القاهرة 13 ابريل 2017 الساعة 02:05 م
لو كان المسكوب لبنا لما بكينا.. لكن المسفوح دم.. دم أهلنا فى أقدس أماكننا.. لذا سوف نبكي.. ربما بعين واحدة، كى نرى بالثانية من هو يهوذا الذى يبيعنا بأبخس من ثلاثين فضة.. ولكى نبصر طريقنا نحو الخروج من هذا المستنقع!
لن نبكى مثلما بكى ملوك طوائف الأندلس عندما أضاعوا ما أضاعوا، ولكننا سنبكى مثلما طالبنا أمل دنقل كى لا نصالح.. لأنها أشياء لا تشترى.. ذكريات طفولتنا.. بين أحمد ومحمد ومحمود وبين جورج وجرجس وسيداروس.. وحسسنا معا وفجأة بالرجولة.. وأن «سيفان سيفك.. وصوتان صوتك.. وإنك إن مت: للبيت رب وللطفل أب!». لن يصير الدم المراق فى مار جرجس ومار مرقس ماء، ولن ننسى الأردية والأرضية والجدران والكراسى والمذبح الملطخ بالدماء.. لذا لن نصالح ولن نتوخى الدية!.. لن نصالح على الدم.. حتى بدم.. ولن نصالح ولو قيل رأس برأس، لأنه ليس كل الرؤوس سواء!!
فرأس الطفلة ذات الخمس.. ورأس الشاب ذى العشرين.. ورؤوس أهلنا الذين راحوا ليست كرؤوس أولئك الشياطين الذين لا يعرفون ربا ولا ذمة ولا رحما ولا رحمة ولا شهامة ولا نخوة ولا وطنا ولا أى معنى!
لن نصالح لأننا لن نساوى بين يد سيفه لنا وبين يد سيفه أثكلنا!
لن نصالح ولو حرمنا الرقاد.. ولن نصالح ولو قالوا إنهم تركوا السياسة وخلعوا بإرادتهم تاج الإمارة لأن الدم الآن صار وساما وشارة!
لن نصالح ولو قيل ما قيل من كلمات السلام، لأننا لن نستنشق النسيم المدنس، ولن نقتسم من قتلونا الطعام، لأنه ليس ثأرنا بل ثأر جيل فجيل، وغدا سوف يولد من يلبس الدرع كاملة ويستولد الحق من أضلع المستحيل!
لن نصالح إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة: النجوم لميقاتها.. والطيور لأصواتها والرمال لذراتها، والقتيل لطفلته الناظرة!
لن نصالح لأن الذى اغتالنا ليس ربا ليقتلنا بمشيئته..
لن نصالح فما الصلح إلا معاهدة بين ندين فى شرف القلب لا تنتقص.. والذى اغتالنا محض لص سرق الأمن والأمان وهتك العهد واستباح العرض والأشهر الحرم!
لن نصالح لأنه لا صلح مع الخائن.. مع يهوذا أى يهوذا.. فى أى وطن وأى عصر.. ولمن لا يعرفون يهوذا أعيد ما سبق وكتبته منذ عامين، فيهوذا هو ذلك الرجل من تلاميذ السيد المسيح له المجد، وقد تمكنت منه الخيانة، فسعى لتسليم المسيح إلى أعدائه.. أعداء الحق وخصوم الحقيقة.. نقرأ فى إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث عشر تصويرا للمشهد الذى بدت فيه خيانة يهوذا، وكيف كشفه السيد المسيح: «أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب إذ كان قد أحب خاصته الذين فى العالم أحبهم إلى المنتهي. فحين كان العشاء وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الأسخريوطى أن يسلمه. يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي».. ثم نقرأ فى الإصحاح نفسه «.. لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمنى فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فيمن قال عنه. وكان متكئا فى حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذى قال عنه..» «أجاب يسوع هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الأسخريوطي»!
لا بد أن نبحث عن يهوذا الذى يلوث ماء النهر والتربة والهواء ويسمم الزرع والضرع، كى تتوالد أجيال مريضة عليلة لا تنتج ولا تقدر على الدفاع عن ترابها الوطنى وعن الحياة!
ولا بد أن نبحث عن يهوذا الذى يدمر العملية التعليمية والبحثية، ويقدم المناهج والأفكار المسمومة لأطفالنا وشبابنا فيتخرجون فى الجامعات، ويحملون أعلى الدرجات، وهم لا يكتبون جملة عربية صحيحة ولا يجيدون لغة أخري، ولا يملكون أى قدرة بحثية خلاقة!
نبحث عن يهوذا فى مجال الخدمات العلاجية والوقائية، أى صحة الإنسان المصرى ذلك الخائن الذى ينتج دواء بلا مادة فعالة، ويترك المرضى بلا عناية، والمعدات يعلوها التراب أو يأكلها الصدأ والإهمال أو يرتشى مقابل حصول الناس على حقوقهم المشروعة.. وهكذا هو يهوذا فى الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات وكل مجال!
أما الأخطر فهو يهوذا الذى لا يتوقف عن تعميق وتوسيع خطر التفتيت والتفكيك، تفتيت الوطن إلى معازل منفصلة وفق الدين أو الطائفة أو المذهب، وتفكيك الوطن إلى جهات وأعراق وتمزيقه بالظلم الاجتماعى بدعوى حق رأس المال أن يكسب ما يشاء وفقما شاء دون أى التزام حضارى أو ثقافى أو اجتماعي!
والأشد خطورة هو يهوذا الذى يستحل لحم ودم أبناء الوطن، وفى طليعتهم قواتنا المسلحة والشرطة، وأيضا الأبرياء الذين يلقون حتفهم جراء تفجيرات القنابل فى الشوارع وعلى الكباري، وأمام المدارس والمستشفيات والبنوك ونقاط الحراسة!
هو يهوذا الذى يسهل إقامة الأنفاق تحت الحدود ويتستر عليها، وهو يعلم أنها خناجر مسمومة تمتد فى جسد الوطن، تمزق شرايينه وأوردته وأحشاءه، وهو يهوذا الذى يهمل ولا يتعلم الدرس ولا يستفيد من الخبرة، ويترك يهوذا الأكثر خيانة يشمت ويبتهج بأنه ينفذ الجريمة بالأسلوب نفسه مرة بعد مرة، نافذا من ثغرات الإهمال والاعتياد وعدم الانتباه.
ونحن نبحث عن يهوذا لا بد أن نلتفت إلى أنفسنا، فربما يكون داخل كل واحد منا يهوذا الخاص به.. يهوذا الذى يثبط همتنا من داخلنا فنعيق الآخرين النشطين عن أداء دورهم.. يهوذا الذى يحفزنا للتشكيك فى كل شيء والسعى لتشويه كل إنجاز، والتقليل من شأن أى جهد، وطمس ملامح المستقبل بالسواد الكالح الذى يحجب الضوء ويطمس البصيرة ويعمى البصر!