القاهرة 13 فبراير 2017 الساعة 11:16 ص
"ان قيمة حياتنا كائنة فى نفوس الآخرين فى نفوس أولئك الذين يحبوننا ويحتاجون الينا وينتظروننا دائماَ .. المحبة وحدها هى التى تشدنا الى هذه الأرض ولولاها ما كانت لحياتنا قيمة .. فالحب شئ لابد منه لكل كائن حى انه كالهواء الذى نتنفسه ولابد من الحب مادامت الحياة " هكذا قال ، وهكذا عاش (يوسف السباعى) فارس الرومانسية مؤرخاً لأحداث مصر من خلال قصص الحب والمشاعر الفياضة التى تجيش بها رواياته ، مما دفع الأديب (نجيب محفوظ ) ان يطلق عليه لقب (جبرتى العصر) لاته أرخ عبر الرواية و السينما لأهم حدثين فى تاريخ المصريين فى القرن الماضى و هما ثورة يوليو فى ( رد قلبى) و حرب اكتوبر فى (العمر لحظة) ، وأستطاع ان يمزجً بعمق بين الواقعية والرومانسية مؤكداً على كرامة الانسان وحقه المشروع فى الحب والنضال فى المواقف الوطنية ، فأعماله الأدبية المتنوعة كحبات المطر المتساقطة على النفوس العطشى لقيم الحرية ، الحب ، الخير ،الحق ،والجمال لترويها وتجلب لها الحياة .
ها قد أشرقت شمس العاشر من يونيو عام 1917 على ميلاد يوسف محمد عبد الوهاب السباعى فى احد البيوت المتواضعة بالدرب الاحمر احد احياء القاهرة الشعبية ، وقبل ان تتفتح عيناه على ضياء الشمس تفتحت على بيت يجتمع فيه الادباء ، وارهفت اذناه لسماع احاديثهم فى الادب و السياسة ، وعرفت أنامله الصغيرة كيف تداعب الكتب الزاخرة فى مكتبة والده الاديب (محمد السباعى ) الذى قدم للمكتبة العربية كتابات و ترجمات من بعض روائع الادب الانجليزى الى جانب ترجمته الشعرية لرباعيات عمر الخيام .
و كان تأثر السباعى بالبيئة المحيطة به قويا ، فأحب القراءة منذ نعومة اظافره و ظهرت موهبته الادبية فى مرحلة مبكرة من حياته على شكل مقتطفات شعرية و زجلية و قصصية الى ان نشرت له مجلة (مجلتى ) و (المجلة الجديدة ) و هو طالب بالمرحلة الثانوية قصصا قصيرة كانت باكورة مجموعاته القصصية وروياته .
ضابط بسلاح الفرسان
والتحق (السباعى) بالكلية الحربية و تخرج منها عام 1937 ضابطا بسلاح الفرسان ثم عاد اليها عام 1942 مدرسا لمادة التاريخ العسكرى و تولى العديد من المناصب منها تعينه مدير للمتحف الحربى ، و لشغفه و عشقه للصحافة و الادب حصل (السباعى) ذلك العصفور المغرد على اشجار الفكر والأدب على دبلوم الصحافة عام 1952 ، ومنذ ذلك الحين وهو كالنحلة التى لا ينضب رحيقها ، ولا تتوانى عن دورها فى اقامة نهضة ثقافية فى ستينات القرن العشرين ، ففى عام 1933 اسهم فى انشاء ( نادى القصة )،( جمعية الادباء ) و ( نادى القلم الدولى ) و انتخب سكرتيرا عاما لكل منهما ، و بعد وصوله لرتبة عميد و تقاعده عن الخدمة العسكرية شغل عدة مناصب منها توليه منصب سكرتير عام منظمة تضامن الشعوب الافرواسيوية ، و منصب سكرتير عام المجلس الاعلى لرعاية الفنون و الاداب و العلوم الاجتماعية ( المجلس الاعلى للثقافة حاليا ) بدرجة وزير .
تبديد ظلمات الجهل
وكم كان ولع (السباعى) بتبديد ظلمات الجهل ، واشراق شمس الفكر واعلاء قيم الحق والخير والجمال لتتنحى خفافيش الجهل و الظلام جانباً لذلك قام باصدار العديد من المجلات والاشراف عليها مثل ( الادباء العرب ) ، ( الرسالة الجديدة ) ، و( القصة) ، و تولى رئاسة تحرير مجلة أخر ساعة ، و الأهرام ، و تولى رئاسة مجلس ادارة دار الهلال عام 1971 ، و تاكيدا لنضاله فى دفع عجلة الانسانية الى الافضل قام الرئيس ( السادات ) ببتويجه على عرش الثقافة حيث عينه وزيراَ فى عام 1973 ، وبعد كل تلك الجهود التى بذلها السباعى فى توضيح معنى القيم الرفيعة فى الادب والاجتماع والسياسة بالتحليل المنطقى والتبسيط الصحفى الذى وصل به الى قطاع كبير من قراءه لم يكن غريباً ان ينتخبه الصحفيين فى عام 1973نقيباَ لهم .
سفينة الثقافة والنهضة الأدبية
كان (السباعى) كالربان لسفينة الثقافة والنهضة الأدبية يمد يده الى جميع أفرادها لتصل زوارق أدبهم وأفكارهم الى بر الشهرة والنجاح للنهوض بالحركة الثقافية ، ويروى لنا الأديب ( نجيب محفوظ ) كيف احتضن السباعى أولى رواياته وهى ( بين القصرين ) ونشرها مسلسلة على 25 عدد من المجلة الأدبية ( الرسالة الجديدة ) ، أما الكاتب ( سعد الدين وهبه ) فكان كالنجمة التى ساعدها(السباعى) على أظهار بريقها على صفحات (جريدة الأهرام) اسبوعياً من خلال مسرحياته التى تتكون من فصل واحد ، وأعترافاَ من ( وهبة ) بفضله قام باهداء كتابه الذى ضم مسرحياته القصيرة الى الأديب ( يوسف السباعى ) .
ولم يكن غريباً ان يداعب الحب أوتار قلب فارس الرومانسية منذ فجر شبابه فأحب ابنة عمه ( دولت طه السباعى ) وأثمر هذا الحب طفلين ، وقد أمتزج هذا النجاح العاطفى بسلسلة من النجاحات الأدبية فحصد خلال مشواره الصحفى والأدبى عدة جوائز لعل اهمها : وسام الجمهورية المصرى من الطبقة الاولى ، وسام الاستحقاق الايطالى من طبقة فارس الاعظم ، جائزة الدولة التقديرية فى الاداب ، و جائزة لينين للسلام ، كما حاز على جائزة وزارة الثقافة و الارشاد القومى عن احسن قصة لفيلمى رد قلبى ، و جميلة الجزائرية .
وكان (السباعى) كالفراشة التى لا تمل التنقل بين زهور الفكر والمعرفة منجذبة الى تلك الألوان المتباينة فى بستان الثقافة والعلم مما زاد كتاباته عمقاً وثراء ، فأثمرت ريشة قلمه الذى ظل رفيقاَ له طيلة حياته اثنين و عشرون مجموعة قصصية ، ستة عشر رواية ، اربعة مسرحيات ، ثمان مجموعات من المقالات فى النقد و الاجتماع ، و كتاب فى ادب الرحلات ، بخلاف مقالاته التى كتبها فى الصحف و المجلات .
السينما المصرية
كانت السينما المصرية فى أوائل القرن الماضى كالشجرة الوارفة التى تنهل من نبع القصص والروايات المترجمة أوالمقتبسة من الأفلام الأجنبية ، بينما كانت كالعشبة اليابسة فى صحراء الأدب المصرى تعصف بها رياح الشك ، ويبدو لها من بعيد أعمال الأدباء المصريين كالسراب الخادع لا يمكن الوثوق به ، حتى أستطاع نجاح فيلم (أثار على الرمال ) المأخوذ عن رواية السباعى ( فديتك يا ليلى ) ان يؤتى أثماراً كثيرة للأدباء المصريين وكان أولهم ( السباعى ) الذى قدمت له السينما المصرية خمسة عشر فيلما من أعماله لعل اشهرهم ( رد قلبى، ارض النفاق، بين الاطلال، نادية ،العمر لحظة، أذكرينى، نحن لا نزرع الشوك) .
المزج بين الحب والتاريخ
وأخذنا ( السباعى ) من خلال رواياته الى عالم ( الفنتازيا ) الرحب فحطم الفواصل بين عالمى الواقع و الخيال وحلق بنا بين السماء و الارض فى (نائب عزرائيل ) ، وحلمنا معه بأعشاب للأخلاق فى ( ارض النفاق)، وسافر بنا عبر عالم الفضاء فى( لست وحدك) ، و وضعنا أمام مرآة الواقع فى روايته (السقا مات ) و (نحن لا نزرع الشوك ) ، بينما مزج بين الحب والتاريخ فى رواية (رد قلبى ) تلك الملحمة التاريخية التى تتبع فيها السباعى من خلال قصة حب احداث الثورة وصراع الشعب فى مواجهة الحكم المنحرف و الملكية الفاسدة ، والجدير بالذكر ان كاتب سيناريو فيلم (رد قلبى ) هما كل من ( نجيب محفوظ) و (على الزرقانى ) .وتأكيداً على مواهب وقدرات (السباعى) التى لا تنضب حصل على جائزة احسن سيناريو من وزارة الثقافة و الارشاد القومى عن كتابته سيناريو فيلم(الليلة الاخيرة) المقتبس من رواية (السيدة المجهولة) لمارجريت رايل.
وكان (السباعى) ذو فكر مبدع خلاق ووجهة نظر متعمقة فى الحياة كشجرة مدت جذورها فى باطن الأرض فاينعت ، وأورقت ، وأثمرت ثمراَ شهى حلو المذاق ، وذلك تلك النظرة ساعدته على ثبر أغوار النفس البشرية ناعتاَ أياها بالغموض والانانية فى مقدمة مجموعته القصصية ( هذه النفوس هذه الحياه ) حيث يقول : " ان النفس البشرية معضلة معقدة لا مقياس لها ولا ميزان .. انها أناء ينضح بالخير مرة وبالشر مرات ..انها خليط من المتناقضات لا يمكن تمييز مركباته ..اللهم الا مركب واحد يغلب عليها .. ويبرز فيها واضحاً جلياً هو مركب الأنانية " .
متعجباً من أنانية تلك النفوس التى تضرم نيران الحروب فنراه فى روايته ( نائب عزرائيل ) يقول على لسان عزرائيل : " هذا الانسان الذى طبع على الشر والسوء والذى لا يزال رغم ما يتخيله من بشاعة الموت يشعل نيران الحروب .. يلقى بنفسه فى أتونها .. والذى يحاول ان يدمر الدنيا بدافع أنانيته وجشعه .. ماذا تراه يفعل لو أدرك ان الموت ليس بمفزع ولا مخيف ؟ " .
فديتك يا ليلى
وترى هل كل تلك الأفكار دفعت (السباعى) الى هوة اليأس التى لم يلبث فيها كثيراً ، حتى أشرقت له شمس الحياة حينما قال على لسان أحدى شخصيات روايته ( فديتك يا ليلى ) : " هكذا تبددت فجأة غيوم اليأس المعتمة التى كانت تملأ سماء حياتى .. واذا جلاميد الصخر التى كانت تحول بينى وبين الحياة ..والتى كنت أراها توشك ان تنقض علىّ فتتركنى حطاماَ..قد تفتت وذابت وأضحى الطريق الى أمنية النفس سهلاً معبداً " .
بل وأسرف (السباعى) فى الأمل حتى انه لم يعد يرى فى الحياة شئ صعب فنراه يقول على لسان ( الشيخ على لوز ) أحدى شخصيات مجموعته القصصية ( بين أبو الريش وجنينة ناميش ) : " ليس فى الحياة شئ صعب .. وليس فيها أمر بعيد المنال أو مستحيل الوقوع .. ان الزمن يفعل كل شئ .. فلندع كل شئ للزمن فهو لابد فاعله .. ان الزمن يجعل من الحبة الجافة شجرة مورقة ناضرة .. ومن النطقة انسان " .
وبرغم كل تللك الآمال والأحلام نرى (السباعى) يفكر فى الموت ويحاوره حيث كانت فكرة الموت المفاجئ تشكل محورا اساسيا فى اعماله الأدبية فقامت روايته (نائب عزرائيل ) و (البحث عن جسد ) على محاورة ملك الموت و تخيله حينما يقول :" بينى و بين الموت خطوة سأخطوها اليه أو سيخطوها الىّ .. فما اظن جسدى الواهن بقادر على ان يخطو اليه .. ايها الموت العزيز أقترب .. فقد طالت اليك لهفتى و طال اليك اشتياقى " . و كأن (السباعى) كان يستشعر بأحساس الفنان المرهف رصاصات الغدر التى كانت تتربص به فى العاصمة القبرصية (نيقوسيا ) عندما ذهب الى هناك على رأس وفد مصرى لحضور مؤتمر منظمة التضامن الافرواسيوى حيث تم اغتياله فى 18 فبراير 1978 على ايدى فلسطينيين لاعتقادهما الخاطئ بأن تأييده لمبادرة (السادات) بعقد سلام مع اسرائيل هو خيانة للقضية الفلسطينية .
فارس الرومانسية
و اقترن اسم (السباعى) فى الادب و السينما بلقب فارس الرومانسية وذلك بسبب اعماله الاولى التى ظهرت فى السينما مثل (رد قلبى ) و (انى راحلة ) و خاصة فيلم (بين الاطلال ) فهو من اهم الافلام الرومانسية لذلك رأى الكثير من النقاد ان اعماله تعتبر نهاية لمرحلة الرومانسية فى الادب و خاصة انها تداعب مرحلة عمرية لفئة من القراء صغار السن الا ان هناك كتاباً اخرين وصفوا اعماله بأنها واقعية ،ورمزية و من اجمل ما قيل عن يوسف السباعى قول (مرسى سعد الدين ) فى مقدمة كتابه (يوسف السباعى فارس الرومانسية ) : " ان السباعى لم يكن مجرد كاتب رومانسى بل كانت له رؤية سياسية و اجتماعية فى رصده لاحداث مصر " .
و الناقد الراحل الدكتور (محمد مندور) يقول عنه : " ان السباعى لا يقبع فى برج عاجى بل ينزل الى السوق و يضرب فى الازقة و الدروب " بينما قال عنه الاديب ( توفيق الحكيم ): " ان اسلوب السباعى سهل عذب باسم ساخر " وعبر الصحفى ( صبرى موسى ) عن حزنه لرحيله قائلاً : " برحيل السباعى رحلت الكثير من الاخلاق و القيم و المفاهيم فقد تم اغتياله فى مؤتمر عالمى وهو يقوم بدوره للتقارب بين الشعوب و نشر الوعى الثقافى و اشاعة السلام و برحيل السباعى رحل عصر بأكمله "