القاهرة 12 فبراير 2017 الساعة 11:30 ص
العولمة الليبرلية باختصار نزعة وظاهرة يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع تقودها الرأسمالية بهدف فرض طابع كونى على مختلف العلاقات والنظم الدولية في المجتمع الدولي بكافة مقوماته وجوانبه "سياسية - مالية - بشرية - ثقافية -إعلامية - اجتماعية – اقتصادية"، وذلك من خلال تحرير التجارة وتبادل السلع والخدمات وتعميم السوق، والقيم وأنماط السلوك وأساليب العيش والسلوك الفردي وتدويل الأزمات وانتفاء القوميات حتى يغدو العالم قرية كونية.
إنها أممية رأس المال على كافة الصعد حيث لاتسمح بحدوث تنمية حقيقية إلا ضمن حدود معينة أو بلدان معينة ومناطق محددة منتقاة بمخطط محكم ودقيق،كما أنها آلية أساسية لإضعاف الدولة أياً كانت طبيعتها أو أهدافها.
وسينعكس ضعف الدولة وتراجع اقتصادياتها الوطنية بالضرورة على خدماتها التى أنشأت من أجلها، فالعقد الذي نشأ بين الشعوب ودولهم كان بالأساس أن يتنازلوا عن ما يمكلون من ثروات في أرضهم وبقعهم الجغرافية مقابل أن تقوم الأنظمة بإدارتها وتقديم الخدمات لرفاهيتهم، ولأن هذه الدول لم تستطع الوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها في ظل تآكل اقتصادياتها يوماً بعد يوم فإن الخلل قع في العلاقة الثنائية بينهم.
والتساؤل المطروح هنا، هل تتجه الدولة للتعويض عن عجزها أمام شعوبها بعد تبعية اقتصادياتها الى الاقتصاد العالمي إلى العنف، والعنف المقصود هنا هو حرمان مواطنينها من ثرواتهم التي أصبحت في متناول الاقتصاد العالمي عبر الرأس مالية المسيطرة على العالم؟.
لا يمكننا الجزم أو اخراج حقيقة مطلقة بأن الدولة تجنح إلى العنف المشروع باعتبارها السلطة المكلفة بفرض النظام العام لحماية ورفاه الجماعة، وهذا ما لا يمكننا هنا فعله لحاجتنا الماسة لبحث مفصل أخر يمكننا للاطلاع على المعايير الموضوعية وقياس الحالة من عدة جوانب لفحص هذا، ولأن القضية لا تتسع هنا سنقوم بعرض الحالة بناءاً على استنتاجاتنا وتفسيراتنا الواقعة بالاستناد إلى ما سبق. وما سردناه عن حالة العولمة وانعكاساتها السلبية على الدولة، وهل هذه تؤثر على سلطتها التي ستتجه لفرض قيود أكثر على الشعب باعتباره يطالب أكثر بحقوق في ظل تقصير الدولة وتراجع دورها التقليدى فى ظل العولمة.
يقول نعوم تشومسكي في كتابه "الربح فوق الشعب.. اللبرالية الجديدة والنظام العولمي، الصادر في عام 1999، "هناك الحلبة العامة حيث يمكن للأفراد، من حيث المبدأ، المشاركة في القرارات التي تتعلق بالمجتمع عامة: كيف يتم تحصيل الريع العام واستخدامه، وماذا ستكون عليه السياسة الخارجية، الخ. في عالم الدول القومية تكون الحلبة العامة حكومية بالدرجة الاولى وعلى مختلف المستويات. وتؤدي الديمقراطية وظيفتها بالقدر الذي يستطيع فيه الأفراد المشاركة مشاركة ذات معنى في الحلبة العامة، فيديرون في الوقت ذاته شؤونهم، فردياً وبشكل جماعي، دون تدخل غير شرعي من مراكز السلطة. وتستلزم الديمقراطية التي تؤدى وظيفتها مساواة نسبية في إمكانية الحصول على الموارد-المادية والمعلوماتية وغيرها. وهذا قول بديهي قديم بقدم أرسطو. فمن الناحية النظرية وجدت الحكومات لخدمة "زبائنها المحليين" ومن الفروض أن تكون رهن مشيئتهم. ومن ثم فإن أحد مقاييس الديمقراطية هو مدى مقاربة النظرية في الواقع ومدى مقاربة "الزبائن المحليين" بحق السكان.
واستناداً إلى المفهوم الأبد أن عنصر استلزام توزيع الموارد المادية والطبيعية مساواة نسبية بين أفراد الشعب مكون الدولة والذي وقع به خلل نتيجة لانهيار الاقتصاد الوطنى، فإن المسألة ليست هنا اقتصادية البتة، الأمر الذى يدعو إلى التساؤل في الأدوار الأخرى التي يجب أن تتكفل بها الدولة من اجتماعية وثقافية وسياسية باتجاه المواطنين، فلا يوجد عذر يحل الدولة من التزاماتها من الحفاظ على الكرامة وتوفير سبل الحياة الكريمة، ومن الملاحظ أن ما يمكن أن توفره الدولة من هذه الالترامات مكلفة في ظل غياب السيطرة على اقتصادها باعتبارها جزء من الاقتصاد العالمي ومتأثراً بهاً، فهنا تقع الاشكالية التي ستؤدى بالدولة للجنوح إلى أساليب غير تقليدية في إدارتها لهذه المطالب المتراكمة.
فى قول أخر، يذهب هذا السيناريو إلى أن هناك تغييراً سيحدث في مفهوم السيادة الوطنية، حيث ستتنازل الدولة القومية عن سيادتها لصالح حكومة عالمية منبثقة عن نظام عالمي ديمقراطي، حيث تعيد العولمة طرح فكرة الحكومة العالمية، ليس باعتبارها حلماً بعيد المنال وإنما باعتبارها عملية في طور التكوين. ففي كتابه زمن العولمة The Global Age يشرح مارتن البرو، Martin Albrow كيف تفك العولمة الارتباط مع الدولة القومية ويتخلق مجتمع عالمي World Society يبحث عن دولة عالمية World State ، وإذا قدر لهذه الدولة أن توجد بالفعل فلابد أن تكون دولة كونية Global State .
ويشرح مانيويل كاستلز Manuel Castells في كتابة نهاية الألفية The End of Millennium ميكانيزمات التحول الذي طرأ على كل من الاقتصاد والمجتمع والثقافة في زمن المعلوماتية، حيث يؤكد أن منطق الشبكة Network في صياغة العلاقات الجديدة التي تفرضها التحولات الناجمة عن عملية العولمة في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة يؤدى إلى تحـول عميق في شكل وطبيعة الدولة القومية ويجعلها بلا سيادة، والآليه الأساسية إغراق الدولة فى الديون الأمر الذى يساهم فى ضروره فتح الحدود القومية.
ومع غرق الدول في اقتصاديات تابعة وسوق حر تقع الدول وحكوماتها عرضة للابتزاز نتيجة للديون المترتبة عليها أو من ديون خارجية وإما من التزاماتها الاقتصادية نتيجة لتلبية بعض حقوق المواطنين من ناحية ومن ناحية أخرى التزاماتها اتجاه العالم الخارجي من دول مانحة أو مؤسسات دولية من أمثال البنك الدولى، الأمر الذي يؤدي بها إلى "الحلف الخداع" الذى يفتح أمام الحكومات المنافذ إلى رؤوس الأموال العالمية، الأمر الذي يعني أن الاقتصاديات الحكومية لن تتوقف على المقدرات الوطنية فقط. بل إلى سد العجز الحاصل بالقروض الأجنبية، الذي يشكل إغراءاً أمام الحكومات وعجزها أمامه، الأمر الذي يدخلها في الاسواق العالمية كمدينة والاستكانة للقوى العظمى الدائنة، الأمر الذي لا يمكن فهمه من قبل المواطنين المكونين الأساسين للدولة.
من المسؤول عن وصول الحالة إلى ما وصلت إليه الاقتصاديات الوطنية، عدا اللاعبين الدوليين في هذا المضمار من قوى رأسمالية ومنظمات دولية وشركات رأسمالية، إذ أن الحكومات الوطنية هي مسؤولة أيضاً، فكما يقول هانس في فخ العولمة إن هذه الحكومات يسيطر على اعتقادها أنه متى تراجع تدخل الدول في الاقتصاد بشكل كافي، فإنه سيحقق بالضرورة ازدهاراً وفرص عمل بصورة عفوية، وبناءاً عليه فإنها تهدم مشروعاتها الاقتصادية التي تديرها وتقوم بخصخصة مؤسسات أتت أصلاً لتلبية خدمات المواطنين وتقدمها على طبق من ذهب لصالح الرأسمالية بما تمثله من مؤسسات وشركات عالمية، الأمر الذى يسبب في الواقع في تعميق الأزمة الاقتصادية التي انتخبت من أجل معالجتها من قبل المواطنين.
وأمام هذه كله من عجز وتراجع لإمكانيات الدولة في سد النقص الحاصل في اقتصادها الذي بالضرورة سينعكس على المواطنين، سينعكس سلباً على قيمة الخدمات وحجمها التي تقدم عادة للمواطنين، كما أن العلاقة عكسية فإمكانية الدولة الاقتصادية تقع في حالتين، الحالة الأولى ثبات اقتصادها إذا أقررنا أن الدولة تواجهه تداعيات العولمة من خلال الإجراءات التي تكفل على الأقل الحفاظ على وضعها الاقتصادي الداخلي تجاه المواطنين، وفي الحالة الثانية تراجع وانهيار متسارع لاقتصادها الوطني أمام العولمة وبالتالى تظهر حال العجز لدى الدولة من الوفاء بالتزاماتها أمام الشعب.
في كلتا الحالتين ومع تطور وتغير ملامح الشعب وتكاثره أكثر فأكثر وازدياد احتياجاته في مقابل ثبات الاقتصاد الوطني أو تراجعه، تقع المشكلة الحقيقية، التي تؤدي لمزيد من اتساع رقعة العوز للمواطنين والفقر والبطالة وانهيار للأمن المجتمعي في الدولة من عدة نواحي، الفقر والبطالة والجريمة، وكله سيزيد بتسارع مهول بسبب فتح الحدود وانتقال هذه كله انعكاساً للظواهر العالمية.
البديهي أن ما يمكن أن يحدث في هذه الحالة أن العجز الذي تمارسه الدولة في عدم قدرتها على توفير الامكانيات سيواجه بالتصادم مع الشعب، فهي تقع بين مطالبات مواطنيها لسد احتياجتهم وبين وفائها لالتزامتها الدولية المالية ومجاراة الاقتصاد العالمي، الأمر الذى سيؤدى في النهاية إلى الصدام مع الشعب من ناحية وإرضائهم من ناحية أخرى عبر التحايل إما عبر الانتخابات أو عبر وهمهم بأن الأخطار الخارجية تحيط بدولتهم وأنهم مطالبون بمزيد من الولاء لذود عن حماهم. وما يترتب من عجز في مكونات الدولة من نقص سيادتها وميولها إلى البحث عن متطلبات اقتصادية جديدة لتوفير خدماتها وإسكات الأصوات التي تطالب بحقوقها من الشعب تقع المشكلة.
والمشكلة هنا أن محاولات الدولة لا تنال النجاح لأن اقتصادها مقيد بما تمليه السياسات العالمية الاقتصادية، وكما أسلفنا فإن الدولة مسؤولة عن تقديم الخدمات للشعب الذى انتخبها من أجل ذلك، الأمر الذي يدفعها لإسكات المطالبين بالتزامتها عبر الوسائل المشروعة وغير المشروعة خاصة القوة. ولوفاء الدولة بالتزامتها تقع بين خيارين الأول أن تصد ما يمكن صده من آثار العولمة السلبية من المس بسيادتها عبر حماية اقتصادها والمساهمة في التنمية لرفاة شعوبها وحفظ كرامتهم، الأمر الذي يقع فيه صعوبة للارتباطات الاقتصادية مع العالم الخارجي إما ديوناً خارجية وإما التزامات عبر الاتفاقيات الدولية التي تقيدها الأمر الذي مؤداه أن تتركز وتزيد تركيز اقتصاديات ثروتها في ظل الفئة الحاكم ومن لف لفيفها، وهذا كله يؤدى إلى جزء من انهيار الاقتصاد الوطني.
أما الخيار الثاني والذي يقع معقولاً وأكثر عمليا هو أن تجه الدول إلى تخفيض الإنفاق على كثير من نواحي الحياة من خدمات أساسية، وأن ترفع الضرائب على المشروعات الصغيرة التي تملكها نخب الاجتماعية وبقصد أو بدون قصد لا تتأثر النخب المسيطرة من رؤوس الأموال والاقتصاديين، حتى ولو شعر هؤلاء بنوع من الضيق أو التهديد من سلوك الدولة فان الحدود مفتوحة أمامهم فيعبرون بأموالهم إلى بقعة جغرافية أو دولة أخرى دون أدنى مشقة، لذا فإن الدولة تحاول ألا تمس هذه الفئة لأنها تعتمد عليهم في كثير من امتيازاتهم المالية، ويقع التضييق على الفئات الاجتماعية الأقل حظاً اقتصادياً، ما يؤدى إلى الفقر والبطالة وكثير من الاشكاليات.
كما أن العولمة قد تضعف الحكم، وتجعل بعض أدوات السياسة غير فعالة، وثمة إدعاءات في بعض الدول النامية بأن بعض الشركات الأجنبية تلجأ إلى الضغط خلف الكواليس والرشوة للحصول على امتيازات معينة في مجال الاتصال والتعدين على سبيل المثال.
ومع هذا كله وبأساليب متطورة أحياناً تأتي الدولة وتفرض عجزها الاقتصادي على هذه النخب بطرق إبداعية مثل القوانين الخاصة بالاستثمار والتسهيلات التجارية، والتي تؤدى لإعدام أى محاولات للعيش الكريم للفئات المقهورة، وأحياناً بموجب ما تحمله من سلطة تقوم بآلياتها بمسك زمان الأمور في مواطن حياة هذه الفئات وباستخدام العنف المشروع الذي يخولها باعتبارها سلطة شرعية تملك الدولة بثرواتها وبصفتها وكيلة عن الشعب بإدارة حياتهم.
ويجب هنا أن نشير إلى فكرة العنف المشروع للدولة، "فالدولة وحدها تحتكر العنف وأدواته ضد الأخرين، وهؤلاء الأخرون هم مواطنوها، وهو احتكار مشروع من أجل حفظ النظام العام وإنفاذ القوانين، وسيمارس من أجل جلب الشرعية للدولة أمام أولئك الرعايا، ولايكون ذلك إلا عبر الاخضاع من خلال مزيد من العنف، هذا التبرير لاستعمال العنف وحصر شرعية ممارسته بالدولة ربما يعود إلى ميكافيلي الذى نصح كل أمير بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع، ويتفق معه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر من خلال تأكيده، أن الدولة باعتبارها تجمعًا سياسيًا غير قابلة للتعريف إلا من خلال العنف، فالعنف المادي يعتبر الوسيلة الوحيدة التي تسمح للدولة بممارسة سيادتها، وبدون العنف ستعم الفوضى.
كما يؤكد أن الدولة تملك الحق في استعمال العنف، فهو إذن عنف مشروع لا يمكن أن يمارسه أي فرد دون موافقة الدولة.
إن الفئات الحاكمة المستبدة طوّرت شكلاً جديداً ومتطرفاً من العنف يمكن وصفه بالقسوة، وبهذا المعيار تمثل القسوة حالة نوعية حتّى بالقياس إلى عنف الحروب. ومثال على ذلك، أنّه في الحرب قد يكتفي الجيش أو القائد المحارب بتدمير دفاعات العدو لتسهيل إلحاق الهزيمة به. أما في حالة القسوة، فلا يكتفي الجيش أو القائد المحارب بهزيمة العدو، بل يتطلّع إلى تدميره وإفنائه. وكثيراً ما لا يكتفي المستبدّ الجائر باعتقال أو محاكمة المعارضين السياسيين والاكتفاء بسجنهم، وإنّما يوغل في قتلهم والتمثيل بضحاياه وتحطيمهم ذاتياً. كما أن لجوء السلطة إلى ممارسة القهر السياسي ليس تعبيراً عن القوة – أو عن فائض في القوة- لديها كما قد يظن، وإنما هو بالعكس تعبير عن مقدار ما تعانيه من عجز في القوة” والعجز هنا ما وصلت اليه الدول من ضياع لاقتصادها بين التماشي مع الاقتصاد العالمي بفعل العولمة وبين عجزها عن تلبية طموحات شعبها ورفاهه.
بالعودة إلى الهاجس الديمقراطي التي يسود الخطاب الرسمي اليومي لدى الجميع في العالم، وهي إعلان الشهادة بممارسة الديمقراطية على الملأ لجلب استمرار المساعدات من الدول الغنية الكبرى في العالم، الأمر الذي نشكك بمصداقيته، والذي يكون على حساب الحياة العملية للشعب، والتساؤل هنا كيف يمكن الفصل بين المستويين الاقتصادي والسياسي وهل الديمقراطية هي الإدارة الحديثة للسياسة والسوق هي التي تختصر الإدارة الرأسمالية للنشاط الاقتصادى، وهل يلتقيان أم يتفرقان؟ الأمر الذي يعني أن المسلمة السائدة اليوم أنهما يلتقيان باعتبار أنهم يولدان مع بعض، فالديمقراطية أداة حكم تقتضي إدارة ما يملك الشعب من ثروات اقتصادية وتدبير حياتهم المالية عبر السوق المتوفر.
حسب الاتجاهات السائدة في العالم والتي تنم عن تصرف منطقي للدول في مواجهة العولمة، يمكن تلخيص ذلك بإتجاهين اثنين، الأول اتجاه جامد والثاني إتجاه مرن، وهذا الاجتهاد ليس نهائياً فيمكن أن يكون الاتجاه الثالث هو الوسطي بين المرن والجامد هذا من جانب سلوك الدول في مواجهة العولمة، وهناك اتجاه آخر يمكن أن تتحكم وتحاول السيطرة عليه الدول وهي الحركات الاجتماعية التي تنشط في العالم ضد العولمة وارهاصاتها على الشعوب.
ولأن البحث لا يتسع لتفحص كيفية تشكل الأنظمة الديمقراطية المفضلة لدينا عبر فحص ركائز أي نظام ديمقراطي سائد اليوم أو ما يمكن أن نقترحه كوصفة لمواجهة العولمة، سنبحث في الخيارات الأخرى، بفحص إمكانيات الدول الموجودة اليوم بين اتجاهين، بين اتجاه الجمود والذي يعني عدم استطاعة الدولة بمقوماتها مواجهة العولمة والانجرار وراء اغراءاتها دون أى ساكن نحو مقاومتها وهنا يمكن أن يدخل الاتجاه الثالث من الحركات الاجتماعية التي تقاوم هذا التوجه، والاتجاه الآخر المرن الذي يسعى لمواكبة العولمة من خلال الانجرار ورائها وبنفس الوقت يبحث عن مساحات للتنصل من شباكها باعتبار الانجرار وراء العولمة لا مناص منه. ونقصد بالجمود هنا أن تقوم الدولة بكامل سيادتها بتجاهل إشكاليات العولمة وعدم القيام بأي اجراءات للتعامل معها وتكتفي في الصيرورة باتجاه مواكبة هذه المنظومة، وترك جغرافيتها وثرواتها تنهش من قبل أدوات العولمة على حساب شعبها خاصة الفقراء والمهمشين منها ويسود هذا الاتجاه السائد في دول العالم الثالث الذى أدى إلى غربة واضحة بين المجتمعات والأنظمة التي تحكمها الأمر الذى يهدد باستمرار توسع الهوة بينهم، والاتجاه المرن الذى نطرحه هنا أن الدولة تدرك تماماً مخاطر العولمة وما تمثله من تحديات تقع بالسلب عليها ومبادرتها باتخاذ كافة السبل لمراعاة هذه الإشكاليات والتغلب عليها.
هناك اتجاهات عديدة تسود العالم باتجاه العولمة، بين الاستجابة أو عدم الاستجابة لاشكاليتها من ناحية ردود الفعل تجاه الاشكاليات التي يمكن التي يمكن أن تسببها العولمة، فهناك أنماط استجابة للاشكاليات البنائية الناتجة عن العولمة مع مراعات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وبناء على ذلك تنتج أنماط مختلفة، منها نمط إعادة الهيكلة للنظام بشكل تدريجي مثل ما يحدث في بريطانيا من خلال نقل بعض الصلاحيات للسلطات المحلية مثلاً، ونمط آخر هو إعادة بناء الهياكل التقليدية للنظام السياسي كالنموذج الأمريكي والذي يقوم على اللامركزية السياسية وخفض الموازنات لبعض المؤسسات في مقابل تطوير أدائها ودمج البعض الآخر لتحقيق نفس الأهداف، نموذج إعادة الهيكلة الجزئية من الداخل بالاعتماد على الانتخابات وتغير النخب الحاكم عبر انتخابات دورية تؤدي لتغير في السياسات الاقتصادية كالنموذج الألماني. وأنماط أخرى أهمها نمط اللامركزية الاقتصادية والمركزية السياسية كالنموذج الصيني البارع والذي لا داعي لتفسيره هنا لشهرته وأهميته على الصعيد العالمي والذي يعتمد بالأساس في عمله على نقل سلطات اقتصادية واسعة إلى الكثير من المقاطعات التي شكلت عواصم اقتصادية بحد ذاتها، والنمط الأخير المهم هنا هو نمط رفض الاستجابة لإحداث أي تغير بنائي في نظامها السياسي والذي انعكس بنتائج مختلفة باختلاف الأنظمة السياسية وطبيعتها والتي أدت في بعض الحالات إلى اشتداد الأزمات السياسية الداخلية والصراعات ونتج عن بعضها حروباً أهلية، والنماذج التي يمكن أن تنطبق على هذا المحور بعض الدول الأفريقية وكذلك يوغسلافيا.
وبالعودة إلى الإتجاه الثالث الذي يندمج في الاتجاهين الأولين وهو الحركات الاجتماعية التي تناضل لوقف تدفق مد العولمة المدمرة إلى المجتمعات والذي ينطلق في بنيته من المؤمنين بقضية الفقراء والمهمشين الذي فرمتهم العولمة وهمشتهم أكثر وأكثر، يقول جان بايار تحت عنوان "فئران المستنقعات" في إشارة إلى الفلاحين الفقراء الذي يتعبون لبناء الاقتصاد من أجل قوتهم اليومي في أفريقيا إن الدولة استأثرت بالعائدات لصالحها ولصالح أنصارها من خلال المؤسسات التسويقية والضريبية والأمر يسود في معظم البلدان في العالم من العالم الثالث مع مراعاة اختلاف طبيعة كل نظام وأدواته التي يمارسها لتحقيق الغاية من الكسب من هذه العائدات الزراعية لصالحه لسد العجز المتضاعف في اقتصاده بسبب بقايا الاستعمار من جهة والعولمة من جهة أخرى.
مارست الشعوب نضالات طويلة عبر التاريخ للتعبير عن رأيها في سبيل تأمين حياة كريمة لها وفي سبيل شعار الديمقراطية، وفي سبيل بناء أنظمة أكثر تمثيلية عبر صناديق الاقتراع، ولكن الديمقراطية نوعاً ما اليوم لا تخدم هذه الفئات فالديمقراطية أصبحت للنخبة، التي يلزمها ديمقراطية من نوعا آخر للاختيار بين الحكام والنخب المسيطرين على ثروات البلاد وبين الفئات المهمشة التي تخرج من أصلابها ثروات البلاد التي تبني اقتصاديتها المسلوبة بفعل العولمة.
لا شك أن من نتائج العولمة على الشعوب أنها توجد الانقسام بين فئات المجتمع بين الطبقات الفقيرة والغنية، وأن محاولات الدول لإجراء الاصلاحات لمواجهة أدوات العولمة تفضى إلى حالة استقطاب اجتماعى تؤدى إلى سوء توزيع الثروة ونتائج التنمية الاقتصادية، وبالتالى إلى زيادة الشقاق بين الفئات الاجتماعية والفروقات الطبيقة بين طبقتين الأغنياء والفقراء، وأن الفقـر يعـد من أكثر الأسباب الداعيـة إلـى تصـدع الأمـن المجتمـعي وضرب الاسـتقرار فـي المجتمع. ويظهر تقرير "عولمة المقاومة، أوضاع النضال" مجموعة من الأهداف والمجالات التي استهدفتها العولمة الليبرالية الجديدة، ومن أهمها بالطبع النفط، الذي يمثل تحدياً سياسياً واقتصاديا وبيئيا وجيوإستراتيجيا، والماء الذي يدخل أكثر وأكثر في إطار منطق السوق النيوليبرالي، فقد أصبح رهاناً عالمياً، وديون العالم الثالث التي تبدو كقمة جبل الثلج الذي يخفي آليات الاستيلاء على ثروات الجنوب لصالح اللاعبين الماليين التابعين للشمال، وسمحت الأوضاع الدولية خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2002 بتسارع التسلح العالمي وتدخلات القوى المسلحة الأميركية ومضاعفة مخاطر الحرب والتهديد بها".
وفي ظل الاهتمام البالغ لمناهضة إشكاليات العولمة في يومنا هذه دأبت الحركات الاجتماعية على النضال عبر محاسبة أنظمتها لما تفعله من صمت إزاء آثار العولمة الرأسمالية التي تجتاح الحدود وتسلب ثروات الدول، رغم محاولات الدول تطوير أنظمتها السياسية لتفادي خطورة وإشكاليات العولمة وعدم ملائمة طابعها الوطني مع قيم وخطر هذه المنظومة من ناحية ومن ناحية أخرى تجميع الثروات في جيوب المحسوبين على هذه الأنظمة.