القاهرة 09 فبراير 2017 الساعة 01:29 م
"لو متع السرير ابقوا احرقوا الجسد....ونطوروا رمادى ع البيوت....وشوية لبيوت البلد....وشوية ترموهم على تانيس....وشوية حطوهم فى إيد ولد ....ولد أكون بُسُته .. ولا أعرفوش...."
• هكذا كتب وصيته قبل أن يرحل . و لم ننفذها ..عاش وغنى ومات مع جنياته قبل أن يحملنه إلى بحور البقاء الأبدية بعد أن ظل غارقا معها فى بحور الشعر ...هو الصديق سيد حجاب الذى رحل فى يوم عيده الذى حلم به وصاغ شهادة ميلاده فى دستور مصر .. أقصد يوم 25 ينايرالذى حلم به مع ملايين المصريين منذ سنوات طويلة وهم يشاهدون تخلفا مقصودا لوطن لا يليق به ، ومرضا ووجعا لاهله وصل لمدى لا يحتمل، وفقرا وعوزا أصاب نفوس أهله قبل جيوبهم ، وبطالة أجبرت أولاده على الجلوس فوق دكة الاحتياطى فى عز شبابهم وعواجيز يحلمون بقبر عز الحصول عليه : -
“خليك هنا وحاسب....جبال المغماطيس ....خليك شديد مهما يكون الليل غطيس.... ”
• وجاء معنا ومع الملايين إلى ميدان التحرير وميادين الثورة حين اختلط الحلم والأمل بالهتاف واليقين بفجر جديد ، وكان للمخاض ثمن ، ولم يفرق رصاص الغدار بين أبناء الحلم الواحد :
“ماتت غناوي فرحة البنّية ....لا المسلمين صلوا علي قبرها ....ولا النصاري صلصلوا بالجرس....ولا حوطت جسمها المنهوك ....بنادق الحرس....يا ويل بلد بيضيّع المقتولين ....يا ويلكم .. وبصوا....دمي فوق كفكم....ح يزفكم بالدم .. متجرسين !”
• لذلك كانت مصر كلها هنا فى عمر مكرم فى قلب ميدان التحرير .. لم يقف شقيقه الأديب شوقى حجاب يتلقى العزاء مع ابنة عم سيد وزوجته وحدهم بل وقف أهل مصر برموزها فى الفن والأدب والفكر والسياسة يتبادلون التعازى .. الكل يشعر بالفاجعة والدموع متحجرة لأن السكين سارقة الجميع ، هنا لا فارق ولا عزل بين رجل وامرأة أو شاب وعجوز.. الكل معه ذكرى أو موقف ، أو سكن فى بيت من شعره وعاش فيه ومعه :
"ولو أموت .. قتيل – وأنا من فتحة الهويس بافوت -ابقوا اعملوا من الدما حنة....وحنوا بيها كفوف عريس....وهلال على مدنة....ونقرشوا بدمى.... - على حيطان بيت نوبى تحت النيل – اسمى"
• رحل بعد أن حفر مكانا بأشعاره فى قلوبنا جميعا منذ بدأ فى الستينات من القرن الفائت حين جاء بجنياته إلينا من بحيرة المنزلة ليتقابل مع القادم من صعيد مصر ب"عبله وطينه" اقصد عبد الرحمن الأبنودى ليلتقيا معا فى محراب صلاح جاهين وليفترقا بشكل عنيف فى نهايات العمر ...البداية بالدقهلية في 23 سبتمبر 1940.. هناك بالمطرية بالقرب من بحيرة المنزلة ، ملهمته بجنياتها وبأغانى الصيادين التى شكلت ديوانه الوجدانى الأبدى :
“الشمس فاكهة الشتا ...الحب .. فاكهة الربيع....مين يشتري حكمة حياتي الميتة ....ويردني رضيع ؟”
• كان والده بمثابة المعلم الأول له في عالم الشعر، البداية في جلسات المصطبة الشعرية حول الموقد في ليالى الشتاءالباردة وما أدراك البرد فى بيوت نائمة حول البحيرة .. يتابع الأب والصيادين وهم يتدفأون برداء الشعر من البرد" الرصاص" الذى يعرف مقصده فى العضم ، ويعزفون بموسيقاه ويبحرون بصوره وحكمه فى بحار الليل الممتدة إلى آذان الفجر ، وكان الفتى يجلس مشدودا باذنه وقلبه "الأخضر" ، وبيده الرقيقة يدون كل ما يقوله الصيادون ، و بعدما تنفض الجلسة يبدأ هو فى تقليد ماسمعه ويحاول محاكاتهم ، وكان يخفى ما يفعله عن والده خوفا من حرمانه من الجلوس مع الكبار ، حتى تجرأ ذات ليلة وأطلع أباه على أول قصيدة كتبها عن شهيد باسم "نبيل منصور".. وكانت المفاجأة تشجيع والده على الإبحار فى بحور الشعر .. فهى أرحم على أيةهحال من الغوص مع الصيادين فى غياهب بحيرة المنزلة ..
" مين دى اللى ماشيه ع الشطوط بتنوح؟! ... مين دى يارجاله؟! .. أم الشعور ... محلولة لكعوبها ....أم القدم حافية.. وعمالة.. ... ينقل تراب الشط ديل توبها... مين دى؟! .....أهيه قربت.. اها.!! ...أيوه عرفتك أه.. يا جنيه ...صياد أنا والبحر يعرفنى ... مهما يصرخ لم يخوفنى...عارفه.. دا ابويا.. ... وخطوته فى الخير ومرجوعه...ليا.. بايد حنيه.. ..... ويطبطب على قلوعى...مرجوعه أبويا ليا.. ... .. وانا لابا مرجوعى...صياد انا.. ... صياد انا والبحر فى ضلوعى ...والموجه ناى.. ... فى الليل يونسنى...وناس يا ناى الموج.. ياأناته ... سمعنى عن بحرى.. وغنى لى حكاياته ..."
• وبدأت المفاجآت تتوالى ... حين دخل المدرسة كان فى انتظاره المعلم الثاني وهو شحاته سليم نصر مدرس الرسم والمشرف على النشاط الرياضى والذي علمه كيف يكتب عن مشاعر الناس في قريته...وترجم ذلك وظهر بوضوح فى أول دواوينه" صياد وجنية " وتوالى النهل من معين وبئر البحيرة والصيادين الذى لا ينضب :
"-الشاب حب .. وخاوى جنيه ... طرح الشباك بالليل.. طلعت له....بعيون ملاليه ... بجفون هلاليه....بكفوف محنيه ... رقصت على فلوكيه وغنت له....دندن بمجدافه على الميه ... شاف النجوم..لعنيه مطاطيه ... فى البحر مدت يد.. وادت له بالقلب ودت له ... بالشفه مدت له....الخير بايدها الحلوة وادت له ...."
• عرفته قبل أن أراه وغنيت معه على حنجرة على الحجار وعفاف راضى وعبد المنعم مدبولى لكن تأخر اللقاء الشخصى سنوات وحين بدأت المشوار الصحفى وقف الأبنودى بشكل لا مرئى فى طريق اللقاء و تكرر الموقف الأبنودى ايضا من الالتقاء مع أحمد فؤاد نجم... نعم لم تكن هناك فرمانات أبنودية مباشرة ، لكن كانت اللقاءات والجلسات معه فى القاهرة والمحافظات تشى بذلك وعرفت منها و من الأصدقاء أن الثلاثة لا يطيقون بعض ولا يجتمعون فى مكان واحد ... لماذا ؟ ... الإجابات غائمة من الثلاثة ولا تقنعنى ، وفى إحدى المرات تجرأت عندما جمعتنى إحدى السفريات الطويلة مع سيد حجاب أن اسأله بهمس وأنا جالس بجواره لماذا لا تحب الأبنودى؟ ... صمت وبدأ يسرد حكايات لم تقنعنى ... وحين عدت من السفر وفى أول لقاء جمعنى مع الأبنودى سألته نفس السؤال ... وكانت الإجابة غير مقنعة لى .. لكن الذى عانيت منه أننى كنت محسوبا على الأبنودى للدرجة التى قالها لى سيد حجاب وأحمد فؤاد نجم مباشرة مع فؤاد قاعود : بأننى أبنودى الهوى .. ورسخ من ذلك دفاعى الحار عن الأبنودى وشاعريته فى كل محفل ومجلس ونشرى لكل قصائده الجديدة فى العدد الاسبوعى للجمهورية، وللأمانة كان يفضلنى عن الكثير من الأصدقاء من كبار الصحفيين ورؤساء تحرير بعض الصحف للصداقة بيننا ولنجاح صفحة نادى أدباء الأقاليم التى كنت أشرف عليها ... المهم ظلت العلاقة فاترة على المستوى الشخصى مع نجم وحجاب حتى وخزنى ضميرى المهنى عن خسارتى الصحفية والإنسانية أيضا إذا لم أصاحب ضلعا مثلث العامية المصرية نجم وحجاب مثلما هو الحال مع الأبنودى ، و ساقتنى الأقدار ودبرت بعضها للقاء فؤاد نجم وأكثر من لقاء مع حجاب ونشرت لهم قصائدهم وحوارات معهما فى الجمهورية تارة أو بأحاديث ودودة عبر التليفون معهما أو بالتسجيل بالفيديو وكان الأبنودى يدارى انفعاله أحيانا و يرمى ببعض كرات اللهب فى أحيان أخرى وكنت أرد عليها بسخرية شديدة ترطب الأجواء كثيرا : من عينة والله سيد حجاب كتب تتر مسلسل هايل أو له قصيدة منشورة وهكذا ، ولا انسى أننى تعرضت لحرج شديد مع الأبنودى حين استشهدت فى مقال لى بمقطع من تتر مسلسل أبى العلا البشرى :
"لو مش هتحلم معايا....مضطر احلم بنفسى....لكنّى فى الحلم حتى....عمرى ما هأحلم لنفسى... "
واشدت ب سيد حجاب باعتباره صاحب الأغنية من وجهة نظرى باعتباره جو حجاب الشعرى بلا مواربة.. وبعد نشر المقال فوجئت باتصال تليفونى
من الأبنودى يشيد فيه بمقالى واستشعرت أن هناك مقلب ما لأنه لا يعقل أن يشيد بمقال استشهد فيه بمقطع لغريمه سيد حجاب ، وكانت المفاجأة قوله أنا مبسوط إنك معجب بهذه الأغنية وأضاف ساخرا ورغم أنك معجب بها لأنك تصورت أنك بتغيظنى إلا اننى اغيظك واقولك انا فرحان باعجابك لأن الأغنية بتاعتى ...وقهقه قائلا: فرحتنى من حيث لا تريد .. والحقيقة ظننت أنه مقلب أابنودى لكنه أقسم ولم يكن وقتها النت وجوجل موجود للتأكد ، وبعدها ذهبت لأرشيف الجمهورية وبحثت حتى تأكدت من صدق الأبنودى فاعتذرت فى مقال الإسبوع الذى يليه لكن مازالت ضحكاته الشامتة ترن فى أذنى حتى الآن ....
ومن عجائب القدرأن الثلاثة تخاصموا فى نهاية حياتهم ومع ذلك رحلوا وراء بعض فى تتابع غريب وكأن الحياة لم يعد لها طعم بدون مناكفتهم لبعض :
“يا أصحابي عجّزنا كده ..قبل المعاد !.....يا أصحابي ما تبكوش علي كتوفي ....بقول ....أنا عمري ماكنتش جمل صلب ....اسمعوا....أنا مكنتش يوم شيال الحمول ....اتعتعوا ....ووسعوا لي ف صدركم حتة عليها انحني ....وأقول كلام بيهزني ....بيغلي جوايا ونفسي أطلعه....يا أصحابي .. لا .. متوسعوش ....ليا أنا ....داحنا يادوبك كل واحد مننا بيقول كلامه ....وهو برضو يسمعه ....يا أصحابي آه .. حتي الجمل ....بما حمل ....ميّل .. ونخّ”
• نعم سيد حجاب كان الأكثر ثقافة وتنظيرا نقديا و ساعده فى ذلك التحاقه لدراسة الهندسة فاكتسب من هذه الدراسة التفكير العلمى لكن انضمامه للسياسة وللتنظيمات السرية فى الستينات حجز له مكانا فى سجون عبد الناصر، لكن السؤال الذى لم أحصل على إجابة له أو تبرير يقنعنى منه ومن كل أبناء جيله لماذا يعشقون عبد الناصر وظلوا أوفياء له بعد مماته بعشرات السنين رغم أنهم نزلوا ضيوفا على سجونه ؟ ... اعتقد أنه الحلم الذى شاركوه فيه وصدقوا أنه حاول تحقيقه وهو ... مكانة مصر كما تستحق ومقام شعبها كما يستحق :
“من انكسار الروح في دوح الوطن.....يجي احتضار الشوق في سجن البدن....من اختمار الحلم يجي النهار....يعود غريب الدار لـ أهل وسكن....ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء....وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع....أقسى همومنا يفجر السخرية وأصفى ضحكة تتوه في بحر الدموع”
yousrielsaid@yahoo.com