القاهرة 04 ابريل 2017 الساعة 03:12 م
كنت عائدا من عملي بمجلة «نصف الدنيا» ذات مساء. من عام 1998 وفق الذاكرة، ووجدت سائق التاكسي يتمايل بطريقة
لافتة، فظننته «مبلبع شئ»، وكنا أعلى كوبري أكتوبر، وتصورت للحظة أنه قد يُضيِّعنا لأنه يغمض عينيه ويتطوح بانتشاء، فسألته: «فيه إيه»؟.. فاستغرب سؤالي وقال: «انت مش سامع يا أستاذ»!!.. وانتبهت لصوت ينبعث من مسجل السيارة يقول بشجن صافٍ:
.. دا القمر مسافر..
والسهر مسافر..
والفرحة مسافرة..
حتى الحزن سافر..
كل الناس مسافرة..
مسَّت معاني الكلمات قلبي بحنو يشابه الساتان.. وضاعف صدق الصوت إحساسي بلحظة الغروب الشجية، وطلبت إعادة الأغنية من أولها.. وسألته: «مين المُغنِّي ده؟!».. فأذهلني رده: «أحمد عدوية».. يا اللااااه... «هو صوته حلو كده»!!.. ويتمتع بكل هذا الصدق، والإحساس المرهف، ولمَ لم أسمعه باهتمام مرة واحدة!! لم ارتكبت هذا التقصير العجيب بحقه؟!، وسرحت مع الأغنية وظللت أستعيدها طوال الطريق، فهدهدت معانيها روحي، وأحسست بأني مدين باعتذار للفنان «أحمد عدوية» شخصياً.. ولابد أن أبلغه هذا بنفسي، وقررت أن أبحث عنه من صباح الغد، وأحاوره، وارتحت للفكرة، فأنصتّ لأغنيته باستمتاع، وردّدت معه بصوت مسموع، فازداد انتشاء السائق بمشاركته متعة الاستماع:
دقيت على الأبواب..
قالوا كفاية.. كفاية..
دا مفيش حد..
وناديت على الأحباب..
قالوا كفاية .. كفاية..
ومين هيرد..
آآه ..
.. دا القمر مسافر..
والسهر مسافر..
والفرحة مسافرة..
حتى الحزن سافر..
كل الناس مسافرة.. وهي قريبة مني ..
كل الناس في غربة.. ومين هيسأل عني..
آآه.. دا احنا قريبين.. وهم قريبين..
لكن من سنين.. سنين. كلنا مسافرين..
كلنا مسافرين.. كلنا مسافرين
...................
...................
أي شجن تنطوي عليه المفردات. وحين وصلت كانت الأغنية قد عبَّأت وجداني بحزن طيب.. وأنبل الأحزان ما يشعرنا بقيمة الأشياء، ويكسبنا وقارا رقيقا، وسماحة!!
العجيب أنني حلمت بالأغنية ليلتها في واقعة مغايرة لجو التاكسي تماما، كانت في جو يضم الوداع، والبهجة، وصحوت منتشيا بها، وتطوحت في سريري مثل سائق التاكسي، وعذرته، وابتسمت لفكرة أن تأثير الأغاني أحيانا يفوق «البلبعة». وأذهلني أكثر أنها من ألحان وكلمات العبقري «بليغ حمدي».. وأعجبتني جدا بصوته، وعرفت كيف حفَّظها لـ «عدوية» وشرَّبها هو بشجن صوته الخاص.
وفي طريقي إلى العمل، وضعت يدي بدقة على سبب «إعراضي» عن سماع «عدوية»، وتذكرت بوضوح مقالة للأستاذ «صلاح عيسى» في «أهبارية جريدة الأهالي» في عزّ مجدها، قال فيه ما معناه: «ليس أتفه من «أحمد عدوية» في الغناء إلا «أحمد رجب» في الكتابة، صاحب نظرية الفِلَّة في الفانلة، والدوبارة في العِبارة»، أو شئ من هذا القبيل على ما أذكر.
ولأننا كُنا متيمين بكتابات «صلاح عيسى»، ونسارع لاقتناء كتبه عموماً، وكان يدهشنا باب «الأهبارية» الأسبوعي، وظنّنا بسذاجة أن «السخرية من الناس شئ جميل»، وحاولنا تقليدها، فقد تأثرنا بالضرورة بآرائه في سياقات شتى، وكان «عدوية» ممن ظلمهم بسخريته، واستسهاله، وظلمناه نحن بانسياقنا، وتصديقنا لكل ما يقوله كُتَّاب اليسار. خاصة أولئك الذين حادوا عن مساراتهم، واستبدلوا قناعاتهم، وجعلنا ابتعادهم ذاك نعي بعمق أن «سقوط بعض الناس لا يعني سقوط المبادئ»، وامتلكنا منهجا نقدياً خاصا، يقيلنا على الأقل من خيبة التلقي المجانيّ، ويمنحنا القدرة على التأمل، والتفنيد، فاكتسبنا مرونة المراجعة الدورية. وكان «غناء عدوية»، وصوته، من تلك الأشياء التي راجعتها.
واكتشفت بقليل من التدقيق، أن جُلّ أغانيه تنتمي للطبقات الشعبية، وتعبر عنهم بشكل ما، لهذا ارتبطوا بها وأحبوها بسهولة، ولا تفقد أبعادها تلك لمجرد أنه غنّاها في ملاهي شارع الهرم، والفنادق الفخمة، وليست مبتذلة لأنها جاءت في حقبة السبعينات التي حمل فيها السادات على اليسار ، وهوجمت رموز الثقافة المصرية، وبدا أن مصابيح الوطن تنطفئ تباعاً. والأرجح عندي أن «عدوية» «اتاخد في الرجلين» بلا ذنب منه، بجانب أنه شخص عادي، طلع من تحت أنقاض الحياة، وخاض رحلة عصامية في الحياة والفن، ولا يعيبه بنظري أن «كائنات البترودولار» هجموا على الكباريهات وقت صعوده وتألقه، لأنه ظل يغني «يا أهل الله يللي فوق ما تردوا عللي تحت» بكل إيحاءاتها المضادة للطبقية، و«سلامتها أم حسن» الغارقة في أجواء الثقافة الشعبية، و«السح إدح امبو» التي أعجبتني معاني كلماتها ذات الأصل المصري القديم، و«زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة وتاهوا الحبايب.. زحمة ولا عادش رحمة.. مولد وصاحبه غايب..آجي من هنا .. زحمة.. أروح هنا.. زحمة.. هنا أو هنا .. زحمة.. زحمة وأنا رايح له.. وأنا في وسط الزحام.. عايز يسمع واقول له .. ما بيوصلش الكلام»، وهذه من الأغاني المعبرة عن «ضجيج الزحام» و«فوضى الاكتظاظ» التي يعانيها واقعنا الآن بكل مثالبها، وتداعياتها ثقيلة الوطء، والحقيقة أن الموسيقي «هاني شنودة» وضع لها لحنا يعكس الضجيج وتوترات الزحام التي لا يشعر معها أحد بالراحة أبدا.
وهنا لا أدافع عنه باعتباره مناضلا، فهو يقينا لم يمتلك يوما وعياً فكرياً، ولا موقفا سياسيا بحكم ظروفه كشخص حُرم من التعليم، وعانى كل ويلات الفقر في صغره، وكان طبيعيا أن يغني السهل، والرائج، ووجد ضالته في فن الموال الذي يمس قلوب الجماعة الشعبية، ويجسد آلامهم، ما يعني يقينا أنه بالفطرة امتلك حسَّاً فنياً مكّنه من اختيار الكلمات المعبرة عن مشاعره، ومعاناته الشخصية، وحياة الناس الذين خالطهم عبر حياته. وبسبب هذه الاختيارات القريبة للناس، وتلمس همومهم اليومية، أصاب نصيبا هائلا من النجاح، وأذكر أنه أول من وصل توزيع اسطواناته إلى مليون نسخة، وتجاوزها، وسعت إليه الأرباح الطائلة سعياً، وكانت مفاجأتي الأعمق وسط هذا كله اكتشاف طيبته الشخصية العجيبة، وخيريته تجاه أهله، وعموم الناس، ورأيت أفعالا إنسانية له هزَّت مشاعري مثل أغنيته التي سمعتها في التاكسي مصادفة.
رحَّبت الأستاذة «سناء البيسي» بفكرة محاورته من فورها، وحين سلمتها الحوار بعد الانتهاء منه فردته على خمس صفحات، واختارت له صورا مميزة، وكان من عاداتها المحمودة أنها تتدخل بنفسها في توضيب كل صفحات المجلة بحسها التشكيلي.
وفي الموعد، اصطحبت زميلي المصور البارع «محمد حجازي»، وذهبنا إلى بيته خلف «المحكمة الدستورية»، في المعادي، وعلى بابه استقبلتنا «سيدة قصيرة جدا»، يبدو أنها ولدت بإعاقات جسدية مُركَّبة وأليمة، لكنها ترتدي ملابس نظيفة جميلة، وتمتلك ملامح بشوشة، وتتحرك وتتحدث بثقة عجيبة، وقدّمت نفسها بأنها «مديرة المنزل»، ودفعني الفضول لسؤال حماته عنها تلك السيدة في لحظة ملائمة، فقالت:«أحمد ابني الله يكرمه.. صادفها في يوم برد قوي.. وكانت بتّكتِك في الشارع.. وجعانة.. ولما عرف إن ملهاش حد.. جابها.. ومن يومها وهي معانا هنا.. وبيسأل عن أكلها ولبسها قبلنا كلنا.. وخلّاها مديرة المنزل علشان يرضيها.. ويحسّسها إنها بتعمل حاجة مهمة.. وعمل لها مرتب شهري.. والحقيقة هي بتفهم وبتدبر أمور البيت بشطارة.. وما حدش يقدر يزعلها.. يبقى يوم ما يعلم به غير ربنا عند أحمد.. الله يكرمه». والحقيقة أنني لم أر منذ وعيت على الدنيا حماة تحب زوج ابنتها كما رأيت مشاعر هذه السيدة تجاه «عدوية».
و ربما هذا ما عبَّر عنه هو في مواله الشهير «عجبي عليك يا زمن»:
عجبي عليك يا زمن .. بترسِّي ناس عالبر
وناس غلابة.. رزقهم من خُرم إبرة يُمر
عايشين كده في المحن ولا شافوا لحظة تسر
وناس كده ألوان.. شبعان يُزقّ جعان
وناس تواصل ضحكها.. وناس بتمسح دمعها
وناش بتشرب عسل .. وناس بتشرب مُرّ
عجبي على فرعين كانوا أصلهم واحد
واحد غرز في الطين واللي طلع واحد
دا موزع الرزق ما بينساش ولا واحد
وهذه الحكاية دفعتني لسؤاله عن أهله، فتردد هو في الكلام، وتطوع من حوله بالإجابة، وقالوا أنه بنى لهم عمارة وجمعهم فيها، وواظب على مساعدتهم بشكل جوهري ودائم.
المدهش أكثر، أنه ساعد مئات الشباب على السفر إلى دول الخليج للاسترزاق، واستخرج لهم جوازات السفر على نفقته، ومنحهم ثمن تذاكر الطيران، مستغلا علاقاته المباشرة بالعرب الذين يسهرون أمامه في الأماكن التي يغني فيها، وساعد عشرات الشبان كذلك على استكمال تعليمهم، وبعضهم تخرج من الجامعة الأمريكية.
وهمست لي حماته أنه يهب لنجدة أي أحد يطلب المساعدة، ويطلب منهم دائما ألا يغلقوا باب البيت.
وكان الحديث معه لطيفا، فكلما استغرب سؤالا، أو أحس أن إجابته غير حاضرة، قال: «تعالي يا ونيسة شوفي الأستاذ بيقول إيه»، ونضحك جميعا بمودة، وتغطي حماته وجهها المضئ بطرحتها البيضاء وهي تضحك، وتضحك زوجته وهي تجيب بطلاقة على أي سؤال. وإذا استفسرت منه عن مقطع من أغنية له غنَّاها من بدايتها كاملة ليصل إلى المقطع، لأنه لا يتذكرها إلا بالاسترجاع الكامل.
وعن تأثير المال الغزير على حياته بعد المعاناة التي عاشها في طفولته، أكد أن المال «معمول لراحة بني آدم.. لكن الأهم إنه ما ينساش أهله وناسه.. مهما عملوا».. وغنى:
يا عين يا ليل .. يا عين يا ليل
يللي معاك القرش والأيام ضحكت لك
يللي معاك القرش .. خللي بالك.. دي الأيام ضحكت لك
وصرفته على ناس ما تسواش ضحكت لك
ودُست عالقُرب لما الغُرب ضحكت لك
بكره هتشبع ندم.. يللي الغرور ماليك
داير تبعزق وتصرف.. على الردي ماليك
وملت ويا الغلط لما الغلط ماليك
والدنيا ضحكت عليك وفاكرها ضحكت لك
آه.. آه .. آه.. إيييه.. إيييه.. إيييه
وتحدث بسلاسة، وحس عميق حين وصلت الأسئلة إليه أثناء الغناء، «لما تاخده الجلالة»، و«يقسّم بمزاج وسلطنة»، وقد لاحظت في أغلب أغانيه لاحقا أنه يمازح أعضاء فرقته الموسيقية غالبا، ليرفع معنوياتهم، ويحتشد بدوره، ويبدو أن مزاجه في ذلك اليوم كان رائقاً، فغنى لنا بلا تردد عددا كبيرا من مواويله بصوت شجي رأيته أكثر عذوبة بلا موسيقى ولا مؤثرات صوتية، كأنه كان يغني لنفسه، للاستمتاع، ولاحظت إعجابا كبيرا في عيني زوجته، وسمعت حماته تدعو له بصوت خفيض:
يا ليل يا ليل يا ليل يا ليل
ياما فيك مواجع ياليل.. يااااااليل
تخون عيشي ليه وانا بايدي خبزتولك
تخون عيشي ليه وأنا بايدي طعمتولك
وتبوح بسري ليه.. ما أنا سرك كتمتولك
وخاين العيش يا ربي اشتكيتولك
وقال إن بعض الكبار كتبوا ولحنوا له خصيصا منهم مأمون الشناوي، وبليغ حمدي، وسيد مكاوي، وآخرون. لكنه توقف كثيرا أمام محبته لـ «عبد الحليم حافظ» ومحبة العندليب له، وأنه كان يطلبه في بيته كثيرا ليغني لضيوف كبار عنده، وحكى أنه صادفه مرة في حفل، وغنى العندليب «السح إدح امبو»، وبحثت عنها فعلا لاحقا وسمعتها، وأعجبني أداء العندليب لها..
ويبدو أنه أدرك من حوارات سابقة، أن الرد بالغناء أفضل وسيلة للهرب من مأزق عدم قدرته على الكلام، وأنه لن يبقى طول الوقت يستدعي السيدة «ونيسة»، وكان في مواويله فعلا ما يكفيه للرد على كافة الأسئلة، فحين سألته بتردد عن مأساته الصحية المعروفة، والحقيقة أشفقت حين لاحظت أنه يجر قدميه وهو يمشي ويحدث صوتا مسموعا بنعليه، لكن روحية المعنوية كانت عالية، وغنى لنا ثانية برضا:
يا ليل يا ليل يا ليل.. يا عيني يا ليل
الصاحب اللي يخون عيشك لابد يوم تنساه
والخسيس خسيس مهما الزمان علَّاه
والأصيل أصيل يا عيني لو معدنه جاه
والأصيل أصيل يا عيني ومعدنه جاه
والدهب دهب لو في التراب تلقاه
وسألت زوجته عن حقيقة أنها كانت تأكل شيكولاته بعشرين جنيه في اليوم في السبعينات، وكانت العشرين جنيه وقتها تقريبا راتب شهري لبعض الموظفين، فقالت: «مش صحيح.. أصل الأستاذ مفيد فوزي كان عندنا هنا مرة.. وقدمنا له شيكولاته.. فسأل الحِتَّة دي بكام فقلت له بعشرين جنيه بدون قصد.. وسألني بتاكلي منها قد إيه في اليوم.. فقلت ممكن آكل واحدة طول اليوم.. قصدي.. إنها كبيرة لدرجة إنها تتاكل في يوم كامل.. لكنه كتب بعدين أنني آكل واحدة كل يوم.. يعني باكل شيكولاته بس بستميت جنيه.. ودا كلام مش معقول طبعا.. إحنا برضه نعرف نصون النعمة».
وظل ابنه «محمد»، وابنته «وردة»، يلتزمان الصمت طوال الجلسة، فقط يضحكان معنا، وسألته عن رأيه في غناء ابنه «محمد» فقال بلا تردد بقلب الأب: «هو أحسن مني بكتير»، وسألت ابنه فأجاب بتهذيب: «والدي هو الأصل.. ومالوش زي في الموال». وقالت وردة أنها تحب الغناء، لكنها لاتغني.
واقترح زميلي «محمد حجازي» أن ننزل إلى الشارع ليصوره أمام منزله، ووجدنا تحته «محل حلاقة»، فقال لنا «عدوية» أنه أجّر له المحل مخصوص ليستطيع تهذيب شعره في أي وقت بسهولة. وصوره «حجازي» على كرسي الحلاقة، وفي الشارع وهو يرفع يديه كما يفعل أثناء الغناء بعفوية مدهشة، وكانت الصور لا تقل أهمية وجمالا عن الكلام، وكل ما عرفته عنه من بساطة، وخفَّة ظل، وأيقنت أنه فنان شعبي لاقى نجاحا فائقا، وضاعف النجاح جمال طباعه الإنسانية، وألّا علاقة له بأخلاق الانفتاح، والفساد الذي اكتسح مصر، ولا ذنب له في تزامن نجاحه مع رياح «البترودولار» التي هبَّت على واقعنا، وفكَّكت الكثير من منظومات قيمه.
في طريق العودة شعرت تجاه الفنان «أحمد عدوية» بمحبة شخصية، وسعدت جدا بتغيير مفهوم خاطئ بشكل عملي وعلى أرض الواقع، وقلت لنفسي: «ولا كل من قال الموال»:
.. ولا كل من قال موال الناس تقوله الله يا أمير
دا أنا من صغر سنِّي وأنا بغنِّي لبنت الأمير
يادي الزمان الردي اللي كترت فيه المغنواتية
ولا كل من قال موال.. الناس تسمعه زي أحمد عدوياااااا