القاهرة 29 يناير 2017 الساعة 02:00 م
زرتُ صديقــًا يعيش فى دارللمسنين تابعة لجمعية تحسين الصحة بالقرب من ميدان الرماية بالهرم . وتشاء المصادفة أنْ تكون زيارتى فى يوم حفل أقامته الجمعية للمسنين . علمتُ من صديقى أنّ الجمعية تُموّلها سيدات المجتمع الراقى وهنّ عضوات مجلس الإدارة. جلسنا فى الجنينه للتعارف والمسامرة حتى حان وقت الغداء. كان الغداء فى قاعة فخمة وطبقــًـا لنظام (البوفيه المفتوح) والطعام يرقى إلى مستوى فنادق النجوم الخمس.
بعد الغداء جلستُ أنا وصديقى فى الجنينه. جاءتْ السيدة مديرة دارالمسنين وجلستْ معنا. بعد وقت قصيراقتربتْ سيدة مسنة أقرب إلى الهيكل العظمى ، شاحبة الوجه منحنية الظهر. همستْ ببضع كلمات فى أذن مديرة الدارالتى حسمتْ الأمربكلمات قصيرة وقاطعة قالت لها ((إرجعى مكانك.. لإنْ لو ستات مجلس الإداره شافوكى هنا ح يلغوا استضافتك)) الهيكل الإنسانى المحنى ازداد انحناءً. تراجعتْ المرأة بظهرها. تأملتُ وجهها علنى أقرأ فيه أية انطباعات. وجدتُ صفحة بيضاء على جلد الوجه المتغضن . انصرفتْ دون تعليق أو حتى مجرد (تمتمة) من الشفتين البيضاوين المتشققتين .
صديقى (75 سنة) ممثل وكاتب مسرحى ليست له شهرة النجوم ، قال إنه حازعلى احترام وحب مديرة الدار وزملائه المقيمين معه. سأل صديقى المديرة ((هىّ كانت عاوزه إيه ؟)) قالت وهى تبتسم ((عاوزه تفضحنا.. عاوزه تدخل على الستات أعضاء مجلس الإداره ومعاها علبة ملبس.. آل إيه عاوزه توزع عليهم ملبس !!)) بعد أنْ انصرفتْ المديرة قال لى صديقى ((عارف الست العجوزه دى تبقى مين؟ دى بقى ياسيدى حفيدة زهران اللى الانجليزشنقوه هوّ وتلاته من الفلاحين فى أحداث دنشواى المأساوية عام 1906)) كدتُ أغرق مع ذاكرتى كى أستجمع ما قرأته عن جريمة الإنجليزضد فلاحى دنشواى ، تلك القرية الصغيرة فى محافظة المنوفية من أعمال مركز تلا فى يوم الأربعاء الأسود الموافق 13 يونيو1906 ، قطعتُ حبل الارتداد للماضى وسألتُ صديقى ((وإيه حكاية علبة الملبس دى ؟!)) شرد صديقى ثم تكلم وطعم المرارة فى فمه ((علبة الملبس اخترعتها حفيدة زهران لتحصل على أى دخل يُـلبى مطالبها.. عندما ترى الزوار من المجتمع الراقى تحمل علبة الملبس وتضع على حجركل سيدة (ملبسايه) فتمسك السيدة المتأنقة الملبسايه بأطراف أصابعها وتردها لصاحبتها ثم تفتح شنطة يدها وتُخرج ورقة نقدية تُقدّمها للمرأة التى تأخذها وتنسحب إلى سيدة أخرى وعلى فمها آيات الدعاء والشكر))
سألتُ صديقى : إزاى سمحوا لحفيدة زهران بدخول الدار، مع إنْ الست المديره خايفه من اقترابها من الستات عضوات مجلس الإدارة؟ قال ((السكن هنا مُقسم على ثلاثة أقسام. قسم ممتاز وهو أعلى سعر. وقسم (عادى) بسعرمنخفض. وقسم بالمجان. والسيدة حفيدة زهران تُقيم فى القسم المجان)) قلتُ إذا كانت تُقيم بالمجان.. فلماذا تلجأ إلى (حيلة) علبة الملبس؟ غضب صديقى وخاطبنى بحدة (( أنت تتكلم عن واقع لاتعرفه.. عن قاع المجتمع الذى لاتعيشه أنت ولا أعيشه أنا.. ماذا تعرف عن ظروف هذه السيدة لتحكم عليها.. الداربالفعل توفرلها الطعام والاقامة.. ولكن هل الحياة طعام وإقامة فقط ؟ من يدرى ظروف هذه السيدة ؟ إننى حاولتُ التقرب منها فكانت تلوذ بالصمت وتنغلق على نفسها. كانت تدفعنى رغبتان لتفتح صدرها لى . رغبة بريئة لمعرفة حياتها الشخصية. ورغبة براجماتية للإجابة عن سؤال شغلنى : هل حفيدة محمد درويش زهران آخرالمشنوقين على يد الإنجليزتعرف أى شىء عن جدها المشنوق المظلوم ؟ وهل هى حفيدته من جة الأب أم من جهة الأم ؟ وهل لها أشقاء وأقارب مازالوا على قيد الحياة؟ وما هى الظروف التى ألجأتها للإقامة بالمجان فى دارللمسنين ؟ ولماذا لم تحظ عائلة زهران وعائلات كل المشنوقين والمجلودين والمحبوسين من جدودنا الفلاحين على أيدى الإنجليز، برعاية ضباط يوليو52؟ أسئلة كثيرة لا أعرف لها إجابة .
رؤيتى لحفيدة زهران أطلقتْ قانون التداعى الحرمن محبسه ، وكان الخاطرالأخيرهو: لماذا لا تهتم الثقافة السائدة ولا الإعلام بالبحث عن أحفاد زهران، وكل ضحايا دنشواى؟ ولماذا لا يوجد فى مصرسيناريست أومخرج واحد يستلهم وقائع التاريخ كما فعل مخرجوالبرازيل وإسبانيا وأمريكا اللاتينية مثل فيلم (سبعة أيام من يناير) عن فترة حكم فرانكو، وفيلم (موسم الحرائق) عن إغتيال أشجارالمطاط لصالح الرأسمالية العالمية ومقاومة الفلاحين لهذا الاستعمارالجديد؟ هل يعجزخيال المخرجين المصريين عن الربط بين وجه حفيدة زهران ووجوه أحفاد خميس والبقرى؟ وهل العجزفى الخيال ، أم أنّ للعجزأسبابًا أخرى ؟