد قبضتهم على الاقتصاد، على انتشار تجارة الآثار والمخدرات، على الفقر الذي يدهس قطاعًا عريضًا من المجتمع، مشيرة إلى أن بعض الفقراء يكرهون كل مَن يغادر حياتهم ليذهب إلى حياة الثراء، على الجهلاء الذين تحكّموا في مقادير الشعوب، وعلى متن هامشها نجد مرورًا بمسألة الفتنة الطائفية والعلاقة التي تجمع مسلمة بمسيحي ونتائجها التي قد لا تُحمد عقباها. كما تقول الرواية ثمة حلم نطمح إلى تحقيقه، منا من يتمكن من ذلك ومنا من يتبخر حلمه كأنه لم يكن، تاركًا إياه يعاني حياة تكتظ اكتئابًا وقنوطًا: " كان تمامًا كأنه قطرة ما تبخرتْ وصعدت إلى السماء ".
وفي الأخير أقول إننا لسنا هنا أمام رواية فحسب، بل نحن، في معظم مناطق الرواية، إزاء عزف روائي جميل يَظهر لنا في صورة كلمات تنسجم معًا لترسم مشاهدها في بساطة وتلقائية، تمنح النص سمات فنية جاعلة منه نصًّا ممتعًا، عبر لعبة روائية لا نستطيع بسهولة فض بكارتها أو تخمين نهايتها، خالقة لكل شخصية عالمها المنفصل عن بقية الشخصيات، مازجة بين هذه العوالم أيضًا، راصدة صفاتها الخارجية ومشاعرها الكامنة في داخلها.