القاهرة 18 ابريل 2017 الساعة 02:35 م
في العام 1924، بعد عامين من مبارحته روسيا، إذ شعر أنه على غير توافق على الإطلاق مع الأيديولوجيا الاشتراكية التي صنعت الثورة البوليشفية ومن ثم أقامت الاتحاد السوفياتي، أصدر الفيلسوف الروسي نيقولاي برديائيف في برلين، واحداً من كتبه الأولى التي عرّفت العالم الغربي عليه. وكان ذلك كتابه «عصور وسطى جديدة» الذي أعلن فيه سقوط كل الأفكار التنويرية وضرورة العودة إلى ما أسماه «عصور وسطى جديدة» يعود فيها الإنسان إلى فرديته وإنسانيته من طريق علاقته بالغيب جاعلاً من عودته، عودة إلى مركز الكون ومركز الروح ومن ثم بالتأكيد، مركز العناية الإلهية... فبالنسبة إلى برديائيف ها هي الاشتراكية تثبت إخفاقها، كما حال عصر النهضة والإصلاح الديني وعصر الأنوار وعصر النزعة الفردية. كل هذا أخفق في أن يحمل خلاصاً للإنسان.
> بالنسبة إلى المفكر الروسي كان قد انتهى على عتبات عصورنا الحديثة، ذلك التقسيم الخطّي الذي كان يجعل من مسار التاريخ ثلاثة أجزاء، العصور القديمة، العصور الوسطى والعصور الحديثة. خصوصاً أن هذه الأخيرة قد انتهت لتبدأ الإنسانية دخولها زمناً هلامياً غير معروف الهوية، يحتاج إلى أن نطلق عليه اسماً لكننا عاجزون عن ذلك. فـ «النهضة كانت قد فصلت الإنسان عن المنابع الروحية التي كانت العصور الوسطى قد نهلت منها. وهي بالتالي أنكرت عليه كينونته الروحية لتقصره على كونه إنساناً طبيعياً (بيولوجياً)، ومعنى هذا أن النزعة الإنسانوية لم تقوِّ الإنسان بل جعلت منه كائناً «أهبل». ولقد أضاع، هذا الكائن، عبر إحساسه بنوع من الاكتفاء الذاتي، طريقه بدلاً من العثور عليها». وبهذا ترسّخت بالنسبة إلى برديائيف تلك الجدلية التي سيّرت تاريخ الإنسان الذي قام أول الأمر على نوع من تأكيد الذات قبل أن يصل إلى نوع من نكران الذات سار على نفس المبادئ التي جعلته يزدهر فكرياً أول الأمر. «وهكذا لما وصلنا إلى زمننا الراهن، والذي وصل فيه الإنسان - الأوروبي خاصة - إلى أوج عصره الإنسانويّ، وجد نفسه يصل إلى نوع مذهل من الخواء، دفعه بدلاً من متابعة مساره الفردي الروحي، إلى اللجوء إلى تلك الجماعية التي جعلته كائناً مسحوقاً بشكل كارثي بالنظر إلى أن الإيقاع المتسارع لحركة التاريخ منع وعود الإنسانية من أن تتحقق: وهكذا راح الإنسان يستشعر نوعاً من التعب كان هو السبب الرئيس الذي جرّه إلى تلك النزعات الجماعية التي نزقته، مهما كان من شأنها». لقد كانت نزعات أدت إلى الاختفاء التام للفردية الإنسانية، بالنظر إلى أن الإنسان لم يعد قادراً على تحمّل وحدته وكونه متروكاً لمصيره. ويرى برديائيف، - باكراً جداً في ذلك الحين، كما يمكننا أن نلاحظ، إذ أن هذا النص إنما كُتب بعد شهور من نجاح الثورة البوليشفية -، أن ذلكم هو بالتأكيد المعنى الحقيقي «الذي كمن في انتشار ونجاح الأفكار الاشتراكية والشيوعية» عند بدايات القرن العشرين مع ظهور العصور الحديثة.
> ويستنتج برديائيف من هذا أن خلاص الإنسان لن يكون إلا في استعادته ذلك النوع من العصور الوسطى التي كانت فردية الإنسان تتأمن فيها من خلال ارتباطه بنزعة روحية بل غنوصية قصوى هي بالنسبة إلى الفيلسوف تعبير حقيقي عن نزعة حكم ثيوقراطية «تمكّن الإنسان من استعادة روحه وسط عالم الفوضى العارمة التي تعيشها أزماننا»، استعادة هي بالنسبة إليه «نوع من توليف ديني إنساني حان أوانه».
> والحقيقة أنه إذا كان برديائيف قد قال في مجال آخر إنما مجاور، في تلك السنوات، حيث كانت الثقافة بالكاد تصل إلى قطاعات عريضة من الناس، أن «اقتحام الجماهير للميدان الثقافي قلب الثقافة رأساً على عقب، وخفّض نوعيّتها بتخصص مسرف، وقوّض تمامية الوجود الإنساني، إذ نزل به إلى مستوى وظيفي محض»، فما الذي كان من شأنه أن يقوله اليوم أمام هجمة التلفزة وانتشار الثقافات الجماهيرية وانعدام الخلق الابداعي الحقيقي؟، ثم ما الذي كان بإمكانه أن يقوله لو أنه ظل حياً حتى أيامنا هذه ليرى بأم عينيه سقوط الشيوعية الروسية التي حاربها طويلاً، ولكن حتى يرى - خصوصاً - ورثة النزعة السلافية وقد تحول العديد منهم، في روسيا أو في صربيا، إلى فاشيين وجلادين؟
> ليس في إمكاننا أن نجيب بالطبع على أي من هذين السؤالين. ولكن لئن كان في مقدورنا أن نجد أن برديائيف كان محقاً كل الحق ومتبصراً كل التبصر في نظرته إلى الكوارث التي ستترتب على انتشار أنماط هجينة من ثقافة الجموع، ولئن كان في وسعنا أن نقرر أنه هو الذي انتصر في المعركة الفكرية التي قامت بينه وبين الماركسية الروسية، فإن ما لا يمكننا أن نحسم فيه، عن حق، هو ذلك الإرث الذي خلفه في مجال النزعة السلافية الأرثوذكسية التي نافح عنها طويلاً وأورث في ذلك الكثير من أفكاره للكاتب ألكسندر سولجنتسين، ولكن أيضاً لرهط من الكتاب الذين يتزعم بعضهم اليوم أكثر الحركات الفاشية في روسيا تعصباً.
> مهما يكن، من العسير بالطبع اليوم الافتراض أن برديائيف يمكن أن يكون، هو، مسؤولاً عن ذلك الانحراف الذي وصلته النزعة السلافية. فهو مات في العام 1948 يوم كان كل شيء يشير إلى أن تلك النزعة قد اندثرت إلى الأبد وأنها - في أحسن أحوالها - تمثل نفحة ماض قد يثير خيال قصاص أو أديب يحن إلى نزعة روحية ما، لكنها «من المستحيل» أن تعود ذات يوم لتصبح برنامج عمل سياسي يغطي بعض أكثر الأيديولوجيات المعاصرة تطرفاً وتعصباً.
> يوم مات نيقولاي برديائيف كان خصومه الماركسيون الروس يعيشون أوج انتصاراتهم، وكان ستالين في ذروة مجده، ولكن في المقابل، كانت الفلسفة الروسية كلها قد أضحت في مهب العدم. أما برديائيف نفسه فكان يعيش في الضاحية الباريسية منذ ما يقرب من ربع قرن، كاتباً يحترمه الكثيرون، ويؤثّر في شخصانية إيمانويل مونييه ويسجل مع كبار المفكرين الفرنسيين، من جاك ماريتان إلى إتيان غيلسون صيحته المدوية الداعية إلى ولادة «عصور وسطى جديدة». لكنه كان في الوقت نفسه منفياً كف منذ زمن عن خوض أية معركة سياسية.
> ومع هذا حين كان برديائيف لا يزال شاباً في روسيا، كان ثورياً في الفكر وفي العمل السياسي. فهو المولود في كييف في 1874 من أسرة روسية نبيلة، كان في بداية عمله الفكري قد حاول المزاوجة بين الماركسية والمسيحية ضمن إطار مثالية فلسفية تنتمي إلى هيغل بعض الانتماء. وكان يبدو عليه واضحاً تأثير جيرانه، في قرية نفي إليها بسبب نشاطاته الثورية، وكانوا من الماركسيين الثوريين. بيد أن عودته إلى موسكو من منفاه الأول، جعلته ينجذب نحو التفكير الديني أكثر وأكثر ويخضع لتأثير الأرثوذكسية الروسية ويهتم خاصة بقراءة دوستويفسكي وتحليل نزعته الروحية. ولقد قاده هذا كله إلى نوع من النزوع نحو فكر أرثوذكسي ثوري جعله في وقت واحد معادياً للكنيسة (التي لم تحب ثوريته) وللماركسيين (الذين لم تعجبهم أرثوذكسيته)، خصوصاً وأنه - في مواجهة الماركسية -، كان يرى، كما يفيدنا كتابه «مغزى الفعل الخلاق، محاولة في تبرير الإنسان»، أن معنى الحياة ومغزاها لا يمكن أن يكمنا في طلب الخلاص الشخصي، بل كذلك في مواصلة الفعل الإلهي الخلاق.
> فالعالم بالنسبة إليه لا يزال قيد الصنع ولم يكتمل، بمعنى أن خلقه عملية متواصلة. في تلك السنوات الناضجة من حياته وضع برديائيف أفضل كتبه من «فلسفة الحرية» (1911) إلى «فلسفة دوستويفسكي» (1922) ثم «معنى التاريخ» و «فلسفة اللامساواة» و «روح دوستويفسكي» وهي كتب نشرها في المنفى بعد أن غادر الاتحاد السوفياتي نهائياً في 1922 هو الذي كان تعايش مع البلاشفة أربعة أعوام انتهت به إلى الهجرة. سافر برديائيف أولاً إلى برلين ثم توجه إلى فرنسا حيث عاش اعتباراً من 1924، وأصدر العديد من كتبه وكذلك مجلة اسمها «الطريق» تهتم بفلسفة الدين. ومن أبرز الكتب التي وضعها في فرنسا «مصادر الشيوعية الروسية ومعناها» و «الروح والواقع». ونذكر هنا أن السلطات السوفياتية لم تكف عن دعوته للعودة إلى روسيا على رغم معاداته لها، ولم يكف هو عن رفض تلك الدعوة.