القاهرة 07 فبراير 2017 الساعة 05:27 م
نسيج الأصوات والانفعالات والرؤى فى شعرية «العم سيد»
صفحة مضيئة معجونة بماء النيل والبحر، حكاية مصرية عنوانها صاحب «صياد وجنية ، إنه المبدع سيد حجاب، بدأ رحلته مع الحياة من «المطرية ــ دقهلية» إلى الإسكندرية حتى حط به الرحال فى القاهرة العامرة ، حمل العديد من الألقاب من شاعر الأطروحة عندما كان طفلا، وشاعر الصيادين الذين عاش بينهم فى بحيرة المنزلة وبحر اسكندرية، أطلق عليه الدكتور محمد مندور شاعر الهندسة حين هاجر طالبا إلى هندسة القاهرة ثم بدأت انطلاقته إلى حضنها الواسع عبر مجلة الرسالة، التقى مع بيرم التونسى وصلاح جاهين وعبد الوهاب البياتي خلال مشواره فى عالم الكلمة ، لا زال لمفرداته مذاقها الخاص خاصة حين اختلطت بمعارك مصر فى السد العالى والسويس وبعرق العامل والفلاح، وامتزجت فى أعماله «سر السحر وسحر الشعر» حين أصدر ديوانه الأول «صياد وجنية» عام 1966، والذى يحتفى الأهرام اليوم بمرور 50 عاما على صدوره بهذه الشهادة التى خصنا بها الناقد الدكتور محمود الحلواني ..
مشاركة في الاحتفال بمرور خمسين عاما على صدور ديوانه الأول « صياد وجنية « ، وقد دعتني لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة للمشاركة بشهادة حول تجربته الشعرية، في احتفاليتها التي أقامها المجلس الأربعاء 16 نوفمبر 2016 ، ولما كان الوقت المسموح اقل من أن يتسع لشهادتي ، فقد رأيت أن أنشر مقالي هذا عنه هنا في « الأهرام اعترافا بأستاذية رائد كبير من رواد شعر العامية المصرية ، الذين خاضوا المعارك ، من أجل أن يمهدوا لنا الطريق ..
................................................
شعرية سيد حجاب كما تتجلى فى قصائده تتسم بعدد من السمات التى لا يمكن أن يخطئها القارئ، نظرا لتميزها بالإلحاح القوى ودرجة عالية من التواتر والتكرار من قصيدة لأخرى .. لعل أولى هذه السمات وأهمها هو ما يمكن أن نسميه «الإشباع الصوتى الإيقاعي» ، ذلك الإشباع الذى يجعل سطره الشعرى ثقيلا وسميكا وممتلئا بالتفاصيل وعلاقات التقابل والتضاد، إلى الدرجة التى يمكن معها اعتبار كل كلمة بل كل حركة صوتية فى هذا السطر واقعة تتجادل صوتيا ومعنويا مع وقائع وأحداث صوتية أخرى على مستوى السطر كما على مستوى القصيدة بما يؤدى إلى توليد معان أكثر باطنية وسرية ومع ذلك (وهذه مفارقة) أكثر دقة و حضورا .. ذلك النسيج الصوتى الكثيف عند حجاب ينسرب إلى الحس مباشرة ، من قبل حتى أن يفكر القارئ فى ترجمة ما يقرأ إلى معان ودلالات، وربما قبل أن يلتقط جمالية تشكيل الصور الجزئية والصورة الكلية فى القصيدة .
تقول أصوات هذا النسيج قبل أن تقول دلالات كلماته .. الأصوات فى نسيج سيد حجاب الشعرى هى الصورة الشفاهية الأصلية للغة قبل أن تحولها الكتابة إلى «علاقات مرئية جامدة»حسب تعبير مصطفى ناصف أو إلى «عالم غريب» حسب تعبير أفلاطون (د. مصطفى ناصف .. نظرية التأويل) ، وهى ـ عندى ـ ترتبط بعدة خصائص أخرى تميز شعر سيد حجاب، منها :إنه يرتكز فى تشكيل تجربته على ما يمكن أن نسميه «الخيال الانفعالى «حيث يشتبك حجاب مع « موضوعه» ـ إن جاز لنا الحديث عن موضوع ـ بانفعاله ، فيقوم هذا الانفعال بترسيم حدود تجربته الشعرية خالقا بيئتها الصوتية وأجنحتها التشكيلية وأفقها الخيالى وباطنها العاطفى . انفعال «حجاب» يمسك بالعالم ويستقر به فى أصواته النشطة المتحركة ، ليدور معه الخيال ملامسا أبعاد تجربته الشعورية فى تماساتها المجربة بالعالم الخارجى . لا ينطلق خيال «حجاب» سعيا وراء تشكيل صور مفارقة للحس مهما تكن طرافتها، لا يجرد، ولا يشكل فى فراغ . نستطيع كذلك القول أن الانفعال الحاضر بقوة فى تجربته يجعل خياله «أيقونيا» يجسد، وليس خيالا «إشاريا» يومئ إلى شيء خارجه ويحيل إليه .. وهو ما ينعكس على الكلمات والأصوات التى تتحول معه إلى الأيقونية بالتبعية . ولعل هذا يصلنا ،أيضا، بـ «الخيال المادى» الذى «يميز» غاستون باشلار «بينه وبين «الخيال الشكلى» من حيث فعاليتهما فى الطبيعة وفى العقل الإنسانى : فى الطبيعة يخلق الخيال الشكلى كل الجمال غير الضرورى داخل الطبيعة ، مثل الأزهار. فى حين أن الخيال المادى يهدف إلى عكس ذلك ، إلى إنتاج ما هو بدائى وخالد فى الوجود . فى داخل العقل الإنسانى يكون الخيال الشكلى مغرما بالطرافة ، والجمال الفاتن، بالتنوع وبالمفاجآت فى الأحداث ، بينما يتركز الخيال المادى على عناصر الديمومة فى الأشياء. الخيال المادى فى الإنسان وفى الطبيعة يفرز بذورا ، وفى تلك البذور يكمن الشكل بعمق فى المادة ( مقدمة إتيان غلسون كتاب «جماليات المكان» لغاستون باشلار)
والمادة التى يكمن فيها الشكل فى شعر «حجاب» هى نسيجه الصوتى الكثيف ذاته ، بما يحمله هذا النسيج من مواد ذائبة هى ما تبقى من احتكاك ذاته بالعالم . فالشكل ليس برانيا أو مفروضا من الخارج، وليس قيمة هندسية خطط لها الوعى المجرد، ولكنه الثمرة التى تتفتق عنها الأصوات وطاقاتها .
أحفظ قولا ولا أذكر قائله يعرّف الشعر بأنه» روح تتفتح شكلا «، ولعلنا نزعم هنا أن ما سبق يمكنه أن يعيد تعريف تلك الروح و يصلنا بها أكثر وأعمق
وفق هذا التصور يمكننا ملامسة النسيج الشعرى الكثيف الذى يميز تجربة سيد حجاب فى مجملها بداية ـ ربماـ من «صياد وجنية» ديوانه الأول الصادر عن دار ابن عروس 1966والذى تأكد بشكل أكثر وضوحا وإلحاحا فى أعماله الكاملة التى تضم ثلاثة دواوين وهى : فى العتمة، أصوات، ونص الطريق. الصادر عن دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع فى 1987 ، وهو ما نلمح ظلاله أيضا ، وإن كان بدرجة أقل فى أغنياته للدراما التليفزيونية، لأسباب تتعلق بجملة الشروط المحيطة بكتابة الأغنية .
يهدى سيد حجاب أعماله الكاملة إلى صلاح جاهين وعبد الوهاب البياتى .. والفلاح المصرى المجهول الذى أبدع المأثور الشعبى .. ويضيف : منهم تعلمت أن أخطو على عتبات عالم الأصوات ، حيث يختلط سر السحر .. وسحر الشعر . هذه الإشارة التى تؤكد وعى حجاب الأرهف بالأصوات ورهانه عليها بوصفها
حاملة « سر السحر» و«سحر الشعر»:
« كلمايتى .. غنمايتى .. عصايتى .. آيتى .. رايتى .. سرايتى ..
قمرايتى .. جمرايتى .. مرايتى .. تمرايتى ..منجايتى ..
كمنجايتى .. رحايتى !
كلمايتى .. بدايتى .. دايتى .. مشايتى .. ربايتى
كلمايتى .. غايتى .. نهايتى .. حفرايتى !
الكلمة هنا لا تشير إلى، بل تحل بدلا من المشار إليه لتردم المسافة بينهما وتتحول إلى « أيقونة «.
هذه الأهمية التى يوليها حجاب للكلمة وأصواتها وحالاتها تتضح كذلك فى قصيدته « الكذب» حيث نتعرف فى هذه القصيدة على الكيفية التى يتلقى بها الكلام، وكيف أنه يمتلك وعيا رهيفا بأحواله وتجلياته ، إلى الدرجة التى تجعله قادرا على قياس درجات صدق الكلام أو كذبه، يقول :
«كلمتها على شفتها كانت زاهيه زى النقش»
« كلمتها على شفتها كانت هايشه زى القش»
هنا يميز حجاب بين الكلمة «الهايشه زى القش « والكلمة « الزاهيه زى النقش « ، كما يتضح أيضا قدرته ،من خلال حركات الأصوات، على فضح الحقائق الكامنة خلف ما هو معلن ، فيميز بين الضحكة الحقيقية وبين فحيح الحية المتقنع :
«كانت ضحكتها بتتلولو زى الحيه «
كما يميز بين أصالة الكلمة وبين صدورها عن اللعب، والحيلة :
«قالت .. والكلمه ف شفايفها .. زى الكوتشينه ف إيد الحريف ممدودة»
وتقربنا « الكلمه اللى زاهيه زى النقش « من المنحى الأيقونى الذى يسم أسلوبية حجاب فى تشكيله لعالمه الشعرى معتمدا على الحضور البارز للأصوات إلى جانب اغترافه من المعجم المادى الذى يضم الموجودات والأشياء ذوات الحضور الحسى والاستعمالى والإنسانى الأكيد، ليشكل منها نسيجه الشعرى ؛ حيث لا تكفيه المعانى المجردة ، كما ينأى ـ بوعى وقصد ـ عن القاموس الرومانسي، وهو ما يتضح منذ قصائده الأولى فى «صياد وجنيه»، يقول فى قصيدة « تلات أغنيات للشعب :
«ملعون أنا لو احلب الكلمه ..
من ضحكة النجمه
وانسى أغنى لضحكة الإنسان
فهذه الغنوة «الإنسانية / الأرضية» عنده ، هى وعلى الرغم من أرضيتها :
«أعلى من مخدة القمر
غنوتنا واد وبنت إيد فى إيد
مقبلين مبحرين
فى المركب اللى رايحه جايه م الصعيد «
هنا يتأكد انتماء الشاعر للـ «هنا» وكأنما يتجاوب إيمانه وينسجم مع مطالب الصامتين من بشر وموجودات بأحقيتهم فى أن يتكلم بهم ولهم وعنهم الشعر :
«ياشاعر املا شعرنا بعمرنا
داحنا هنا .. إحنا هنا .. هنا هنا «
ولابد أن يكون الشعر مؤثرا ، فعالا، يستولد الحياة من الموت ، كما يستولد الضحك من البكاء :
« الشعر ضحكه من بكا
ياريح .. يابرق .. يامطر «
«الشعر غنوه للباب المصدى قفله لجل ينفتح»
و» لجل ان فى يوم نقطف زهور الحب والحديد «
لم يحتمل قاموس الشاعر هنا تركيبة لغوية قد توحى بالمجرد والبعيد عن «الهُنا» الحسى مثل : «زهور الحب» فأضاف إليها و»الحديد» لينتشلها من خيالها الرومانسى ويبقيها هنا فى الأرض ، ويجعلها تتويجا للعمل وللعرق .
لا يترك «حجاب» معنى مجردا يطل فى معجمه الشعرى دون أن يلفه بحضور قوى يجسده ، ويمنحه للحس طازجا وحيا وسط «زفة» درامية تضعه فى بيئة عمل وعلاقات تقارب أو تضاد تبرزه بقوة :
.. يقول فى قصيدة « الغل» :
« الغل فحل جاموس جوايا
فرعون فى حشايا
لاطفح فى وش الندل ولا اخلي
وارشق فى قلبه السل من غلى
وأهده بقوايا
واسقيه ليلاتى الحنضل المغلى»
يعتمد الشاعر هنا فى تجسيده لـ «الغل» الذى يمتلئ به على قوة الإيحاء التى تحققها مفردات ( فحل جاموس ـ فرعون فى حشايا) وكذلك على سلسلة الأفعال العنيفة والسريعة التى يدفعها هذا الغل باتجاه النذل : ( لاطفح ـ أرشق ـ أهده ـ أسقيه ) وتنبنى الصورة الشعرية لدى سيد حجاب كثيرا على تلك الاستمرارية التى تمنحها سلاسل معطوفات الأفعال والأوصاف محولة المعنى إلى وجود بارز، لا شك فيه، وهو ما يمكن أن نسميه «التعالق الأيقونى» حيث تتساند العلاقات وتتعالق الدوال، مشكلة صورة ذات أبعاد داخلية وخارجية شديدة الحضور .. فهو لا يوحى بالمعنى ويمضى خفيفا ، بل يظل يشبعه صوتيا وتشكيليا وكأنه يستقصى أبعاده وظلاله الكثيفة .. انظر مثلا فى قصيدة تلات كوابيس وحلم :
الضى مطفى .. مخفى .. تحت خطوة الحرس
العتمه .. والخوف .. والخرس
بيوت وخلق طيبه بيغرقوا ف وحل الجـُرس
فرسان بيدّاروا ف شقوق
صبايا فى السكك بيبيعوا زهرة الصبا
دوامه سودا مزعببه
خنوق .. حسى ولا صهللة فرس ؟ «
واقرأ أيضا فى قصيدة «اتنين فى العتمة» :
«على نفس سرير أمى
على نفس الأرض النديانه
عريانه يانا .. أه يانا
زى الميه الحيه
زى الشمس اللى ف دمى
زى الأرض الشابه الخمرانه
الفايره المليانه ..
المولوده قبلى بزمان
اللى خرطها الخراط
وديان وجبال وتلال وغيطان « الخ
وفى نفس القصيدة :
« ـ على طرف لسانى .. التلج البارد واليحموم
ـ الخوف ملو الحلقوم
على طرف صوابعى المهزومه ..
يطرح شجر الزقوم
يسرح طير الأبابيل
يرمينى بحجاره سجيل
ـ على صرتى ..
يصفرّ الصبار السلـّي
والغل المسموم
ـ الشوك يتضفر فى عروقى
ـ الأفلاك المنظومه تتهاوى فوقى
أهرب واتاوى فى شقوقى
ـ تصرخ ع البعد بنات آوى
وتزوم الريح اللولاوه
وتحوم الغربان النواحه السفاحه .. والبوم» إلخ
فى هذه القصيدة ، كما فى الكثير من قصائد سيد حجاب ، تتجلى سمة أخرى من سمات شعريته وهى السمة الدرامية التى تستدعى فى ظلها السرد وتعدد الأصوات ، بما يفتح المجال واسعا لنمو الانفعال وحضوره الكثيف، وتعميق الأصوات وتأكيد ظلالها من خلال إشباعها بسلاسل الأفعال والأسماء والأوصاف والأحوال .لا يكتفى سيد حجاب بنظرة الطائر، بل إنه يسعى إلى «مسح» و ملامسة المكان والزمان، الأرض والسموات وما بينهما ،كأنما عليه أن يقدم جردا شاملا لأشياء وموجودات تزدحم بها اللحظة التى يلمسها بشعوره وانفعاله :
«أنا ابن بحر .. ابن بحر .. ابن بحر
وزى ما يلف الحنش كل البحور
ويدور مع أيام الشهور
ويدور مع شهور السنين
وبعدها يرجع على موجة حنين
زى الحنش ما يلف لفيت
زى ما يرجع رجعت
دقت الحياه جعت وشبعت ..إلخ
واقرأ فى اتنين فى العتمه :
« بافتح عنتينى على اللحظة ..
لحظه بسنين
ـ « ياصبيه اقلعى جسمك واطلعى «
باقلع .. باقلع
من غير جناحات اطلع واطلع
الهمس سلالم بتسلم للسما والشمس
الأمس المنسى بيترجـّع
اللحظه الشرحه البرحه حبلى ..
بالسموات السبعه والأراضين
العصافير الزرقا
البير الرايقه
الدير البحرى
المينا ..
قلع سفينه
نوح .. الطاغوت .. السكـّينه ..
هاروت ماروت.. إلخ
وكما قلنا يستند هذا الجرد أو المسح إلى وجدان نشط وانفعال حار وهو يتماس مع لحظاته ، فتنبع الرؤيا من الداخل إلى الخارج :
« بافتح شبابيك للنار الحُره فى مسامى
عرّيت دمى لشمس الشهوه اللوانه
خيل حمرا بتجرى فى عروقى
وش حبيبى شمس وشمسية من فوقى
فراشات الشوق المحمومه
بترفرف على طرف ودانى
وكلامى المدغوم المنغوم
عصافير مقصوصة الجناحين
بتقع وتقوم
مقطومه بين شريانى وبين طرف لسانى
ولعل علاقة الشاعر بالأصوات ووعيه بأهميتها فى تجسيد علاقات الذات وانفعالاتها بالأشياء ، حيث لكل انفعال لديه دبيبه ووقعه المميز، هو ما جعله يولى لعلاقات الحروف بعضها ببعض هذه المكانة الملحوظة فى مشروعه الشعرى، ويسند إلى كل حرف دورا فى تأكيد البيئة الانفعالية وتشكيل الأفق التصويرى المطلوب .. كذلك من الممكن القول إن الحرف يرتبط لدى الشاعر بصورة لحقيقة ما ،كامنة فى الحس، ويرى الشاعر ان عليه السعى ، بواسطة الحرف، إلى أن يحررها .. وربما أيضا تكون هذه الصورة/ الحقيقة هى التى تدفعه باتجاه الحرف البصير والعارف فتعصمه ـ بدورها ـ من المتاهة فى العالم :
«عيونك الزهزاهه .. لولاها.. كنت غرقت فى البلاده والبلاهه (...)
لولاها لا جريت ورا الحروف.. ولا بلغت منتهاها
وكما يؤكد الحرف انفعالا فإنه أيضا يفتح أفقا تصويريا:
ولنتأمل «حرف الحاء» هنا وهو يسبح فى الفضاء مصمما أن يفتح أفقا ممتدا لجناح الصباح ، وعازما على المضى قدما رغم كل شيء لإزاحة ظلام الليل والعتام .. فى أغنية عصفور النار :
جاى من ورا الليل والجراح
وسط الرياح فارد جناح
ياساحة الحلم القديم المستباح
ياواحة العيد البعيد .. الفل فاح
وانزاح ياليل .. ده الفجر لاح
ولا كل مين طال .. نال وطاح
ولا كل مين باح استراح
ولا كل شيء راح من إيدينا يبقى راح
ورا كل خنقه جاى صباح رباح براح
وانزاح ياليل ده الفجر لاح»
واقرأ أيضا على سبيل المثال :
«قلبى فتيل قنديل فى ليل الويل كليل»
إن كثافة النسيج الصوتى فى تجربة حجاب ، تقوم كثيرا بردم المسافة بين كلمات الأسطر وقوافيها، وتجعل منها ضفيرة أو سبيكة ، تتساوى فيها قيمة الكلمة ، من حيث جرسها الموسيقى، مع قيمة القافية وأهميتها.. ولا يمكننا أن نغفل هنا مهارات سيد حجاب الواضحة فى اللعب بالأصوات، وإمكاناته الواسعة التى استقاها ـ كما يقول ـ من الفلاح المصرى المجهول الذى أبدع المأثور الشعبي، وكما تؤكد استلهاماته من الموال وغيره . غير أن حجاب وهو يعيد إنتاج تلك المهارات فإنه يضيف إليها ـ بغير شك ـ تصورات ومهارات أخرى زودته بها ثقافته الموسيقية الواسعة ومعرفته بالقوالب والصيغ الغربية فى الموسيقى ، وهو ما ظهر فى معماره السيمفونى وحركاته فى « اتنين فى العتمه» وقصائده الطويلة بشكل أبرز ، كذلك تتجلى معرفته الخاصة بالأصوات من خلال علاقته المتميزة بالآلات وأصواتها فى ديوان «أصوات» الذى يستلهم فيه الشاعر الطبيعة الصوتية المميزة لكل آلة، وما توحى به للحس وللخيال، ثم يقوم بتشكيل معادل مرئى وانفعالى لهذا الصوت ، وكأن الشاعر هنا يطلعنا على سر السحر الذى تحمله الأصوات لتخلطه بسحر الشعر.. يقول فى « تقاسيم على الأرغول «:
لما باسمع حس أرغول جاى على»
عينى تسرح للنجوعه .. والكفور
تلمح الضى المدغمس وسط أشباح الكافور
قلبى يتلولو فى يد الحزن «
و..» حس مكتوم .. من بعيد
بير غويط فيه اللى فيه
فيه أسى فايض لغاية حوافيه « إلخ
ويقول فى تقاسيمه على الناى :
«الناى .. وحس الناى
لوّاى .. كأنه الصرخه فى حشاى
كما النخيل .. ممطوط
لما يسيل وسط الشطوط
رخيم كما الترتيل .. رحيم
كما النسيم النادى فى صهد الجحيم «
وهكذا ينقلنا «حجاب» عبر أصوات الآلات المختلفة إلى بيئات وانفعالات وخيالات متمايزة بتمايز هذه الأصوات بعضها عن بعض ، وهو ما يؤكد حساسيته الكبيرة تجاه الأصوات وطاقاتها الإيحائية كما يؤكد أن رهانه عليها فى تشكيل معجمه الشعرى ؛ الخيالى والانفعالى .. هو رهان مقصود ، ومدروس ، وليس مجرد لعب وزخارف .. بل توجه نحو الاستماع إلى أصوات الوجود والبوح بسر السحر .فى سحر الشعر .