القاهرة 5ابريل 2017 الساعة 01:06 م
دائرة الحب
قصة: نور الهدى عبد المنعم
رغم ملابسه الفقيرة وبلوزات والدته المشجرة ذات الألوان المبهجة التي كان يرتديها باعتبار أنها شبابية دون أن يرى "بنس الصدر" التي كانت مدعاة للتندر والسخرية من كل زميلاتها، لم يكن الفقر مفتاح شخصيته، بل الكبرياء والاعتزاز بالنفس.
ذكاءه وتفوقه الدراسي جعل الجميع يلتفون حوله ويسألونه في الدروس التي تصعب عليهم، ولجمال وروعة خطه كانوا يطلبون منه أن يكتب لهم أسمائهم على الكراسات.
والده الأستاذ "نبيل" يعمل مدرسَا بالمدرسة نفسها إلا أن مرتب مدرس ابتدائي لا يكفي متطلبات أسرة مكونة من ستة أفراد الأبوان وأربعة أبناء، خاصة أنه كان يؤمن برسالة التدريس ويرفض الدروس الخصوصية.
نمت بينهما صداقة عميقة وهذا لا يحدث في المجتمعات الريفية أن تقام صداقة بين ولد وبنت خاصة في مثل هذه السن الصغيرة.
فالمكان مدرسة ابتدائي مشتركة تقع في قرية صغيرة بمحافظة الغربية، والزمان ثمانينيات القرن العشرين.
جمع بينهما التفوق الدراسي والهوايات الفنية والرياضية والمسابقات التعليمية التي جعلتهما يتنقلان معَا بين مدراس المديرية التعليمية والمحافظة، هذا بجانب المجموعات التعليمية التي يحضرونها معَا.
كانت تلاحظ نظرات وهمسات زميلاتها خاصة وهن يسخرن من ملابسه، وتلاحظ تمتمات لا تفهمها، إلى أن جاء يومَا دخلت "لمياء" الفصل فوجدت هذه العبارة مكتوبة على السبورة "أحمد يحب لمياء" على الفور توجهت لمياء لمكتب ناظرة المدرسة وقصت عليها ما حدث والعبارة التي وجدتها مكتوبة على السبورة، وبدلا من أن تأمر الناظرة بالتحقيق ومعرفة من قام بكتابة هذه العبارة ومعاقبته طلبت منها أن تمتنع عن التعامل معه نهائيَا، فكانت صدمة كبرى بمثابة طعنة كبيرة جعلتها تفقد الثقة في كل من حولها، والكفر بفكرة العدل التي كانت تؤمن بها، فهذه الناظرة مثلها الأعلى في كل شئ، تقف مع الظالم ضد المظلوم، ومما لا شك فيه أنها بذلك تؤكد على صحة هذه العبارة بموقفها السلبي هذا، رغم أنها قالت لها: نعرفك جيدَا ونعرف أخلاقك وتفوقك، وكذلك نعرف "أحمد"، لكن ما أقوله لك هو الصواب.
كان هذا الموقف نقطة تحول كبيرة في حياة "لمياء" التي عُرفت بخفة دمها وشقاوتها ومشاركتها في جميع الأنشطة، فاعتزلت كل شئ واكتفت بمذاكرة دروسها فحسب مع تنفيذ تعليمات الناظرة بالابتعاد عن "أحمد"
أقامت المدرسة احتفالا كبيرَا بمناسبة استرداد سيناء يوم 25 أبريل 1982، ولأول مرة تعتذر لمياء عن المشاركة في احتفال تقيمه المدرسة، فشعورها بالظلم جعلها تفقد حيويتها ونشاطها بل وتراجع مستواها الدراسي، بعد أن فقدت أكثر الناس قربَا إلى نفسها.
الأستاذ "نبيل" يعشق تراب مصر إلى حد لا يمكن لأحد أن يتخيله، ويترجم هذا العشق بتفانيه في توصيل رسالته المقدسة لتلاميذه، فلم يكتف بتلقينهم المواد الدراسية فحسب، بل ينقل لهم هذا العشق، واعتبر عودة سيناء عيدَا خاصَا به، وليس عيدّا وطنيَا فحسب، حكى لتلاميذه عن أهمية موقع سيناء الاستراتيجي على مر التاريخ، وفطنة محمد علي له منذ عام 1810 حين أنشأ محافظة العريش، وحرصه على حمايتها من الخارج فوضع تحت تصرف المحافظ قوة عسكرية لحماية حدود مصر الشرقية، وقوة نظامية لحماية الأمن الداخلي، كما أنشأ نقطة جمركية ونقطة للحجر الصحي.
كما قص عليهم قصة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956الذي تكون من انجلترا وفرنسا وإسرائيل واستيلاء إسرائيل على سيناء، وقرار مجلس الأمن برد جميع الأراضي المحتلة وعدم شرعية الهجوم على مصر، لكن إسرائيل قامت يوم 5 يونيه 1967 بشن هجوم على مصر وسوريا والأردن، واحتلت سيناء والجولان والضفة الغربية للأردن.
حدثهم أيضا عن عظمة الجيش المصري الذي استطاع أن يعبر هذه الأزمة رغم فداحة الخسارة بصموده أمام القوات الإسرائيلية ودخوله حرب الاستنزاف، ونجاحه في أعظم حرب شهدها التاريخ وانتصاره في 6 أكتوبر 1973.
رغم صغر سن "لمياء" إلا أن استرداد سيناء كان بمثابة درس جديد تتعلمه من الحياة فمهما طال عمر الظلم لابد أن ينتهي، استعادت نشاطها وحيويتها، في تحصيل المواد الدراسية فحسب لأنها أصرت على الاستمرار في تفوقها، لكن مشاركتها في الأنشطة يعني تعاملها مع أحمد، خاصة بعدما تأكدت أن مشاعرها تجاهه لم تعد محايدة.
جاءت الدعوة لتعميير سيناء بمثابة طوق النجاة الذي أُلقي للأستاذ "نبيل" فكان العرض مغر من جميع الجهات حيث سيتم توفير مسكن له ويتقاضى أجر أفضل مما يتقاضاه لمساهمته في هذا المشروع الوطني، كما أنه كان يرفض إلحاح زوجته الدائم عليه بالسفر إلى الخارج، فوجد في سيناء تحقيقَا لرغبة زوجته وزيادة في دخله الذي سيضمن له ولأسرته عيش كريم، على أرض الوطن.
صدمة أخرى تعرضت لها "لمياء" حين علمت بأن الأستاذ "نبيل" الذي يمثل لها القدوة والمثل الأعلى والأب الذي عوضها الله به بعد وفاة والدها، سيسافر إلى سيناء وغالبَا سيصحب معه كل أفراد أسرته، فتحرم حتى من رؤية أحمد عن بعد.
ظلت "لمياء" قلقة حتى علمت أن الأستاذ "نبيل" سيذهب بمفرده أولا ثم يلحق به باقي أفراد الأسرة في العام المقبل.
انتهى العام الدراسي وعاد الأستاذ "نبيل" لقضاء الإجازة الصيفية مع أولاده ويبدأ في إجراءات نقلهم إلى سيناء لكن زوجته رفضت، وأصرت أن تبقى وأولادها بجوار عائلتها وأن يحضر هو في الإجازات، لم يفلح معها التهديد بالزواج من أخرى، وتزوج بالفعل الأستاذ نبيل من امرأة بدوية من قبيلة من أكبر قبائل سيناء، وهي سيدة عاقر أحبت أولاده وزوجته فتذهب في الإجازات محملة لهم بالهدايا، وتعجب الجميع لهذه العلاقة الغربية التي نشأت بينها وبين زوجته الأولى.
بعد سنوات التقيا أحمد ولمياء في الجامعة، لم تتغير ملامحهما، وأفصحت عيونهما عن مشاعر كل منهما تجاه الآخر، قصة الحب التي نشأت بينهما دون أن يعلما وهما طفلين في المرحلة الابتدائية، الآن يباركها الأهل، وكانت هدية الأستاذ "نبيل" شبكة قيمة للعروسين، فبعد زواجه لم يعد ضيفَا على سيناء بل واحدَا من أبنائها، وبمساعدة زوجته الجديدة استطاع أن يمتلك مشروعَا حلم به سنوات طويلة، مزرعة بها كل خيرات الأرض من خضار وفاكهة وعسل ....
بعد التخرج قرر "أحمد" أن يكمل مشوار أبيه الذي بدأه في سيناء، بكل عزم وإصرار قررت "لمياء" أن ترافقه الرحلة من البداية حتى لا تقع في الخطأ الذي وقعت فيه حماتها، التي صرحت لها سرَا بشعورها بالندم.