القاهرة 30 مايو 2017 الساعة 12:16 م
أكان يجب عليه أن يلقي بنفسه من شرفة شقته حتى ينتبه له المشهد الثقافي المصري؟ أكان يجب عليه أن يجعل من جسده أضحية حتى ينال قصائد الرثاء
وكلمات التأبين على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) كنت أجد له تعليقات ساخرة هنا وهناك، وأرسل لي يوما رسالة مفادها أنه يعرف أنني أبحث دوما عن المهمشين والمنسيين، وأنه يتمنى أن أكتب عن ديوانه" وزير الصبر" إنه الشاعر علي حنيش الذي فارقنا بشكل درامي غامض. سألني الشاعر وهو يحاورني إن لم يكن عندي الديوان كيف يرسله لي"!. رددت عليه بحرج شديد بأنني لم أقرأ الديوان، وتداركت كلامي بمزيد من الحرج: لكن سمعت عنه طبعا. أرسل وجها مبتسما وقال لي: ليس ذنبك أنك لم تسمعى عن الديوان من قبل، فربما أن مقصر في الوصول إلى النقاد الحقيقيين، لكني سأرسل لك الديوان، من فضلك اعطني عنوانك البريدي وسأرسله لك، وقد أعطيته العنوان، ولم يصلنى الديوان، ونسيت الأمر مع زحمة الحياة وانشغالاتها، حتى قرأت أمس خبر نعيه على بعض صفحات الأصدقاء. ساعتها استعدت تفاصيل الحوار بيننا، وتمنيت لو أنني حصلت على ديوانه قبل الرحيل، ولو أنني أفرحت قلبه بكتابتي عن شعره. وهكذا نحن منا مهمشون ومنسيون، ربما يكونوا هؤلاء أكثرنا إبداعا وشعرية، لكن لا أحد يسمع عنهم، ولا تلتفت لهم المؤسسة الرسمية المنوط بها رعاية المبدعين وتوفير سبل الأمان الاجتماعي لهم. ما الذي دفع شاعر إلى أن يلاقي هذا المصير الغامض، شاعر عاش الحياة وحيدا لا زوجة ولا أبناء، ولا ضمان اجتماعي يضمن له الحد الأدني من العيش بإنسانية. هل أصيب بمرض غامض وأبت عليه كرامته أن نتسول له اتحاد الكتاب أو وزارة الثقافة مثلما يحدث مع كثيرين من طبقته الاجتماعية؟ أم شعر بالإحباط والاكتئاب لعدم التفات المؤسسة له فقرر الرحيل طائعا مختارا كما يقولون؟ أم ثمة جريمة لا أحد يعلم عنها شيئا وقعت دون أن يفكر أحدهم في التحقيق فيمن ألقى به من الشرفة؟ لا أتصور أن رجلا بحسه الساخر وروحه المقاومة وتسامحه مع كل ما ومن يحيط به يجعل له أعداء يلقون به من الشرفة! ربما يكون مل تهميشه وإقصائه من المشهد الثقافي المصري فقرر الرحيل، لكن أكم من مهمشين يعيشون بيننا لا نلتفت لهم حتى يرحلون أو يمرضون. وهنا يبرز سؤال هام إلى متى تتجاهل المؤسسة الرسمية المبدعين وتتركهم للحاجة والعوز؟ في كل بلدان العالم ثمة رعاية طبية واجتماعية للمبدعين والمثقفين، وقد يقول أحدهم إن المبدعين مهمشون مثل بقية الشعب، لكن هؤلاء يمثلون ضمير الأمة ووعيها وفكرها، فكيف تتجاهلهم الدولة؟ صحيح نتمنى أن توفر الدولة الرعاية الاجتماعية لكل طبقاتها المهمشة حتى لا يكون بيننا جائع ولا مكروب، لكن المبدعين خاصة يحتاجون أن تلتفت لهم الدولة وتوفر لهم الحماية المجتمعية والرعاية الطبية حتى لا نضطر بين يوم وآخر أن نناشد الوزير الفلاني أو الوزير العلاني أن ينجد كاتبا مريضا أو شاعرا لا يجد ثمن الدواء.إنني أناشد محافظ كفر الشيخ أن يكرم الشاعر الراحل علي حنيش بأن يطلق اسمه على أحد ميادين المحافظة، فربما يكون هذا هو آخر أمنية أسر بها الشاعر إلى أحد أصدقائه، فقد تمنى حسبما قرأت على الفيس بوك أن يطلق محافظ كفر الشيخ اسمه على الحديقة الموجودة في الشارع الذي كان يعيش فيه.
رحم الله الشاعر الذي صبر حتى مل الصبر من صبره، فقرر الرحيل دون أن يقول لأحدنا وداعا، فهل انتقل الشاعر من الهامش والاهمال والإقصاء إلى المتن وبؤرة الاهتمام برحيله المفاجئ والدراماتيكي؟!.
من قصائد الشاعر التي وردت في ديوانه" وزير الصبر" :
"قلبٌ تمـــدَّدَ في منـــــــافيهِ ..
أو كان ذا ما كُنتَ تبغيِـــهِ ؟َ!
ذوَّبتَ في شريانهِ حَزَنا
يروي ضفــافاً منْ صحاريه
يا قادماً للدار من سفرٍ
جاءت بك الأقدارُ من تيه
جاءت لتصلـبَنا على وترٍ
نشـدو بلحنٍ غـــــابَ شاديه
فالنايُ مكســورٌ على وجعٍ
والبدرُ يخبو في لياليهِ
هو قبركَ المفتوحُ فى لهفٍ
لك يا صديقي .. فلتنمْ فيه
و أدعو الإله بغربةٍ سَلبت
"منك الشبابَ فعدتَ تبكيه