القاهرة 15 فبراير 2017 الساعة 12:07 م
يحظي التطور السياسي في الصين ونموذجها التنموي باهتمام كبير فقد قال نابليون « دع الصين نائمة فإنها إذا تحركت اهتز العالم بأسره » وهذا يماثل المقولة الأخرى إذا عطست أميركا أصيب العالم بالزكام. من هنا انعقدت الآمال العربية على نهضة العملاق الصيني والتطلع لدوره في إعادة التوازن في السياسة الدولية.
وبالنظر إلى انه دائما ما تجري عملية مراجعة كل خمس سنوات للأوضاع في الصين مع انعقاد المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني فان كثيرا من الأضواء تسلط على هذا الحدث المهم وما يرتبط به من تغيرات أو تعديلات في المناصب القيادية العليا في الصين وما يترتب على ذلك من سياسات داخلية أو خارجية.
والصين في هذه المرحلة تواجه تحديا أميركيا كبيرا ليس أدل على ذلك من تخصيص مجلة الفورين افيرز الأميركية في عددها يناير فبراير مقالين يحللان الاوضاع في الصين و الولايات المتحدة ولن نتعرض لذلك وإنما بصفتي متخصصا في الدراسات الصينية يهمني أن أقدم عرضا لخصائص النموذج التنموي الصيني في هذه المرحلة من التغير في العالم خاصة في اكبر قوتين هما الولايات المتحدة والصين. ونركز هنا على النموذج التنموي الصيني الذي أصبح يطلق عليه المعجزة الصينية.
ويستلزم فهم النموذج التنموي الصيني تحديد الإطار العام لهذا النموذج الذي اعتمد على تحديد واضح للهدف ، وتحديد واضح للوسيلة ، ومنهج فكري واضح في العمل ، وركائز واضحة للعمل الداخلي والتعامل الدولي. وسوف نقدم تعريفاً موجزاً لهذه المصطلحات الثلاثة الأولى أي الهدف والوسيلة والمنهج الفكري ونترك الركائز الاخرى للتفصيل في البند اللاحق.
* الهدف: هو نقل الصين من دولة فقيرة تعاني المجاعات لدولة متوسطة في مستوى المعيشة بحلول عام 2050 من خلال التحديثات الأربعة :ألصناعة والزراعة والتكنولوجيا والقوات المسلحة.
* الوسيلة : هي التي تؤدي إلى تحقيق الهدف مقولة دنج سياو بنج «لا يهم لون القطة طالما تصطاد الفئران» أي المرونة في الوسيلة وبعبارة أخرى البراغماتية .
* المنهج الفكري: الاشتراكية بخصائص صينية، ومحورها الجمع بين ثلاث مقومات هي خصائص اشتراكية، رأسمالية السوق، تراث صيني تقليدي.
واعتمد النموذج على عدة ركائز ومتطلباته الداخلية والخارجية. وتتلخص في:
1 - القوة الدافعة للتطور التنموي هي ما أطلق عليه في الغرب «التنمية على أساس الاقتصاد الموجه للتصدير»
2 - الانطلاق من مبدأ النمو غير المتوازن بالتركيز على المناطق ألشرقية كنماذج للتنمية ثم الاتجاه للغرب الصيني على أساس مبدأ التكافل والتكامل بين ألأقاليم بعبارة أخرى يبدأ التطور الجغرافي للتنمية من المناطق الشرقية ثم ا الوسطى ثم مناطق الشمال الشرقي فالمناطق الغربية
3 - السعي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية لتمويل المشروعات في إطار خطة مركزية عامة للدولة مع حرية في التنفيذ في الأقاليم الصينية ألمختلفة وفي مجالات النشاط الاقتصادي فالمتنوعة وإتاحة الفرصة لها من خلال الأنواع الأربعة للملكية وهي:
1 - المشروعات ذات الملكية الخاصة كاملة.. 2- المشروعات ذات الملكية المختلطة (الدولة والقطاع الخاص).. 3 - المشروعات ذات الملكية التعاونية.. 4 - المشروعات المملوكة للدولة كاملة.
القائم على ضبط ألأسعار ضبط الأجور مع السماح بالابتعاد عن مفهوم الاقتصاد الاشتراكي التقليدي حيث كون الدولة مسئولة عن الفرد من ميلاده حتى و فاته ، وترك الأمر إلى حد كبير للفكر الاقتصادي الليبرالي القائم علي حريات «التنافس -الربح - البيع والشراء - و الحصول على مقومات الحياة من «مسكن – ملبس - تعليم - رعاية صحية » وإتاحة الفرصة للبحث عن العمل مع ضوابط تضمن الحد الأدنى من كل هذه ألمقومات أي السير على قدمين (العام والخاص) بخطى متوازية وليست بالضرورة متساوية
أما ابرز التوجهات الداخلية للنموذج فهي:
1 - ان يقوم بناء النموذج بالجمع بين القديم و الحديث ، بمعنى الانفتاح على التكنولوجيا المتقدمة ، من أية دولة في العالم ، وفي الوقت تنفسه تطوير الصناعات القائمة منذ الخمسينات
2 - اطلاق الحرية الاقتصادية للأقاليم في التعامل مع الخارج في التجارة ، والقروض واجتذاب الاستثمارات الأجنبية علي أساس مبدأ تنافس الأقاليم المختلفة.
3 - الانفتاح والتحرير التدريجي في التجارة والصناعة وأسعار السلع والعمالة والتأمينات والمصارف وأسعار العملة وفي السياسة الزراعية وفي اللامركزية الإدارية وفي تطور البورصة.
4 - الانفتاح والتحرر والتنوع الاقتصادي والثقافي مع ضبط الحركة والتطور السياسي من خلال الحزب الشيوعي ، بعبارة أخرى تتبع الصين ما يمكن أن نسميه الإدارة والرقابة المزدوجة (الحكومة والحزب أي المسئول الحكومي والمسئول الحزبي الأول للتنفيذ والثاني للرقابة).
5 - إعطاء أولوية للاستقرار السياسي و الاجتماعي ، الإنتاجية الاقتصادية ، الرفاهية العامة ، مع تطوير فلسفة الحزب الشيوعي بإضافات جديدة باستمرار وفقا لما تسفر عنه الممارسة العملية التي تقوم أحيانا على التجربة والخطأ حيث بدأ الانفتاح بإنشاء عدد محدود من المناطق الاقتصادية الخاصة ، ثم زيادتها والتوسع فيها من حيث العدد ، والمساحة والمناطق الجغرافية ، مع مضي الوقت ، ومع ثبوت نجاحها وتحقيقها للأهداف المرجوة ، كما تم تطوير دستور الحزب بإضافة دور للطبقة المتوسطة والقطاع الخاص ودور للتكنولوجيا والمعرفة ، ليعكس الواقع في المجتمع.
ترتبط السياسة الخارجية للدولة وبخاصة في حالة الصين بنموذجها التنموي كعامل رئيس في نجاحه ولهذا دارت السياسة الخارجية حول ثلاثة توجهات رئيسية هي:
ألأول جعل الأولوية للاقتصاد التنموي واضطلاع السياسة الخارجية بخدمة التنمية في مناخ من السلام بعيداً عن الصراع أو الحروب أو النزاعات الإقليمية أو الدولية.
الثاني : بناء علاقات اقتصادية مع مختلف الدول ، بغض النظر عن نظمها الاقتصادية أو السياسية ، على أساس تحقيق للمنفعة المتبادلة ، وكذلك إقامة مشروعات التعاون مع الدول النامية
الثالث: تطوير العلاقات السياسية مع الدول الاخرى لتحقيق هدف البحث عن المواد الأولية اللازمة للصناعة، و عن مصادر الطاقة، وأخيراً البحث عن الأسواق.
لقد تبلور النموذج التنموي بتأثير ثلاثة عوامل الأول الفلسفة الصينية التقليدية ذات الطابع التوافقي. والثاني التغيرات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية في العالم، والثالث مصلحة الشعب اكما يعبر عنها الحزب الشيوعي في إطار عقد اجتماعي افتراضي مع الإصلاح والانفتاح (تحقيق تقدم اقتصادي ورفع مستوى المعيشة مقابل تأجيل الإصلاح السياسي واحتكار الحزب للسلطة).
لتحقيق النموذج التنموي الخاص بها، وضعت الصين ما أسمته «استراتيجية الخطوات الثلاث للتنمية»، وذلك منذ العام 1978 وتبلورت بصورة أكثر وضوحاً في العام 1987 وهذه الخطوات هي بمثابة أهداف مرحلية في إطار جدول زمني عام ومرن كالاتي:
الأولى: مضاعفة الناتج الوطني GNP و توفير الغذاء والكساء للجميع بنهاية عقد الثمانينات.
الثانية: مضاعفة رباعية للناتج القومي الإجمالي GNP بنهاية القرن العشرين.
الثالثة: زيادة الدخل الفردي ليصل لمستوى الدول المتقدمة متوسطة الدخل بحلول عام 2050.
أحدث النموذج التنموي الصيني في المجتمع نتائج بالغة الأهمية والخطورة في الوقت نفسه ، وهذه النتائج منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي... وتتمثل أهم النتائج الايجابية في:
1 - ظهور ما أطلق عليه «الصعود السلمي الصيني» Peaceful Rise of China حيث تحولت الصين إلى القوة الثانية في الاقتصاد العالمي وتملك ثاني اكبر احتياطي من النقد الأجنبي يبحث عن الاستثمار في ألخارج وهي ثاني دولة تستثمر في الولايات المتحدة.
2 - تحولت الصين لمصنع العالم الساعي للحصول على الموارد الطبيعية من المعادن والطاقة.
3 - تحولت الصين إلى الدولة الثالثة في السياحة على المستوى العالمي.
4 - أصبحت الصين قوة جاذبة للاستثمار الأجنبي وقوة باحثة عن الموارد الأولية والأسواق.
5 - ارتفاع مستوى المواطن الصيني وزيادة مستوى الحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
6 - ابتكار آليات جديدة في التعامل مع الدول النامية مثل منتدى التعاون الصيني الأفريقي منتدى التعاون الصيني العربي ، وحوارات إستراتيجية وشراكات إستراتيجية مع العديد من دول العالم.
وبالنسبة للسلبيات فيمكن الاشارة الي بعضها مثل:
1 - عودة الفوارق في دخول الافراد وبين الحضر و الريف، وبين الأقاليم..2 - عودة بعض الرذائل الاجتماعية.. 3 - زيادة نسبة التلوث ما يؤثر على مستقبل الأجيال..4 – تداعيات سياسة الطفل الواحد ، ما اثر في السلوك الاجتماعي والتركيبة الديمرغرافية والجندرية ودفع الحزب لتغييرها
وقد حقق النموذج بايجابياته وسلبياته استمرار سيطرة الحزب الشيوعي على النظام السياسية وعلى القرارات السياسية ألمهمة وعلى الحياة السياسية بوجه عام. وذلك استنادا الي ثلاثة عوامل :
الاول تغير مكانة الدولة فأصبحت الاولي علي مستوي العالم بالنسبة للإنتاج المحلي الاجمالي
الثاني حرص الصين وقادة الحزب الشيوعي على معالجة السلبيات وبخاصة ظاهرة الفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي وقع فيه بعض قيادات حزبية وأخرهم بو شيلاي الذي فصله الحزب
الثالث سعي الصين لمواجهة التداعيات الناتجة عن الأزمة الاقتصادية والمالية بإصدار تشريعات وضوابط إدارية وانتهاج سياسة تحفيز الاقتصاد ومواجهة
ان المؤتمر التاسع عشر للحزب الذي ينعقد في الفترة القادمة مطالب بوضع خطة استراتجية للصين اتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسة الخارجية في ظل المتغيرات والتحديات الجديدة