القاهرة 22 فبراير 2017 الساعة 01:58 م
أحمد أبوخنيجر
رغم وحدتي، فإن روحي خفيفة. أشعر بها مُحَلقة حول البيوت والزروع والتلال المحيطة بالواحة، القمر الخريفي لطف الأجواء، بلمسة من سحر كأنما يشاركني لحظتي هذه. تمددتُ فوق الصخرة ورأسي على المخلاة ونجوم قليلة تراوغها غيمة وحيدة، أحسُ بها تتهادى هابطة ببطء وخفة، بياضها رائق كما الحليب. رحت أتابعها وهي تعيد تشكلها بين لحظة وأخرى، ورأيت: جبلاً، وواحة، ونخلة، وطائراً عظيماً، وامرأة فاتنة، ورجلاً يقود جملاً، وخطوات على رمل سرعان ما يختفي أثرها. كان التشكل يأتي على مهل وبرهافة لا تحس، وأسمعني شيخي حين أطلَّ بوجهه من الغيمة، موسيقى قديمة لناي، كان يحبها، فانتبهتُ جالساً ونظري جرى إلى الواحة أسفل التل.
بعد الغروب بلحظات؛ كنت فوق التلة والواحة في الأسفل، وما كان مقدراً لي دخولها، فأعددتُ متكَأً على صخرة وجلست أرقب العائدين من الحقول القريبة، والبيوت القليلة، وحركة الواحة وهي تستعد لليل، وسوراً عالياً من حجارة متراصة يحيط بالواحة الصغيرة كي يحوش الرمال من ابتلاعها، وبوابة أغلقت لما دخل الراعي بأغنامه، وصبية على سطح بيت حجري تنظر جهة الغروب كأنما تتابع تبدلات الشفق حتى انطفأ فنزلت. طلع قمر وجاءت غيمة، وشيخي يترنَّم على وقع ناي قديم «الحب يلعب بالأرواح». لم يكن للوقت من معنى، ولم أدر إن كنت غفوت أم سرقتني الغيمة بتبدلها، لكن القمر توسَّط السماء، وسكون حاد يغلف الأجواء كافة ورأيتها منتصبة على سطح البيت، ملفوفة بسارٍ زاهي الألوان، تبدو انعكاساته مبهجة تحت ضوء القمر البدر، ساكنة ورأسها مرفوعة نحو السماء، نظرت حيث تنظر، فرأيت الغيمة تبتسم وهي تتنزَّل على مقربة من الواحة، فاعتدلت في جلستي، وصوت الناي أصبح أكثر وضوحاً، تساءلت من أين يجيء؟ أهو الناي القديم لشيخي، أم تراه ناي الراعي في البيت المجاور. رفعت الصبية يديها وراحت تتمايل ببطء وليونة، تميل بخفة على الجانبين وهي ترفع إحدى قدميها، تدور حول نفسها كطائر محلق في الفضاء، والناي بسحره وشجنه يوافق الرقصة الدائرة، والغيمة تواصل هبوطها السريع، وروحي وقد أخذها جلال الرقص فقامت تطلبه. همهمات شيخي تردد مترنمة: «يلعب بالأرواح.» تكررها وتستعيدها بتطريب بديع، والفتاة وقد انفك عِقال شَعرها صار يحيط بجسدها الذي تخلى عن الساري، والغيمة غطت سطح البيت وسكنت، وروحي ترقص جزلة كأنما في حَضرة؛ وأنا على الصخرة غير قادر على السكون، والناي صار رائقاً كأنما يتقطر عذوبة ولوعة، وشيخي لا ينفك عن «الأرواح»، والغيمة تتشكل رجلاً يخاصر امرأة يذوبان في رقصة عامرة.
الصبية ترفع يديها نحو الغيمة وتتراجع في بطء، تسحب الغيمة نحوها، لكن قوة ما تردها، لكنها تعيد الفعل وتكرره وهي تواصل رقصها، والشَعر الغزير المتطاير حولها لم يعد يستر شيئاً وراح يراقص ظلها بنزق وحيوية. روحي كانت في الغيمة ترقص، والغيمة تراقص البيت والواحة ونجوماً بعيدة تجرها صبية إلى الأسفل فتتساقط حباتُ مطر فوقها. القطرات لا تحيد عن جسد الفتاة وشَعرها، وأنا لم أستطع الجلوس فوقفت والناي سادر في عزفه ونزفه. القطرات تتكاثف حول الفتاة، تغسلها وتعيد الشَعر إلى عريها البهي. روحي الغارقة في البلل الرهيف تواصل المخاصرة وترقص في فضاء لين بنزق لم أعهده فيها. أيقظني أذان الفجر، كل شيء هادئ وجليل وغارق في بهاء القمر المائل للغروب، وأحسست بجسمي كله غارقاً من بلل المطر الذي لم يكن له أثر على الصخرة والأرض من حولي.