القاهرة 30 مايو 2017 الساعة 12:04 م
صدر عن دار العين بالقاهرة رواية (يوم انتحار عزرائيل) للروائي الجنوب سوداني آرثر غابرييل ياك، والرواية تبدو تسجيلية لأحداث محاولة انقلاب قبيلة النوير على الدينكا صاحبة الأغلبية والسلطة، والرواية تركز على الكولونيل فرانكو مجوك مجاك المحارب القديم في الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي يرفض كافة أشكال الفساد السياسي في وطنه ويبقى مستقرا في رتبة أقل من زملائه محافظا على التقاليد العسكرية في الدفاع عن السلطة بالمفهوم القبلي ولا يتجاوب مع حركات الفساد في الجيش فلا يحقق شيئا من الثروة مثل زميليه كلمنت وجرمايا، ويبقى فرانكو ثابتا على القتل/ الحرب فقط وهي التي تعمل مع الوقت على تآكل الشخصية وتهاويها نفسيا حتى تصل إلى مرحلة من الانشطار الذي يعمق الغربة عن الذات، فيبدو فرانكو كما لو كان شخصين أحدهما لا يعرف الآخر. وتهيمن على عالم الرواية أجواء الكراهية والعنف، بحيث تتوزع في فضاء الرواية مشاهد المجازر المتبادلة بين القبيلتين، حين تبدأ قبيلة النوير في محاولة الانقلاب على السلطة في جوبا فترد عليها قبيلة الدينكا بمذبحة وترد النوير في منطقة أخرى تسيطر عليها بإبادة جماعية لمن ينتمون لقبيلة الدينكا. وتستحوذ مكونات إنسانية على المساحات الباقية في الرواية، مثل الحب والجنس والجانب الاقتصادي والرقص والغناء، بحيث تبدو الرواية إلى جانب طابعها التسجيلي لوحة متكاملة تعبر في خلفيتها الإنسانية عن كافة جوانب الحياة.
في الجانب الفني والبنية الشكلية للرواية فإنها تأتي في إطار سرد مشهدي أقرب إلى المشهدية السينمائية التي تتحكم في اتساع المشهد أو تضييقه وفقا لمتطلبات الخطاب الروائي ورسالته وقيمته الجمالية. ففي مشاهد المجازر والقتل على سبيل التمثيل نجد تصويرا حركيا بطيئا يقترب كثيرا من مشاهد العنف والدم وتحطيم جماجم الضحايا وتلطيخ أثواب الجنود بالدماء، ونرى كذلك في إطار هذا السرد المشهدي الصقور وهي تهبط لتأكل جثث الأعداء التي ألقاها الجنود بإهمال في المناطق المحيطة غير بعيد من قسم الشرطة الذي تقع فيه المذبحة ويموت فيها المئات.
تأخذ الكوميديا مساحة لا بأس بها من الرواية حين يفلح خطاب الرواية في إنتاجها عبر المفارقة وبعض المشاهد المرتبطة بالفلكلور الأفريقي والعادات وحوار الشخصيات بطابع هجائي من المشادات والشتائم والسباب والمنافسة الاقتصادية أحيانا والرغبة في معرفة أسرار الحب والحرب والوصول إليها قبل الآخرين. تتسم الرواية بالإحكام الفني في جانب الزمن، حيث تبدأ من محاولة الانقلاب هذه متتبعة كافة التفاصيل في خلال عدة أيام قليلة، بينما تتحرك في الزمن الماضي وتمزج بين الآني والماضي عبر الاسترجاع وتعود إلى روافد تكوين الشخصيات وتربيتها على العنف الأسري والتمزق والخوض في حياة الحرب من وقت مبكر. ليمثل الكولونيل فرانكو مجوك مجاك في عجزه عن الزواج والحب نموذجا لانهيار الضمير الإنساني أو البطولة والحرب في جانبها المدافع عن الأرض والوطن، ومثله تماما صديقه وليم الذي يعمل مع الأمم المتحدة ويمثل صوت الضمير الرافض دائما للمذابح والعنف ويبقى مراقبا للفساد وداعيا للسلام، والعاجز على الإنجاب من خمس زوجات، فيمثل علامة على المستقبل الظلامي الذي قد يغيب فيه الضمير نهائيا ويتخلى عن حضوره الرمزي القديم.
الرواية تركز على ثلاث مذابح تتوزع في فضاء الرواية وتقسمها إلى ثلاثة أجزاء تتوزع بينها مشاهد الحب والحركة العادية للحياة بين الزواج والطلاق وإلقاء كل طرف المسئولية على الآخر، في عالم متهاو ومجتمع هش تهيمن عليه القبلية والتناحر وفساد بعض جنرالات الجيش، فالجنرال جرمايا نموذج لكافة أشكال الفساد والانحراف والشذوذ عن مبادئ الدولة الناشئة التي حاربت طويلا لنيل استقلالها، فهو الذي يمارس الشذوذ مع الجنود الأسرى من جيش حكومة الخرطوم، وهو الضابط الذي لم يحارب ولم يقدم شيئا لدولته غير تملق الرؤساء وكتابة التقارير الاستخبارتية ليكيد لزملائه دون أن يكون مكلفا بها بشكل رسمي، وهو المحارب الجبان الذي يخشى الموت ويزج بالآخرين نحوه، بينما يتربح من وظيفته بوصفه مسئولا عن المشتريات وينعم بأرباح صفقات مع كافة الجهات وتتضخم ثروته، بينما صوته لا ينقطع عن الحديث في أمجاد وبطولات سابقة مع جيش التحرير الشعبي. بينما يمثل الكولونيل فرانكو النقيض من هذا النموذج، بما له من بطولات وتفان حتى قبل لحظات التحول وتجاوز التهميش، حينها يصبح معرضا ليكون مثل بقية زملائه من الضباط الفاسدين، فيصبح الجميع عرضة لهذا الفساد باختلاف التوقيت الذي يأتيه فيه دوره ليفسد. بينما يمثل زميل دراستهم القديم وليم جبخانة الضمير الإنساني الرافض لكافة أشكال العنف والداعي إلى السلام دائما.
والرواية تعتمد سردا يعتني بالخلفية المحيطة بالأحداث والحركة، ليتم نقل الطبيعة وتصويرها بشوارعها ومقاهيها الفقيرة وحركة البشر التي لا تنقطع بين نزوع إلى الحب والاستقرار واللعب والضحك والغناء وبين حركة الحرب الموازية التي لا تهدأ في كل فضاء الرواية. فهناك حركة زوجات وليم وأخوات فرانكو وقصة أمه التي يتم استرجاعها بتفاصيلها الغريبة من سادية للأب الذي تقع فريسة للغرام بها وبتعذيبه لها كل ليلة، وتقاليد قبلية تأخذ طابعا أقرب للأسطورة فتتسم بقدر كبير من الغرابة مثل قصة زواج الأخ الأصغر من أرملة أخيه، أو علاقتهم بالطب والتعليم والمستوى الحضاري وتعدد الزوجات عند المسيحيين في جنوب السودان، فنرى المسيحية الخليط من عادات القبائل والعشائر وشرائع الدين المسيحي.
وفي ظل هيمنة الصراع والمذابح تنكشف بدائية الحياة التي تقاربها الرواية، وينكشف يأس الإنسان المراقب الذي لا يرى أملا في الخلاص. لكن الشكل الفني الذي ينقل هذه الحال يبدو جماليا على مستوى القراءة والتلقي لأن غرابة العالم الذي تقدمه الرواية يتجاوز حدود الرتابة والتكرار ويدخل في المنطقة الأفريقية الغامضة على المستوى الإنساني والثقافي ويكشف كذلك بعد سياسيا يأتي متشحا بمظاهر الحياة وجوانبها الحياتية النابضة والمتنوعة مثل مظاهر الطعام والملابس وتاريخ التحرير، ومفردات البيئة الزراعية والطبيعية من أنواع للأشجار وأسماء للمدن والقرى والأحياء والقبائل في جنوب السودان وغيرها من المعلومات التي تمثل بعدا جماليا معرفيا مهما في تكوين الرواية وبنائها.
والرواية تنقل شخصيات متكاملة نفسيا بحيث تنعكس التحولات التي يصنعها القتل في الشخصيات، أو لنقل إنها تبدلات الذات وانشطاراتها في مجتمع يسوده التهدم والقتل والعنف، وتبحث عميقا في هذه الأنماط المختلفة من الشخصيات، الثابت منها على المبدأ والقيمة الإنسانية والمنحرف مضطرا أو دون وعي نتيجة هيمنة القتل والحرب والتهميش والرغبة في الأموال والاستمتاع بالحياة.