القاهرة 23 مارس 2017 الساعة 02:15 م
هل هناك تراتبية يمكنها أن تكون علمية تتعلق بمنظومة الفضائل، يمكن الإتكال عليها والعمل بموجبها؟ هذا السؤال الذي كثيراً ما شغل علماء الأخلاق والفلاسفة عموماً، وحتى منذ سقراط/أفلاطون، كان من الطبيعي له أن يشغل كذلك واحداً من أكبر فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين: الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش. ومن هنا لم يكن غريباً من ناحيته أن يصدر في العام 1949، أي في إوج تألقه الفلسفي، واحداً من كتبه الأساسية «دراسة في الفضائل»، ليعتبر من فوره، من ناحية نصاً فريداً في فلسفة القرن العشرين، ومن ناحية ثانية، نصاً طبيعياً في سياق فكر هذا المفكر، الفرنسي تماماً على عكس ما قد يوحي به اسمه، الذي ما توقف أبداً طوال عقود من السنين عن تفكير المسألة الأخلاقية. ولئن كان جانكلفيتش قد ساهم أيضاً في تفكير المسائل المتعلقة سماه، استناداً الى أستاذه برغسون، الفلسفة الأولى، فإن دراسة الفضائل لديه، وربما تصنيفها تراتبياً أيضاً، لا ينفصلان عن ذلك الإهتمام.
> بالنسبة الى جانكلفيتش كان المنطلق من المطلب الإنساني الأول: حبّ الغير. وذلك لأن هذا المطلب نفسه يتضمن جذور كل أنواع الفضائل. ومن بين هذه الأخيرة يخص المفكر فضيلة الشجاعة بمكانة متقدمة. فهي كما يؤكد «فضيلة البدء» تماماً كما أن الإخلاص هو فضيلة الاستمرارية والتضحية فضيلة الختام. هذه الفضائل الأساسية الثلاث ومن دون أن تكون بينها تراتبية واضحة، يراها المفكر ثلاث علامات تشير الى الطريق، طريق الإنسان الفضيل، من بداية وعيه الى نهايته. وهو يقول لنا أن الإخلاص إذ يَمْثل «بين الفضيلتين الحاسمتين، التضحية والشجاعة على اعتبار الأولى تستأنف فيما الثانية تمثل نقطة الإنطلاق، تنتشر بوصفها ديمومة في الحيز الفاصل بشكل دائم والمتواصل بين التأزمين الأساسيين». حيث أن فضيلة الإخلاص إذ تكون بالضرورة ماثلة حتى الموت، الذي هو خاتمة كل شيء، تدنو من أن تكون نوعاً من اختيار بدئي تتطلبه الشجاعة. فالإنسان يحتاج الى الشجاعة كي يكون مخلصاً، ما يعني «أن الإخلاص وفي كل لحظة بشكل متواصل، تتطلب بدايات صغيرة تتسم بالشجاعة». وعلى هذا النحو، بين نزوات التغيير وإغراء النسيان والجحود ومحن الألم، لا يعود الإخلاص سوى الشجاعة المتواصلة أو تواصل البداية.
> وبعد ذلك، كما يفيدنا جانكلفيتش، يأتي الصدق، هذه الفضيلة التي تتسم على الدوام بقدر كبير من الجمال والطيبة والتطلّب: فالصدق بوصفه فضيلة أساسية كبرى بدوره، لا يرتبط بأية تصنيفات محـــددة يصبح فضيلاً بفضلها، بل على العكس من هذا، إنه هو الذي يسبغ القيمة على مسلك لا يمكنه بمفرده أن يكون ذا قيمة خاصة. أما بالنسبة الى الإنسانية والتواضع، فإن مفكرنا يرى أنهما مندمجان أصلاً في الإخلاص نفسه، على اعتبار هذا الأخير إنما هو بالتحديد المعرفة الواعية بحدود الكلمة التي تعنيها. ويذكرنا جانكلفيتش هنا بأن اللاهوتيين لم يكفوا عن اعتبار التواضع فضيلة الفضائل وأساسها. ولكن الكاتب يرى على العكس من هؤلاء، أن التواضع ليــس فضيلة المستوى الأعلى بل المستوى الأدنى فيما يعتبر البرّ تتويجاً لهذا الصرح كله، بمعنى أن في هذه الفضيلة الأسمى تنخرط كل الفضائل الأخرى انطلاقاً من انها تتطابق مع المطلب الوحيد غير المشروط، الكافي ذاته في ذاته، الذي هو مطلب حبّ الآخر.
> لو كان فلاديمير جانكلفيتش قد عاش في زمان فرنسي غير الزمان الذي عاش فيه، لكان من السهل له أن يعتبر في زمنه «ضمير فرنسا الأخلاقي الحي». ولكن هل كان يمكن أن يحمل مثل هذا اللقب مفكر عاش النصف الأول من حياته في ظل برغسون، ثم في صحبة جان فال وغاستون باشلار، ليعيش النصف الثاني منها، في ظل ميرلو بونتي وجان - بول سارتر؟ لقد كان الإنسان ومصيره وأخلاقه، الأمور التي تشغل بال جانكلفيتش وتشغل فكره وفلسفته. ومن هنا كانت غربته الكلية عن القرن العشرين الذي عاش فيه باحثاً عن سر الكينونة وجمالها، عن معنى الحياة وعن معنى الموت، عن حضور الوعي، ذلك الوعي الذي كان يراه أسيراً عسيراً على الإدراك ولكن لا مفر من وجوده في الوقت نفسه، وعن الحضور الحقيقي للشر كما للحب في كوننا.
> كل هذا كان من شأنه أن يجعل من جانكلفيتش فيلسوف الانسانية الكبير لو انه عاش، مثلاً، في القرن الثامن عشر او خلال عصر النهضة. ولكن إذ عاش جانكلفيتش في زمن تشييء الانسان والقيم المضادة وانتصار الآلة والأتمتة، وسؤدد النسبية حتى في المجالات الأخلاقية، وبخاصة في المجالات الأخلاقية كما يقول كثيرون، كان من الطبيعي لهذا الفيلسوف الفرنسي، كان من الطبيعي له أن يبدو وكأنه يقف خارج عصره، منتمياً الى عصور أخرى.
> والحال ان جانكلفيتش لم يكن غريباً عن عصره فقط بفعل موضوع فلسفته بل كذلك بفعل أسلوبه الذي كان يشدد على جزالة اللغة وحسن الأسلوب من ناحية، ومن ناحية ثانية، بفعل اهتمامه المفرط بالموسيقى، على غرار أعظم فلاسفة العصور الغابرة. وفي هذا المجال تعتبر كتبه الموسيقية، وبخاصة منها تلك التي وضعها عن «موريس رافيل» (1939) و «غابريال فوريه والألحان» (1938) من أفضل ما كتب عن هذين وغيرهما.
> ولد فلاديمير جانكلفيتش في آب (اغسطس) 1903، ورحل عن عالمنا يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1985. وهو كان عند بدايات القرن العشرين تلقى دراسة كلاسيكية تفوّق فيها حتى حصوله على الدكتوراه، ثم اتجه الى براغ حيث درّس الفلسفة واللغة في المعهد الفرنسي. أما مساره الحقيقي كأستاذ جامعي وفيلسوف فلقد بدأ في العام 1936 في مدينة تولوز، حيث عُرف منذ البداية بأنه تلميذ لبرغسون، وانه يسعى الى أن يجعل من نفسه فيلسوف الأخلاق والوعي الانساني في وقت كانت تسيطر، على الفكر الفرنسي، نزعة كانطية واضحة. وإضافة الى تأثّره ببرغسون، انطبع جانكلفيتش عميقاً بمسيحية كيركغارد، وإن ظل بعيداً من وجوديته التي فعلت فعلها في الوقت نفسه لدى مفكرين من امثال غابريال مارسيل وجان - بول سارتر.
> مهما يكن فإن أول كتاب وضعه جانكلفيتش كان عن استاذه الكبير برغسون. وهو اتبعه بعد ذلك بسلسلة من الكتب راح يصدرها اعتباراً من 1933 وفي أولها «الضمير المتعب» ثم «أوديسة الوعي في فلسفة شلينغ الأخيرة» (1933) و «السخرية والضمير الحي» (1939) و «البديل» (1938) و «الكذب» (1943) و «الشر» (1947)، وصولاً بخاصة الى كتابه الأهم والضخم «دراسة في الفضائل» (1949) الذي أتى اشبه بتلخيص لأفكاره الأخلاقية، حيث عالج فيـــه، ومـــن موقع انساني صرف، مجمل المسائل التي كانت الفلسفة الحديثة قد «نسيتها» منذ زمن، مثل التسامح والكذب والحب. وكل هذا مـن موقــع يربط الأخلاق باللحظة الراهنة ويحاول بالتالي أن يــربط الفلسفـــة كلها بما هو ملموس وراهن، على عكس ما كان يتبدى لدى أصحــاب النزعات الثقافوية النخبوية وأصحاب التوجهات التهكمية من الذين كان أهمّ ما يهمّهم - وفق تحليله لهم - إيجاد وسيلة فلسفية لرفض وجود الزمن السيال والوجود الزمني نفسه.
> ولعل أهم ما ميز تعامل جانكلفيتش مع أمور كهذه، انه أبداً لم يقع في فخ التجريد والإطلاق الذي كان من شأنه أن يقع فيهما أي فيلسوف آخر يحاول أن يعالج مثل هذه القضايا. فالحال أن هذا الفيلسوف، المأخوذ بحيوية الحياة وبسحر الموت في الوقت نفسه، كان لا يكف عن رصد زمنه ومراقبته وكان يصر على أن تكون كل كتاباته وكل دروسه الجامعية - هو الذي كان استاذاً جامعياً مبرزاً، أولاً وأخيراً -، منطلقة من لحظة الزمن الراهن. ومن هنا ما كان يبدو على دروسه الجامعية المنطلقة من تهويم الروح، من ارتباط مباشر بلحظات الفلسفة الأغريقية الانسانية التي كانت تتجلى بخاصة في ارتباطها الفاعل بحركية المجتمع من حولها. ولعل هذا ما جعل جانكلفيتش يصر دائماً على ألا يكون له منهج محدد، أو ألا يكون رئيساً لتيار، وأن يقف في منأى عن السجالات الفكرية المعاصرة. كان يصر على هامشيته، ومن هنا حين توفي اواسط 1985 بدا وكأنه بات نسياً منسياً منذ زمن طويل.