القاهرة 30 مايو 2017 الساعة 10:41 ص
يهل علينا شهر رمضان الكريم بفضله وبركته وروحانياته التى تداعب الوجدان ،ولكن مع حلول هذا الشهر المفترج نستمع لأغنيات يملؤها جو البهجة وتعيد إلى مسامعنا ذكريات شهر رمضان والأجواء الأسرية الحميمية والروابط العائلية وصلات الأرحام ،وسواء قراءة وتلاوة القرآن الكريم أو الابتهالات الدينية تذكرنا دائماً بالموسيقى التى ترتبط بها كفن راقى نشأ منذ أقدم العصور ،لكن بالطبع ليست الموسيقى الراقصة أو الماجنة أو التى قد تحرك الغرائز بشكل أو آخر وإنما المقصود هنا هو أصل الموسيقى بمفهومها البسيط وبعناصريها الأساسيين اللحن والإيقاع. وهنا يحضرنا ارتباط الموسيقى بالطقوس الدينية وأماكن العبادة منذ أزمنة بعيدة حيث دخلت الموسيقى إلى المعابد مع الطقوس الفرعونية والإغريقية ثم انتقلت إلى أماكن التعبد فى الديانات السماوية، حيث كانت الموسيقى قديماً هى الوسيلة الرئيسية للعبادة والربط بين الآلهة والبشر. وقد حظيت الموسيقى بالعناية والرعاية من الآلهة ورجال الدين وذلك لدورها في التوغل داخل النفس البشرية ومخاطبتها إياها وذلك للتأكيد على الشعور الديني ،مما جعلهم يعتقدوا أن كلما اقترب الإنسان من الله كانت موسيقاه أنبل وأرفع ،ومن ثم نالت الموسيقي قداسة عالية في المجتمعات القديمة بجانب وظيفتها الإصلاحية والأخلاقية فى المجتمع مع دورها التربوى فى التنشئة وبث الطمأنينة فى النفوس بل وأبعد من ذلك حيث تستخدم كوسيلة لدرء الأمراض وعلاج حالات الاكتئاب. ومع دخول الإسلام كديانة
أصبحت الموسيقى تستمد من الدين شعاعاً قدسياً وتسبغها بحالة نورانية تلعب دوراً هاماً فى أسر العاطفة الدينية وإيقاظها فتشعل الجانب الروحى والإيمانى لدى الشخص، وظهر الغناء مع استقبال الأنصار لرسولنا الكريم فى المدينة بعد الهجرة بأغنية "طلع البدر علينا" ،وهو خير دليل على ارتباط الموسيقى والغناء في وجداننا وتراثنا الثقافي منذ عهد الرسول (ص) ،وبعد أن فرضت الصلاة على أمة محمد (ص) فكان الإعلان عنها المتمثل فى الآذان وإقامته خمس مرات يومياً بأداء فردى باستخدام المقامات الموسيقية والتى تؤثر فينا جميعاً تأثيراً جلياً وخاصة إذا كان المؤذن يتمتع بحلاوة الصوت وطلاوته كما كان بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك نجد دور الموسيقى واضح فى تكبيرات العيدين وإنشاد المتعبدين والصوفيين داخل حلقات الذكر ؛فالإنشاد الديني والصوفي الذي ازدهر في بعض مراحل الحضارة الإسلامية كانت وظيفته تهذيبية وأخلاقية وتطهيرية ودعوية، قبل أن تشوبه بعض طقوس البدعة أحياناً ،أما التلاوة القرآنية فقد حثّ رسول الإسلام على التغنّي بالقرآن ، وما التجويد في قراءة القرآن إلاّ تحسين الصوت حيث تعتمد هذه التلاوة بشكل أساسى على المقامات الشرقية ، وللتأكيد على أهمية التلاوة المنغمة ينبغى أن نذكر أقواله (ص): "زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً" ،"ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ويقول رب العزة سبحانه فى كتابه العزيز: "ورتلناه ترتيلاً". ويقوم المرتل بالارتجال اللحظى الغير مدون ولكل مقرئ أسلوبه من حيث أماكن التنفس وتقطيع الآيات القرآنية وتحديد مخارج الألفاظ عن طريق تشديد بعض الأحرف والوقوف عليها لإظهارها أو للتأكيد على بعض الأحكام الإلهية الواردة فى النص الكريم ،كما تكمن أهميتها فى تصويب النطق وسلامته وتوضيح معانيه وألفاظه مع إيضاح ما تيسر من أحكامه وزيادة خشوع قلب المؤمن إلى ربه ،وحتى الانتقال وتغيير المقام أثناء التلاوة فهو غير محدد بمعايير أو قواعد موسيقية ثابتة بل يرجع لذوق المقرئ وإحساسه حيث يعمل على زيادة جذب انتباه السامع وتشويقه ،وكثيراً ما يقف المقرئ عند المقام الأساسى ثم يتحول منه إلى مقام قريب وقد يلامس مقامات أخرى سريعاً ويعود للمقام الأصلى مع وضعه للزخارف اللحنية على بعض الكلمات أو الأحرف بطريقة جمالية نابعة من رغبته فى توصيل أداء وإحساس معين للمتلقى.. ولا يستخدم الإيقاع بصورته المتعارف عليها أثناء التلاوة القرآنية ولكنها تتم عن طريق تقطيع المفردات اللفظية خلال عملية التلاوة وأحكام التجويد وبالطبع لا يوجد استخدام للآلات الموسيقية فى شعائر الإسلام وإنما أحياناً يتم الاستعانة بالدفوف مع بعض الابتهالات. ويلاحظ فى الدين الإسلامى أن الأداء يعتمد على قارئ واحد فقط وليس هناك تلاوة جماعية إلا أثناء تحفيظ القرآن فى الكتاتيب والمساجد ،أما ارتباط الجموع فيقتصر على أداء بعض الابتهالات الدينية والتواشيح وتكبيرات العيدين حين يجتمع المسلمون فى شتى ربوع الأرض يتقربون إلى الله عز وجل. وقد تم الاستعانة بالابتهالات الدينية وتكبيرات العيدين وترتيل الأذان فى عدد لا بأس به من الأعمال الموسيقية التى تعبر عن التأثر بالبيئة الشرقية والدينية المتأصلة فى أعماقنا وذلك لمجموعة من المؤلفين المصريين على سبيل المثال وليس الحصر عطية شرارة الذى تربى على التواشيح الدينية فى بيت أزهرى استخدم مقاطع ذات موروث ثقافى دينى فى بعض مؤلفاته مثل افتتاحية أنوار المدينة وجبل عرفات وأيضاً رفعت جرانة استخدم لحن الأذان فى عمله الأوركسترالى "قصيد سيمفونى انتصار الإسلام" ووضع تكبيرات العيد فى أعمال أخرى. كما ساهمت التلاوة القرآنية فى تشكيل الوعى الموسيقى لدى عظماء الموسيقيين المصريين أمثال الشيخ سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد القصبجى ومحمد عبد الوهاب وسيد مكاوى وكوكب الشرق أم كلثوم. ولذلك فالديانة الإسلامية بشعائرها وطقوسها باتت جزء أصيل من تراثنا الثقافى على اختلاف دياناتنا ،وظهر ذلك متجلياً فى أشكال الفنون المختلفة سواء فن تشكيلى أو سينما أو مسرح أو موسيقى وأبدع فيها المصريون أبناء الوطن الواحد بعيداً عن انتماءاتهم وعقائدهم. فالفن الراقى الهادف يجتمع حوله الجميع مهما اختلفت مشاربهم وأجناسهم ودياناتهم ليظل دائماً الفن هو الجمال الذى نبحث عنه فى هذا الكون.
|