القاهرة 09 ابريل 2017 الساعة 11:26 ص
قبل ست دقائق من عشاء ترامب مع الرئيس الصيني، شي جين بينع، في منتجع مارالاغو في فلوريدا، أعطى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الضوء الأخضر في الثالثة فجراً بتوقيت دمشق، بقصف قاعدة الشعيرات وسط سورية ، مبررا القصف بثلاثة أهداف، هي: الدفع بالاستقرار الإقليمي .. والتقليل من إمكانية استخدام السلاح الكيماوي .. وحماية المدنيين السوريين من المجازرالكيماوية .. وبدء تحديد وتنفيذ المناطق الآمنة في سوريا !!
التبرير ليس كافيا "شافيا" .. ولكن ما كان كافيا وافيا، وزاد عن الحد الذي يتصوره عقل أي عاقل .. هو الموقف العربي، وربما لم يتصور "ترامب" نفسه، أن العدوان على دولة عربية بصواريخ هوك ، يمكن أن يفجر مشاعر الفرح والتأييد إلى هذه الدرجة "الشاذة" حتى تم التكرم عليه بوصف "الشجاع" ، وهي حالة مسبوقة من نفس الدول العربية ذاتها أثناء الغزو الأمريكي للعراق، ولكن تم حرمان الرئيس "بوش الإبن" وقتئذ من وصف الشجاع صراحة .. وهذا هو الفرق !!
والشاهد .. بعد أن أطلقت سفينتين حربيتين ” بورتر وروس” 59 صاروخ كروز "توما هوك" العابر للقارات من شرق البحر المتوسط على القاعدة الجوية السورية في منطقة الشعيرات ، حدث ما حدث داخل (الأمة العربية) .. والمصادفة أن أول استخدام أمريكي لصواريخ “توما هوك” كان ضد دولة عربية أخرى هي العراق في 17 يناير 1991 بـ ( 297 صاروخا ضد مصانع ومنشآت عسكرية ).. عموما .. ما حدث داخل الساحة العربية، من أفراح التأييد المطلق للعدوان الأمريكي على سوريا، ليس جديدا .. ولا يهمنا .. وقد وصفه الفيلسوف العظيم سقراط بقوله : " إن الألهة عندما تغضب على قوم ، لا تنتقم منهم، لكن تكلفهم هم أن ينتقموا من أنفسهم، ويسيؤا لأنفسهم " .. وهي حالة من ينقلب على نفسه، ويشارك في تدمير قدراته وطاقاته .. حالة فقدان وعي بأن الخطر ماثل عند حافة الأفق .. حالة عجز غريب وبكل ما يترتب على العجز من ركود وعطن !!
ولكن المهم ــ حقا ــ أن الهجوم العسكري الذي جاء بعد 76 يوماً على تولي "ترامب" الرئاسة، كشف دون تأجيل عن الوجه الحقيقي للرئيس الأمريكي .. وهنا أجدني مدينا بالاعتذار للصديق الأمريكي النبيل ــ المصري الأصل ــ المثقف واليساري السابق، وكان داعما لحملة هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية، علي الشريف .. فقد كان على حق .. وكنت على خطأ جلل .. فشل رهاني على الرئيس "ترامب" ، ويبدو أن توقعاتي كانت أقرب إلى "أضغاث أحلام" .. وكانت توقعات "الشريف" أقرب صدقا من "الواقع الأمريكي "..
لم ألتفت للنصف الآخر من الحقيقة ، في دولة عظمى تديرها "وكالة استخبارات" ديناصورية.. والقرار النهائي لها بزعم حماية الأمن القومي والمصالح الأمريكية العليا .. كان الرئيس الأمريكي الجديد "ترامب" يتصور أنه يمتلك المفاتيح، وعلى الأقل ليس وحده، وانما بدعم الأغلبية من مجلسي الكونغرس "الشيوخ والنواب" ، حتى اصطدم بقوة الدولة العميقة "C.I.A " .. ورأينا كيف حدث الخلاف ولأول مرة في تاريخ أمريكا بين الرئيس والوكالة الاستخبارية، وبدأ تسريب معلومات وأسرار ضد الرئيس، حتى أيقن أن هناك حقيقة غائبة عنه، وأن سلطة "الوكالة" من سلطة الدولة العليا، وعليه الإذعان للتقارير التي ترسم استراتيجية الأمن القومي الأمريكي .. هم يملكون المعلومات .. وأنت تملك أصدار القرار المطلوب وتنفيذه !!
قيل لترامب أن الاقتراب من روسيا خط أحمر .. ولذلك تراجع فورا عن المشاعر التي أبداها تجاه الرئيس بوتين وروسيا الاتحادية ، وبعد أن رأى كيف تتم صناعة المعلومات التي تضر
بصورته كرئيس للولايات المتحدة ارتبط فوزه بتدخل روسي !! وقيل له أن "داعش" أداة ومجرد وسيلة لأهداف أمريكية، "بصرف النظر إن كانت صناعتنا أو بيد غيرنا" فهناك دور مساعد لنا في مخطط داخل الإقليم العربي .. ولذلك لم يوجه الصوارخ لـ "داعش" كما سبق وحذر، وهدد ، وتوعد، ولكن وجه صواريخ كروز لقوة الجيش السوري الذي يواجه داعش والجماعات الإرهابية متعددة الجنسيات !! وقيل له أن الأحداث في سوريا تحت السيطرة منذ أن "فتحنا المنافذ في مدينة درعا جنوبي سوريا في شهر مارس 2011" .. ولذلك تراجع عن تصريحاته بشأن الرئيس السوري بشار الأسد، وعن كل تصريحاته للحل السياسي للأزمة السورية ، وسبق له أن انتقد الرئيس الأمريكي السابق "أوباما"، بتخاذله في الحل .. وقيل له إن "أوباما كان منفذا جيدا للتعليمات" ..
أخيرا تعلم "ترامب" الدرس.. وقيل إن جلسات سرية تمت في إحدى غرف البنتاغون مع قيادات وكالة الاستخبارات الأمريكية "لاطلاع الرئيس على الوضع الداخلي والخارجي"، وفي حقيقة الأمر "اطلاع الرئيس على الحقائق التي لا يعلمها وعليه الالتزام بها" ، لأنها من صميم الأمن القومي للدولة العظمى .. وهكذا فشل رهاني على "ترامب" .. وهكذا يمكن قراءة الخطوة الواسعة التي لم يجرؤ عليها "أوباما" بقصف سوريا بـ "صواريخ ترامب" .. وقراءة ما يمكن أن يحدث مستقبلا سواء بشأن القضية الفلسطينية ومسار عملية السلام .. أو حتى على مستوى العلاقات الثنائية ..
وهكذا أصبح "ترامب" رئيسا أمريكيا "حقيقيا" .. وليس رئيسا "مستقلا" برؤيته ، وحتى لو أراد أن ينحاز للعدالة الدولية ، وحتى بعد أن اكتشف لعبة "أطفال الكيماوي" في سوريا !!