القاهرة 20 مارس 2017 الساعة 01:07 م
لا أعتقد ان هناك كاتبا يمكن ان يعتزل الكتابة او يرفع الراية البيضاء اوحتي يستأذن في الانصراف كما فعل كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل وتراجع عن
قراره بحوارات تليفويونية كنا ننتظرها علي شوق حتي نسترشد برأيه ووجهة نظره في الكثير من الاحداث.
لذلك انا لم اصدق كاتبنا الكبير محمد العزبي حين قال لي منذ ثلاثة اسابيع بعد ان ابديت قلقي عن اعتذاره عن عدم الكتابة بقوله: انا لم اعتذر عن عدم الكتابة هذا الاسبوع فقط لكن اعتذرت عن عدم مواصلة الكتابة بشكل دائم... اخذت كلام الاستاذ العزبي بمحمل الهزار وقلت ضاحكا: ومتي ستعود؟... رد بحسم لم اعهده فيه من قبل: لن اعود... والبركة فيكم تكملوا المشوار.. لم اناقشه كثيرا عن الاسباب التي ساقها لي ولبعض الاصدقاء مثلما قالت لي الصحفية المخضرمة تحية عبدالوهاب ان السبب يرجع للظروف الصحية لانني قد استشعر اسبابا اخري قد تكون حقيقية او غير حقيقية وراء قراره الذي اتخذه من قبل وعدل عنه... ضحكت معه قائلا: باذن الله ح ترجع لينا !!
قال: الافضل ان يقولوا لماذا لا يكتب محمد العزبي عن ان يقولوا لماذا يكتب محمد العزبي؟
قلت: لو طبقنا ما تقوله لحجبت نسبة غير صغيرة من الكتابات... .قال ضاحكا: انا م قلتش حاجة يابيه !!... .اضفت: حرام عليك يا استاذ تسيبنا لوحدنا.. احنا بنركن عليك كل اسبوع بعد ان حرمتنا من الكتابة اليومية... قلتها غير مجامل لانني منذ سنوات وبالتحديد منذ عام 1987 كنت افتخر انني انتمي لجريدة اسسها جمال عبدالناصر وادارها انور السادات ورأس تحريرها طه حسين وكامل الشناوي وفتحي غانم ومصطفي بهجت بدوي وتعاملت مع محفوظ الانصاري واستكتبت فيها يحي حقي واسامة انور عكاشة الذي اعدته للكتابة الروائية والقصصية بعد ان هجرها وهجرته لعشرات السنين بعد ان اختطفه منها فن السيناريو التليفزيوني وقدمت فيها شبابا بجوار عبدالرحمن الابنودي وسيد حجاب وعبدالحكيم قاسم وابراهيم اصلان وخيري شلبي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وقائمة تمتد لنحو 30 عاما في بلاط صاحبة الجلالة... كنت افتخرانني صادقت وصاحبت زملاء مثل عصمت حامد وجمال كمال ومحمود نافع ومحي احمد علي ومحمود فرج والسيد عبدالرؤوف وتعاملت مع ناصف سليم ومحمود معروف وعبدالرحمن فهمي وسمير فريد وماجدة موريس وجمال هليل
وقائمة لا تنتهي...وكان حظي رائعا انني عاملت وتعاملت مع كبار في قامة كامل زهيري وجلال السيد وبدوي محمود ويوسف ادريس واحمد بهاء الدين ويوسف ادريس ونجيب محفوظ ومحفوظ عبدالرحمن وسعد وهبه وفتحي غانم الذي اشتبكت معه في مؤتمر ادباء الاقاليم في منتصف التسعينات في العريش حين اراد ان يفرض رأيه علينا بوصفه رئيسا للمؤتمر بعدم اصدار التوصية السنوية الثابته برفض كافة اشكال التطبيع مع العدو الصهيوني.. وقلت له: رأيك يمثلك ولايمثل ادباء مصر واحتكمت للتصويت فزلزل تصفيق الادباء العريش كلها وليس قاعة المسرح الذي تقام به الجلسة فقط... قلت ذلك وجلسنا علي العشاء معا وحاول ان يقنعني وفشل.. وعندما علم انني صحفي الجمهورية ابتسم وابتسمت قائلا: عرف ياريس انك احد اركان تحرير وادارة الجمهورية في احد عصورها الذهبية لكن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية... وعدت وكتبت ما حدث وفوجئت بالاستاذ ناجي قمحة مدير التحرير يبحث عني . فلم تكن وقتها ظهرت التليفونات المحموله بعد قائلا: سميحة توفيق دايخة عليك... قلت: لماذا؟... قال: عايزه تشوفك... اتصلت بها قالت طول الجمهورية مافيها شباب زيك تبقي مصر بخير.. والسبب كان ما كتبته عن معركة التطبيع بين الادباء وفتحي غانم... قلت الجمهورية مليانة يا استاذة... والتقينا وكان حوارا سياسيا وثقافيا وفنيا نادرا لم يكن للنشر!!
¼ قلت لبعض الاصدقاء والزملاء يوما ما انني افخر انني اكتب مقالا بجوار مقالات كامل زهيري و محفوظ الانصاري ومحمد العزبي ومحمد ابو الحديد وعبدالعال الباقوري وسعد هجرس..الخ لانني اسرق جمهورهم الي مقالي وبغياب هؤلاء لن اجد انا أو غيري قارئا لنا والكبار لايقلقهم ان يكون الي جوارهم كبارا... اعدت ما قلته منذ سنوات علي اسماع الاستاذ العزبي وهو يبلغني قرار اعتزاله منذ نحو 3 اسابيع والذي لم اصدقه حتي الآن فقال: البركة فيكم ومش عايزك ينتابك الغرور لانك بتكتب كويس مع آخرين... ولانني علي يقين من انه لا يوجد كاتب حقيقي يمتنع بقرار منه عن الاستمرار في الكتابة خاصة لو كان في قامة الاستاذ العزبي... نعم قد تكون الحالة الصحية سببا عارضا لكن منذ متي منعت الحالة الصحية كاتبا او فنانا عن الابداع وتحضرني عدة وقائع اضافة الي واقعة الاستاذ هيكل التي ذكرتها في بداية المقال..
- ** الواقعة الاولي: فنية وتخص رائدة المسرح العربي والمصري الفنانة الكبيرة امينة رزق فقد التقيت معها وهي في حالة صحية سيئة ووصلت الي درجة ان البعض كان يسندها للدخول الي خشبة المسرح وحين تدخل وتواجه الجمهور تفاجيء نفسها قبل الجميع و تنقلب الي مارد.. ويجلجل صوتها الواهن الذي كنت تسمعه بصعوبة وانت لاصق اذنك في فمها ليصبح هديرا يهز اركان المسرح وتصبح اجمد من ابنة العشرين رغم تجاوزها الثمانين...بالاضافة طبعا الي انها تكون اول الملتزمين في الحضور قبل موعد التصوير او رفع الستار باكثر من ساعتين متفوقة بمراحل علي الشباب.
** الواقعة الثانية تخص كاتبنا الراحل حافظ محمود نقيب الصحفيين وواحد من كتاب الجمهورية الذين فتحت عيني علي كتاباتهم حتي التحقت بالعدد الاسبوعي.. وشاهدت التزامه في الحضور اسبوعيا في الثامنة صباحا علي ما اذكر كل يوم احد لتسليم مقاله الاسبوعي الذي ينشر يوم الخميس وتضبط ساعته علي دخوله لمكتب الاستاذ محمد ابو الحديد الذي كان يشغل منصب مدير تحرير العدد الاسبوعي للجمهورية ليشرب القهوة ويسلم مقاله.. ولم يتخلف يوما ولم يتأخر عن موعده رغم تجاوزه السبعين بسنوات كثيرة..
** الواقعه الثالثة وتخص كاتبنا الراحل الكبير احمد بهاء الدين وكانت توزن كلماته بميزان من ذهب وحين منع مقاله ذات يوم من الاهرام واضطر لنشر مضمونه في اعلان مدفوع لم يصمد كثيرا حتي دخل في غيبوبة احتجاجا وتمردا ورفضا.
** الواقعة الرابعة و تخص اديبنا الكبير نجيب محفوظ حين طعنه شاب مغيب الوعي . وتركت الطعنة اثرا لايندمل ابدا وهي حرمانه من نعمة الكتابة بيده . سامح الطاعن علي طعنته ولكننا لم نسامح الطاعن في حرمان نجيبنا من الكتابة . ولم يستطع الاستاذ نجيب الصمت والاعتزال وعدم الكتابة فمرن نفسه ان يملي ما يريد علي اخلص سكرتير له ¢عم صبري¢ وظل لفترة طويلة يملي علي عم صبري مايريد ولم ينس الكتابه بيده المطعون عصبها ونقش الكتابة احيانا بشكل يهزم الطاعن وانصاره ويعطينا درسا بان الكاتب لا يمكن ان يعتزل الكتابة.
** الواقعة الخامسة حدثت في اجتماع الجمعية العمومية الاخير لنقابة الصحفيين الجمعة قبل الماضية حين فوجيئ الجميع بكاتبنا الكبير لويس جريس وهو يستند علي عكاز رباعي وينقل جسده بصعوبة بالغة ويخترق الزحام بصعوبة اشد ليسجل اسمه في كشوف الحاضرين لجمعية لم تكتمل وخرج وعلامات الاسي علي وجهه لعدم تقديرنا له بعدم اكتمال الجمعية لتكاسل بعضنا او لمحاولة بعضنا الآخر عرقلة اكتمالها.
** اعود الي الاستاذ محمد العزبي صاحب الاسلوب الساخر والقلم الرشيق الذي يصل في سخريته الي حد نصل الخنجر وكلماته الكاشفة كبريق السيف في ضوء الشمس واعترف انني من المحظوظين لانني تعاملت معه من خلال مكالمات هاتفية شبه اسبوعية واكثر احيانا بالاضافة لتسجيل اكثر من 3 ساعات فيديو معه في حوار جامع نادر... عرفته عن بعد وتتلمذت علي كلماته ومقالاته في العدد الاسبوعي التي كانت تنشر اسبوعية بعنوان ¢عيون¢ وسافرت معه علي كف عفريت الي العديد من البلدان في كتابات صحفية هي في الحقيقة تنتمي الي ادب الرحلات والكتابة الادبية التي اقترب منها رغم قسوة معايير الكتابة الصحفية... حكي لي علاقته بعصر جمال عبدالناصر وكيف ترك دراسة الطب بسبب عيون صاحبة الجلالة وعلاقته بعصر انور السادات وعصر مبارك وزمن الاخوان وايامنا قائلا: ان علاقة الصحافة بالسلطة دائما بين الشد والجذب وان عصر الرقيب الجالس علي نفوسنا في عهد عبدالناصر.
ويبقي الجزء الانساني والمشاعر الدافئة التي يوزعها الاستاذ العزبي يوميا علي كل الاجيال فتجده يبحث عن هاتف شاب صغير او كاتب متميز ليتصل به ليخبره عن اعجابه بما كتب... وما يفعله الاستاذ العزبي كثيرا جعلني افخر به لان في الجمهورية كاتبا مثله لا يشجع فقط ابناء الجمهورية لكن يوزع محبته ومشاعره علي ابناء الصحف الاخري وهكذا الجمهورية تصنع النجوم وتضع الشباب علي حافة المجد الصحفي حتي اشعار آخر.. وفيها تعلمنا ان نصنع مكانتنا الصحفية خارج جدرانها بذراعنا وقلمنا بعيدا عن الشلل ومسح الجوخ... كنا نقدم اسمنا علي الجمهورية حين نقدم انفسنا في المنتديات العامة في حين كان بعض الزملاء الآخرين يقدمون اسم جريدتهم علي اسمهم في اشارة بالغة اننا نصنع انفسنا بمجهودنا بينما يصنع البعض اسمه باسم جريدته الكبري !!
** كتب الاستاذ محمد العزبي في اخر مقال له قبل اعلان توقفه عن الكتابة ولن اقول اعتزاله: حاولت طوال سنوات عمري ان اكون منحازا للبسطاء لعلي أدخل الجنة.. ولكن هل يدخل الصحفيون الجنة. أم أن الصحف والتوك شو وما أشبه لا تصدر إلا في نار جهنم وبئس المصير؟!... قلت للاستاذ العزبي: يعني تقصد لن يدخل الصحفيون الجنة؟... قال: نعم... قلت ليه؟... قال ضاحكا لان الجنة ليس بها صحف...قلت ضاحكا لانه ابن نكتة: ونسيت ان هناك صحف ابراهيم وموسي... قهقه... اضفت بسرعة: تفتكر من سيصدرهذه الصحف ومن سيعمل بها اذا كنا جميعا سنكون في جهنم !!؟
انتهت القفشة لكن لم يصمت الوجع.. خاصة في قوله ¢حاولت طوال سنوات عمري ان اكون منحازا للبسطاء لعلي أدخل الجنة... ويبقي السؤال: الي من تترك الانحياز للفقراء اذا كنت ستتخلي عنهم ولماذا تصر بمحض ارادتك ان تضع القلم في الجراب وتترك ميدان معركة رغم صراخ جنودها وهم في اشد الاحتياج اليك قائلين: لا تتركنا وحدنا!!