القاهرة 13 فبراير 2017 الساعة 10:19 ص
هذه الحالة، أو الصورة الشاملة في الزمن الراهن، للأوضاع في العالم العربي، قد تأملها أستاذنا الكبير الراحل "هيكل"، منذ سنوات ، ووضع توصيفا دراميا مبدعا لها ، وقد أجاد بالفعل التعبير عن الإحساس الغريب الذي يراودنا في تلك اللحظة من الزمن الجاري .. إحساس بأننا جميعا في العالم العربي ركاب على طائرة مخطوفة .. والطائرة الضخمة تدخل وسط العاصفة ، الجو يغيم ، السحب المشحونة تتصادم، البرق يلمع بقرب الأجنحة كأنه لسعات سوط له أكثر من لسان .. والمشاعر تتوتر في الطائرة، والأعصاب مشدودة ، والقلق يمسك بالأنفاس ..الطائرة مخطوفة وعلى الكل أن يلزم مكانه ولا يتحرك ، ولا أحد يسألنا في شيء ، ولا نحن قادرون على أن ننطق بشيء .. والعاصفة عاتية والخطر مجنون ، والمصير علمه عند الله ، ونحن في طائرة
مخطوفة بين السماء والأرض يتحكم فيها حامل مسدس !! صورة مفزعة ومع ذلك فهي قريبة من واقع الحال الذي نعيش فيه !؟! والعاصفة مازالت تلعب بالطائرة المخطوفة .. ونحن جميعا في العالم العربي ــ ركاب هذه الطائرة ــ نعرف جيدا كيف وصلنا إلى هذه الحال ؟ وكيف فقدنا السيطرة على الطائرة وعلى كيفية اتخاذ القرار وعلى وسائل فرض القرار ..
وركاب الطائرة المخطوفة ــ يأسا أو عجزا أو استسلاما للواقع ــ قد فوضوا أمرهم للمصادفات، ربما تحمل إليهم ما لم يخطر على بال، حتى تمرق الطائرة من سحب الأزمة، وحتى ينتظم خط سيرها في الفضاء العالي !!
وهناك توضيح آخر للظروف والأحوال العربية.. ومن وجهة نظر العالم الراحل الدكتور أحمد زويل ، في احدى ندواته بدار الأوبرا المصرية، بأن العرب أصبحوا خارج " الملاعب " .. وأن المتاح والممكن أمامهم هو اللعب في " الحواري والأزقة "، وأن أحد المفاصل الأساسية في أوضاعنا ، أننا أصبحنا خارج الملعب الرئيسي .. والرجل لم يأت بجديد ، ولكن كلماته تحمل قدرا كبيرا من الأسى والحزن ، وكأنه يرثي واقع أمه !! وصاحب نظرية " الفيمتو ثانية " يطل على المشهد العربي العام بحسابات المعادلة الرقمية ، أو المنظومة الاقتصادية والسياسية والعلمية التي تجعل لوجود الأمة كيانا يشعر به الآخرون .. وهو يرى أن العرب بلا وجود على خريطة العالم ، حتى أن الغرب أصبح يضعهم ضمن صحارى أفريقيا علميا وفكريا ، وأن المشكلة الأخطر أن المجتمع العربي أصبح وزنه ثقيلا وجسده مترهلا للغاية .. وبمعنى أن العرب كدسوا الدولارات في جيوبهم ، واللحوم والدهون في أجسادهم ، ولم تعد لديهم القدرة على الحركة والتطور ، وأنه على المستوى العام تراكمت المشاكل السياسية والفكرية ، وبالتالي أصاب الترهل كل شيء في حياتنا !!
وصحيح .. الرجل لم يأت بجديد في تشخيص أحوالنا ، ولكن كلماته كانت أكثر تحديدا في توصيف حالة الترهل والعجز .. وأن العقل العربي كسلان ، ومسطح ، وجسده مترهل ، مع حالة متدهورة من اللامبالاة ، وأن الخطاب السياسي العربي قد سجل حالة فريدة ، وباعتماده على لغة العواطف ومفردات " الواجب الإنساني " ، وقد يكون مقبولا أن تكون هذه هي لغة حكماء ونبلاء العرب فيما بينهم .. ولكن ليس منطقيا أن تكون هي لغة العلاقات الدولية القائمة على المصالح المشتركة وعلى لغة القوة !! وليس منطقيا كذلك أن الخطاب السياسي العربي تكثر فيه كلمة ( نطالب ) بينما من يطالب يجب أن تكون لديه القدرة على أن يطالب ، وأن يكون عنده المنظومة التي تدفع الآخرين للاستجابة !!
والشاهد .. أن ملامح الصورة تقول : إننا ــ كعرب ــ في حالة أسوأ من "الغياب"، وغير قادرين على صنع القرار .. لا أحد في العالم العربي قادرا ، ولا أحد لديه القدرة !! وأن الوضع العربي الراهن يجعل كل طرف يهتم بنفسه ، وهذا يحدث وقت الأزمات ، وهي متسلسلة ومتواصلة.. والحاصل أن كل طرف عربي يبحث عن " خلاصه " الخاص ، وبمعنى
أن الكل يهرب .. والبعض على المياه الدافئة في الخليج العربي يبحث عن كفيل .. ووجده في "بريطانيا العظمى" تحسبا للخروج الأمريكي من ( القبة الحمائية التاريخيّة) وإعادة الميراث مرة أخرى لبريطانيا بعد نحو قرن من الزمان !! وبات واضحا أن تصريحات ورؤية الرئيس الأمريكي ، دونالد ترامب ــ قبل وبعد دخوله البيت الأبيض ــ كانت عاملاً وحيداً في صناعة الخوف.. في حالة طوارئ «استراتيجيّة» خليجيّة حقيقيّة .. في البحث عن (كفيل) وطالما استمر الصمت المريب في القنوات الخلفيّة المشتركة بين الخليج وواشنطن.
كانت الإمبراطورية البريطانية قد انسحبت من المنطقة، لأسباب يطول شرحها ، وسلمتها للولايات المتحدة الأمريكية، كنوع من الأثاث أو الحقائب أو ما غير ذلك .. ثم يعيد التاريخ نفسه في صورة (الكفيل) !!
في حقيقة الأمر .. لم يكن "ترامب" عاملاً وحيداً في صناعة الخوف على المستقبل، بل سبقته مؤشرات لسياق انحداري غير مسبوق، في العلاقات ، فيما شكلت "عقيدة أوباما" قبل ذلك المدخل الحقيقي نحو القلق على المصير، بعد حديثة عن الأصدقاء الذين يطلبون الحماية دون مقابل، ويعتمدون فقط على التدخل الأمريكي، وأن عليهم أن يدفعوا .. وقال تعبيرات أقرب للسخرية (اعتذرعنها فيما بعد بمبررات وتفسيرات واهية ) .. ولكن هذا لا ينفي أن الحديث عن الرحيل الأمريكي عن الخليج، حتى ولو كان مجرد رسائل سياسية مرحليّة، أو مجرد استعراض سياسي أمريكي ، إلا أنه فرض التحرك باتجاه البحث عن "الكفيل البريطاني" .. بريطانيا شريك وحليف يمكن الوثوق به، والاعتماد عليه بالنسبة لدول الخليج .. وحضور "تريزا ماي" رئيسة الحكومة البريطانية، للقمة الخليجية الـ 37 في المنامة، يوم الأربعاء 7 ديسمبر 2016 كان لافتا للانتباه أكثر من اللازم، وبقدر ما كان تعبيرا عن بدء افتتاحية الصفحة الأولى في سجل "الكفيل" الجديد.
ولم يكن الاهتمام بوجود "تريزا ماي" لأنها أول رئيسة وزراء بريطانية، وأول سيدة تحضر قمة مجلس التعاون الخليجي السنوي، وإنما لما احتواه خطابها من تناول لأهم القضايا التي تهم دول المجلس، وكذلك تأييدها لموقف دول المجلس من تلك القضايا، فقد أبدت تفهمها واعتبارها أمن الخليج أمن بريطانيا.. ثم اطلق قادة دول الخليج ورئيسة الوزراء البريطانية، خلال أعمال قمة مجلس التعاون الخليجي ، "شراكة استراتيجية" في المجالات الأمنية والسياسية والتجارية.
بينما كان "الكفيل العربي " مطروحا أمام القمة العربية في دورتها السادسة والعشرين بمدينة شرم الشيخ، في شهر مارس 2015 ، ممثلا في مبادرة الرئيس السيسي، بتشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة.. وصدر بالفعل قرار القمة العربية بتشكيل القوة المشتركة وتحديد مهامها ومصادر تمويلها.. وعقد رؤساء أركان الجيوش العربية اجتماعا بمقر الجامعة العربية، يوم الأربعاء 22 أبريل 2015 ، لتفعيل قرار القمة العربية، وشدد رؤساء الأركان على أهمية تشكيل هذه القوة لتمكين الدول العربية من التعامل بفاعلية مع التحديات الراهنة والاستجابة الفورية لمعالجة الأزمات التي تنشب في المنطقة، وأن الهدف من تشكيل هذه القوة هو القيام بعمليات التدخل السريع التي تهدف إلى توظيف هذه القوة لمنع نشوب النزاعات وإدارتها، وإيجاد التسويات اللازمة لها، وكيفية استخدامها بما يحفظ استقرار الدول العربية وسلامة أراضيها واستقلالها وسيادتها..
وقرر رؤساء أركان الجيوش العربية، دعوة فريق رفيع المستوى للعمل تحت إشراف رؤساء أركان القوات المسلحة بالدول الأعضاء لبحث آليات تشكيل القوة العربية المشتركة، وعلى أن يقوم الفريق بعقد اجتماعه خلال الأسابيع القليلة المقبلة، على أن تعرض نتائج أعماله على اجتماع مقبل لرؤساء أركان الجيوش للدول العربية الأعضاء بالجامعة العربية.. وبالفعل عقد رؤساء أركان الجيوش العربية، اجتماعهم الثاني يوم الأحد 24 مايو 2015، بمقر الأمانة العامة للجامعة العربية لدراسة مشروع البروتوكول الاختياري لإنشاء القوة العسكرية العربية المشتركة، والذي يتضمن مهام هذه القوة، والموازنة الخاصة بها، وتشكيلها ، والهيكل التنظيمي والإداري لها.
وفي اللحظة الأخيرة (كما كان متوقعا) تكفلت دولتان عربيتان خليجيتان، إحداهما كبرى، والثانية "أصغر من الصغرى" باجهاض المشروع ، رفضا للكفيل العربي الذي يتعارض مع توجيهات وامتيازات الكفيل الأجنبي .. وربما كان هناك سببا آخر "في نفس يعقوب " !!
المهم .. أن الطائرة ما زالت مخطوفة .. و"حامل المسدس" يهدد ويتوعد الجميع .. و لا أتصور أن "الكفيل" الأجنبي يمتلك القدرة والفعل على الحركة، وبقدر ما يريد امتلاكه من "امتيازات وقواعد " وتسهيلات أخرى !!