القاهرة 24 ابريل 2017 الساعة 11:57 ص
من عادتى، أننى أنظر لنصف الكوب الفارغ، رغم أن نصفه الآخر ملآن، ولكنى أعتقد – وهذا مبدأ راسخ فى يقينى منذ ستينيات القرن الماضى وحتى الآن – أن نصف الكوب الفارغ الأحق باهتمامنا، ويجب أن يثير انزعاجنا. وأن نسأل: لماذا يبقى الفارغ فارغاً؟ مهما حاولت الانصراف إلى النصف الملآن، فالنصف الفارغ يشدنى إليه ويأخذنى إلى رحابه، ويطرح علىَّ الأسئلة المُرَّة.
يزعجنى غياب الدولة المصرية أحياناً. أعرف أنها حاضرة فى معاركنا ضد التطرف والإرهاب. معارك السلاح وميادين القتال. وأنها موجودة فيما تقوم بها قواتنا المسلحة الجليلة من جهدٍ للدفاع عن الوطن ضد خصوم الظلام. ومحاولات رأب الصدع فى حياتنا الاقتصادية المتردية. وأشعر بالجهد الضخم الذى تقوم به جهات الأمن المصرية وأشعر كل ليلة عندما أبحث عن النوم المستحيل أننى أنام فى فراشى لأنهم يحمون ليلى ويحمون نومى ويحمون قبل هذا وبعده بلادى.
لكن غياب الدولة المصرية أحياناً يصيبنى بفزع. والدولة أشمل من الحكومة، بل إن الحكومة – بكل ما تقوم به – هى أحد أشكال التعبير عن الدولة، وهى وسيلتها لكى تصبح مسئولة عن حياة الناس، الدولة المصرية الأسبق قبلنا والأبقى بعدنا.
الأمثلة لدىَّ كثيرة، ولكنى أكتفى بمثلين فقط. ولكى أكون واضحاً من البداية، فأنا لا ألقى العبء على الدولة المصرية ولا الحكومة المصرية. أعتقد أن المجتمع المصرى مسئول. وكان الدكتور لويس عوض يصف مجتمعنا بأنه المجتمع الواقى، ويقول إن كلمة الواقى لا تنطبق إلا على مجتمعنا المصرى. وكان يعتقد أن هذا يتجلى فى صعيد مصر. لا أحب أن نُحمِّل الدولة أو الحكومة المسئولية. لكن كل فرد فينا يتحمل جزءاً من هذه المسئولية.
الحدث الأولى يخص أحد أفراد المجموعة التى نطلق عليها خلية الكنائس. إنهم الانتحاريون الذين فجَّروا كنيستى طنطا والإسكندرية. انتحارى طنطا اسمه: ممدوح أمين بغدادى، 40 سنة، يعيش فى نجع الحجيرى، التابع لقرية الظافرية بمركز قفط، جنوب قنا.
ما نشرته الصحف أن الشاب الحاصل على ليسانس آداب قسم لغة عربية، اعتنق الفكر التكفيرى، وسعى لنشره بين أبناء قريته عدة سنوات فى غياب كامل للمجتمع والناس وأيضاً وزارة الأوقاف التى تركت له مساجدها ليستغلها فى نشر ما يؤمن به من أفكار. ولأنه مدرس قام فى مدرسته بدفع الأطفال لتغيير المُنكر داخل منازلهم وبين جيرانهم بأيديهم، أى بالقوة.
هل يُعقل أنه كان يقول بالحرف الواحد: سنهدم كل الأضرحة فى بر مصر؟ وأولها ضريح سيدى عبد الرحيم القناوى فور تولى الخلافة الإسلامية الأمور فى مصر. وأنه كان يحرم زيارة الأضرحة والمقابر ويرى أنها نوع من الشرك، لأن العبادة لله وحده، وليست لأصحاب هذه الأوثان.
جمع الشاب من أهل قريته والقرى المجاورة ستة ملايين جنيه بدعوى توظيفها مقابل فائدة 10بالمئة، سدد الفائدة فترة من الوقت، ثم توقف. وبنى زاوية خاصة به فى قريته. كان يُحفِّظ أطفال القرية أناشيد الجهاد. كان يُحَفِّظهم قادم قادم جيش جهاد. والقابضون على الجمر. وأسس فى الزاوية مكتبة وضع فيها كتب سيد قطب، وحسن البنا، وكل كتب التطرف والتكفير.
أين الدولة؟ أين الحكومة؟ أين وزارة الأوقاف؟ أين وزارة التربية والتعليم؟ أين عمدة القرية؟ أين شيخ البلد؟ أين شيخ الخفر؟ باختصار أين المجتمع الذى يجب أن ينتبه لهذا وكل ما يفعله أن يبلغ السلطات المعنية بالأمر لتقوم بعمل اللازم. حتى لو أبلغها ولم تفعل شيئا، يكون قد قام بإبراء الذمة وفعل المطلوب منه تجاه الظاهرة الخطيرة. أخشى أن أقول إن الجميع تعايش مع ما جرى. والبعض قال: وأنا مالى. والبعض عبر على الأمور وكأنها لا تخصه. وهكذا وصلنا لتفجير كنيسة مار جرجس فى طنطا.
لا أعفى الفرد من مسئوليته. لكن يبقى جزء من المسئولية على الحكومة ممثلة فى وزارتها وأجهزتها وأيضاً على المجتمع الذى رأى وفضَّل الصمت. ولجأ إلى “الأنامالية” المحنة التى تهدد مصر أكثر من أى وباء آخر. كل من رأى هذا الشاب وتابعه وأدرك خطورة ما يقوم به، وفضَّل الصمت التام – مسئولاً كان أو مواطناً عاديا – أعتبره يتحمل جزءا من مسئولية تفجير الكنيستين.
من نجع الحجيرى، التابع لقرية الظافرية التابعة لمركز قفط، جنوب محافظة قنا. إلى نشأ فيه إرهابى طنطا، إلى قلب القاهرة. وما جرى أخيراً فى قلب المحكمة. وقلب المحكمة تعبير لا بد إن نتوقف أمامه. فهو المكان الذى يُنَفَّذ فيه العدل. ويمثل إحدى السلطات الثلاث التى تحكمنا ونحتكم إليها ونرتضى بها مرجعية أساسية فى حياتنا.
قاعة المحكمة بمعهد أمناء الشرطة بطرة، عند رفع جلسة محاكمة 67 متهماً فى القضية المعروفة إعلامياً باغتيال النائب العام، أعلن أهل إسلام أبو النيل، المتهم الذى يحمل رقم 42 فى القضية خطوبته داخل قاعة المحكمة. قدمت بعض الصحف كتابة شبه جميلة – للأسف الشديد – قالت فيها إن والدة المتهم قدمت الشبكة للعروس شيماء، داخل قاعة المحكمة. بيما احتفل الحضور بالقاعة تعبيراً عن فرحتهم. وتحدثت شيماء عن خطيبها والقبض عليه يوم 2 فبراير 2016.
قالت شيماء – لا فض فوها ومات حاسدوها – إنها جاءت لقاعة المحكمة لتُعلن موافقتها على الخطبة. وأنهما معاً يدرسان فى كلية شريعة وقانون وأن خطيبها – المتهم – كان الأول على دفعته فى كل عام. وأنها ستنتظره حتى تنتهى القضية المتهم فيها.
المتهم برىء حتى تثبت إدانته. ولكن القضية اغتيل فيها النائب العام السابق، المستشار هشام بركات. ونحن فى قاعة محكمة، ولم يكن يجب السماح بمهزلة الخطبة فى دار العدل والقضاء، ولا أيضاً التهليل الذى قامت به بعض الصحف واعتبار أن ما جرى طرفة من طرائف أيامنا، لا بد أن نتوقف أمامها كما لو كانت نكتة وقعت، أو حادثة غريبة حدثت.
المحكمة لها حرمة، ومن المؤكد أن هناك حراسات تتأكد من الداخلين، وتتابع ما يجرى بين الجمهور، لأن القضية المنظورة ليست قضية عادية. حتى لو كانت عادية. فما كان يجب أن يتم ما تم. الخطبة حق، لكن ليس مكانها المحكمة.